الكتابة على الورق هل تنقرض؟
“النقص في التدوين”، موضوع طرحه الطبيب والكاتب د. غالب خلايلي في مقال سابق، وكان الكلام الوارد فيه عاماً، ولكنه وعد بمقال ثان يتناول فيه التدوين الطبي الورقي والإلكتروني في أثناء المعاينة المرضية انطلاقاً من عرف قديم وهو أن يكون للمريض ملفّ ورقيّ يكتب فيه الطبيب أو مجموعة الأطباء ملاحظاتهم وخطة العلاج، ترافقها ملاحظات الممرضات. ولكن مع مرور السنين والتطوّر التكنولوجي، بات هذا التدوين يتمّ الكترونياً في ظلّ مخاوف من تعرّض المدونات المرضية الشخصية للتلف أو القرصنة…فإلى الحلقة الثانية التي يضيء فيها الكاتب على المخاطر المحدقة بهذا التدوين وبالتالي مصداقيته…
***
د. غالب خلايلي
التدوين الورقي قديم. وقد عرفتُ التدوين في الملفّات الطبية منذ أن كنت طالبَ طبّ، حيث رحتُ أتابع ما يكتبه الأطباء في الملفات الورقية، في مراحل المرض المختلفة (الاستقبال حتى التخريج)، ترافقها مجموعة كبيرة من الأوراق الوصفية والعلاجية والقانونية (مثل الموافقة على الإجراءات العلاجية..).
بديهي أن كل ذلك كان يتمّ باستخدام الحبر والورق، إذ لم أرَ الحاسوب في أي مستشفىً، لا أثناء دراستي (1978-1988) ولا حتى استقالتي من عملي الأول عام 1998 في مستشفى العين، وإن دخل الاستعمال المكتبي قبل ذلك، وتوفر منذ البدء في مكتبة كلية الطب (العين) لأغراض الدراسة والتصنيف والبحث.
أما عن أهميته فلا شك فيها، إذ يُعد الملفُّ (أو الطَبَلة) مستنداً علمياً وقانونياً، ففيه تكتب القصة المرضية (الأعراض والتاريخ الطبي والعادات..) وموجودات الفحص السريري، ثم تضاف نتائج الاستقصاءات المخبرية والشعاعية والتشريحية المرضية إن استُطِبت، وتكتب التطورات المرضية أولاً بأول، وكذا الخطة العلاجية، والاستشارات (عصبية، جراحية، عينية،…) حتى تنتهي الحكاية بالتخريج إلى المنزل أو إلى ما قدّره الرحمن.
لكن تبقى للكتابة عيوبها،
-وأوّلها، سوء خطوط بعض الأطباء، فعلاً أو قصداً (هناك من يفتعل سوء الخط)، تلك الخطوط التي يشبّهها بعضهم بخرابيش الدجاج، أو بالرموز (شيفرات) والأحاجي التي يصعب فكّها، وما ينجم عن ذلك من أخطاء كارثية، لا سيما عند الخطأ بقراءة الوصفة الطبية.
-ثانيها، علل التوثيق مثل الإسهاب بالوصف، أو الاختصار العجيب غير المتعارف عليه، وعدم التزام بعضهم بكتابة الاسم والتوقيع واستخدام الختم الخاص (الذي فُرض في مرحلة لاحقة)، وكذا رفض بعض الأطباء الكتابة من أصلها، خاصة عند إجراء استشارة خارج الاختصاص، وقد عانيتُ كثيراً من جراحين وغيرهم يرفضون كتابة كلمة واحدة، ويقولون: أكتب أنت، فإذا وقعت مشكلة ما، يتنصّلون من مسؤولياتهم.
-وثالثها، غشّ المعلومات (كتابة معلومات غير دقيقة)، كأن يكتب الطبيب (وهو في غرفته، والملفات معه) أنه شاهد المريض في ساعة كذا وكذا، ووجد كذا، وهو لم يره إطلاقاً في أي وقت (خاصة في آخر الليل أو بواكير الصباح وهو يريد أن ينام)، أو أنه شاهد المريض بالفعل ثم كتب شيئاً مخالفاً (أهمل التهاب أذن أو أضافه، أهمل نفخة قلبية ولم يسجلها)، أو أجرى عملاً جراحياً كاذباً (شقّ الجلد وخاطه دون جراحة للزائدة أو الرحم أو العظم..)، أو قام بعمل غير مستطب، برّره بالكتابة المضلّلة (سرطان منتشر لا يجب التداخل عليه..).. إضافة إلى كتابة نتائج فحوص طبية لم تجرَ (مزوّرة، ولا اعتمادية لها في المختبر)، أو إن المختبر نفسَه أرسل نتائجَ لفحوص لم يجرِها، أو قام المشرّح المرضي أو الشعاعي بكتابة تقارير كاذبة بالاتفاق مع زملائه (ناهيك عن خطأ القراءة عند غير العارف). المؤسف أننا بتنا نعيش هذه الحالات بكثرة.
هنا قد يكون الغش حلقة كاملة غالبا، فهناك من يتعاون مع الطبيب في الكذب والتزوير مثل الممرّضة قربه، أو الطبيب المخدّر الذي رافقه في العملية، والصيدلي الذي سجّل أنه أرسل الأدوية، والمحاسب الذي سجّل حساباتٍ وهمية (خاصة بوجود تأمين طبي، يتم استغلاله، والأدهى بوجود لاعبين فيه).
-ورابعها، ضخامة الملفات الطبية للحالات المزمنة مع الوقت، حيث يصبح وزنها ثقيلا، ويمكن أن تفلت أوراق منها أو تتمزّق أو تضيع، ليأتي طلب تلخيص الملفّ واجبا ثقيلا يفرضه المعلم على نفسه أو الأكثر على المتمرّن المثقل بالمسؤوليات، ومن ثم يمكن أن يكون الملخّص غير وافٍ ولا دقيق.

-وخامسها، حجم التخزين المطلوب للملفّات المتنامية حجماً وعدداً (تحتاج غرفا أو مباني أحيانا)، وصعوبة الحصول عليها عند طلبها.
-وسادسها، إمكانية تزوير الملفّات (بسحب أوراق أو إضافتها) وكذا ضياع الملفات أو تضييعها أو حرقها لأسباب جنائية.
من هنا فرضت السلطات الصحية شروطا صارمة جداً للاحتفاظ بهذه الملفات، مثل أن تحفظ في غرف خاصة مقفلة (بعيدة عن مصادر الاحتراق) لا يدخلها إلا المخوّل، وفي خُزُن مقفلة لا يفتحها إلا صاحب العلاقة، ولا يكتب على غلاف الملف من الورق المقوى أية معلومات (حفاظا على السرّية الطبية أثناء نقل الملف من غرفة إلى غرفة، حفظاً لها من العيون)، كما فرضت شروطا قاسية للتخلّص من الملفّات القديمة إن كان مسموحا بالتخلص منها.. وهكذا.. حتى جاءت أيام السعد ودخلنا في المرحلة التالية.
السجلّ الطبي الإلكتروني EMR: تعرّفتُ متأخراً جداً إلى هذا النوع المعقّد المُكلف من التدوين بعد عام كوفيد، أي عام 2021، حيث أُدخلنا – نحن الفرائد المتبقّين من أهل العيادات الصامدة في وجه الإغلاق – في المنظومة الإلكترونية، وقد بدتْ بحقّ (رغم معرفتنا الرقمية) غريبةً على من كان في مثل عمرنا، فيما كلفتنا الكثير من الجهد والمال، وجعلتنا عبيداً لأهل التقنية، لا ينفع علمنا من دونهم، ولا نستطيع العمل دون شروطهم.
مفاجأتي الكبيرة هي أن هذا المجال الإلكتروني الواسع قديمُ عهد، من بواكير عمري وقد تجاوزتُ الستين. كان عالماً بدائياً وغالياً جدا في البداية، ثم تطور بالتدريج ليسيطر على عوالم الطب (والتمريض والصيدلة والعلاج الفيزيائي…).
والسجلّ الطبي الإلكتروني EMR هو الملفّ الورقي بكل شروطه منقولاً (ثم مطوّراً) إلى العالم الرقمي، بحيث يمكن استحضاره على وجه السرعة إلى مكان الطبيب أو أي مكان بعيد في العالم. وقد عُرف من قبل باسم السجلّ الصحي الإلكتروني EHR، إذ نشأ في ستينيات القرن الماضي في أميركا، فكان مستشفى مايو Mayo Clinic في روتشيستر – مينيسوتا أول معتمديه (1). في ذلك الوقت كانت برامج التدوين باهظة الثمن إلى درجة أن الحكومة لم تستخدمها إلا بالشراكة مع المنظمات الصحية الكبيرة، ولهذا لم يكن استخدامها ممكناً في السبعينيات إلا من قبل المستشفيات الأغنى والأكبر حجماً، إنما في أعمال الفوترة والجدولة والاحتفاظ بسجلات صحية أساسية للمرضى.
في ذلك الوقت نشأ نهجٌ جديد للسجلّ الورقي (الموجّه للمشكلة Problem-oriented Patient Record)، وقد أضاف هذا النهج معلوماتٍ أوفرَ حول المرضى، وتطوّر بمرور الوقت ليصبح السجل الإلكتروني المعروف، مع قابليته للنقل مع بزوغ فجر عصر الحاسوب، إنما في المنشآت الكبيرة. أما العيادات الصغيرة فبقيت يدوية التسجيل، وإن ظهرت بوادر نقل المعلومات عبر الناسوخ (الفاكس) في الثمانينيات، لكن بحلول التسعينيات دخلت التقنية معظم العيادات، واستخدم الحاسوب بدرجة محدودة لأغراض حفظ السجلات (3)، إلى أن وصلنا إلى عصر الشابكة (الإنترنت)، لنرى في عقد مضى أن برنامج التسجيل الإلكتروني لم يعد ترفًا بل ضرورة تمكّن الأنظمة الطبية في العالم المتقدم التواصل السهل بعضها مع بعض، وتؤمن الامتثال لقانون التأمين الصحي المحمول والمساءلة.
والجدير بالذكر أميركياً (وكل الفكرة نشأت أصلاً هناك)، أن بوش الابن أنشأ عام 2004 مكتب المنسّق الوطني لتقنية المعلومات الصحية، ووضع خطة لحصول غالبية الأميركيين على سجلات إلكترونية خلال عشر سنوات (4)، يضمن فيها مقدمو الرعاية الصحية مشاركة المعلومات بشكل آمن (مع إذن المريض في البوابة الخاصة به)، وجودة الرعاية، وتقليل احتمال الأخطاء الطبية.
واليوم، وعلى الرغم من أن بعض الممارسات الخاصة تستمر في استخدام مزيج ورقي إلكتروني، أصبح الوصول إلى السجلات الطبية أسهل، وآمَنَ إن خُزّنت (عبر السحابة)، لتنقل عبر الشابكة إلى مجموعات متنوّعة من مؤسسات الرعاية الصحية، مستفيدة من التحليلات الصحية التنبؤية المعتمدة على الخوارزميات، وأصبحت السجلات الإلكترونية جزءًا لا يتجزأ من التمريض وغيره من مجالات الرعاية الصحية، فما عاد العمل الطبي ممكناً في غياب تلك الأنظمة، التي تتطلب التمويل الكافي والتخطيط الدقيق والتدريب الجيد للموظفين.
لماذا السجل الإلكتروني وما عيوبه؟
برأيي المتواضع أن السّرعةَ والثقة هما العاملان الرئيسان في هذه المنظومة التي لا يمكن تطبيقها إلا في البلدان المتقدمة الغنية بالطاقة والموارد ووسائط التواصل.
عامل سرعة توفير الملفات والمعلومات والعلاج: أمر حيوي جداً عندما تقفُ حياة المريض على ثوانٍ أو دقائق أحياناً، فيما المبكي أن هناك في عالمنا من يجعل المريض ينتظر انتهاء عطلة الأسبوع أو الأعياد، وقد لا يحصل على موعد إلا بعد وقت طويل (أشهر أو سنوات أحياناً حسب النظم الصحية المختلفة في البلدان، إن توفّرت نظم أو احترمت).
عامل الثقة مهم فوق التصور: نحن نعرف أن الطبّ مهنةُ الشرف والإنسانية والإخلاص والصدق، لكن هذا الاتجاه خفّ كثيراً في عالمنا، وزال في أماكن أخرى عندما تحوّل المريض إلى سلعة تُحلب أو تعصر دماؤها بلا رحمة أو شفقة. أشرنا سابقاً إلى عيوب الملف الورقي، ونؤكد هنا على العنصر الثالث غشّ المعلومات، فهذا أيضاً ممكن في النظام الإلكتروني. مثلاً، عندما ينظر الطبيب في حلق مريض أو أذنه أو يستمع لقلبه أو رئته، هل هناك من يرى أو يسمع معه؟ وهل كان حقا يرى أو يسمع؟ وعندما يجرى تحليل دم، أحقاً تم إجراؤه أم كتبت النتائج من الخيال؟ وهل أجريت في شروط صحيحة؟ إذن ليس بين المريض وطبيبه سوى رب العالمين وضميره، ليكتب ما هو حقيقي.
حقاً إن محو المعلومات أو تغيير التاريخ مستحيل في النظم الإلكترونية التي تسجل الوقت مع كل خطوة، لكن صحّة المعلومات لا يمكن التأكد منها إلا بتعيين طبيب مع الطبيب، إن لم يتفقا معاً على الغش. روى أحدهم أن طبيبَ مستشفى خاص مرتفع الدخل جداً (بأساليب ملتوية) يطلب ما لا يجب طلبه، ويؤكد مراراً وتكراراً على تقارير مخبرية وشعاعية إيجابية (تثبت تشخيصه الكاذب) كي يوجد مبرر لموافقة شركات التأمين على المبالغ المطلوبة، فإن لم يستجبْ لطلبه يُقمِ الدنيا ولا يقعدها، تؤيد تدليسه إدارة عمله الظالمة.
حقاً إن الملف الإلكتروني ثورة تقنية مهمة، لكنها عبء اقتصادي أيضا وعبودية لأهل التقنية إذ يتوقف كل شيء على سلامة استخدام البرامج وتوفّرها (وهذا مكلف جدا لمن لا يعرف) فتخيل أن تأتي في الصباح إلى عملك وتجد أجهزة الحاسوب لا تعمل والبرامج معطلة، والحسابات مسروقة.
عامل الأمان مهم أهمية الحياة ذاتها، فالاختراق المعلوماتي أو القرصنة المفسِدة (غير القانونية Crackering) أخطر ما يمكن أن يواجه المنشآت الصحية الكبيرة الحاوية على أسرار المرضى، التي يمكن أن تنشر أو يستفاد منها في أمور خطيرة، ما لم تدفع فدية كبيرة جداً لاستردادها، وعلى هذا بات الأمن الإلكتروني Cybersecurity أهم عامل في حياتنا المعاصرة، وبغيابه يتوقف كل شيء. ماذا يعني ذلك؟ ذلك يعني أن على كل المؤسسات أن تتعامل مع تقنيين ثقات يعرفون ماذا يقومون به، ولا يفشون أسرار عملهم، ومن هنا تأتي التكاليف الإضافية العالية (مع ضرورة عدم الاسترخاص أو التهاون) التي لا بد أن تثقل كاهل المرضى في النهاية، وكاهل الطبيب الصغير الذي يتساوى في المعاملة مع المنشآت الكبيرة.
هنا لا بد أن نفرق التسلل النظاميHackering عما ذكرنا، وفيها يتم توظيف أشخاص أصحاب خبرة ومواهب يختبرون نقاط الضعف في المنشآت المختلفة من أجل سد تلك الثغرات التي يستغلها القراصنة أصحاب النوايا السيئة، وما أكثرهم.
تبقى المسألة الاجتماعية التواصلية، وهي مهمة جداً برأيي، إذ يشتكي معظم المرضى أنهم لم يعودوا يرون وجه الطبيب المشغول وراء حاسوبه زمنا طويلا، فقط يكتب، وربما لا يفحص، أو يفحص شكليا دون تركيز، لتنخفض إنتاجيته السريرية مقابل زيادة إنتاجه الكتابي.
أين أنت يا أبقراط، وأين هم الذين يطبّقون قَسَمَك أو معادلاته.
***
من المراجع:
- 1 Becker’s Hospital Review, “A History of EHRs: 10 Things to Know,” February 16, 2015.
- 2 & 3 National Center for Biotechnology Information, “Electronic Health Records: Then, Now, and the Future,” May 20, 2016.
- 4 The White House Archives, “Transforming Health Care: The President’s Health Information Technology Plan,” 2004