التعاطف أعلى أشكال المعرفة-افلاطون
د. غالب خلايلي
الطب مهنة إنسانية جميلة، لكن حتى البلدان المتقدّمة تعترف بافتقار العديد من أماكن الرعاية الصحية إلى المجال الإنساني الرحب من تعاطف ورحمة، ومع أن كل إنسان – مهما قل شأنه الدنيوي – خزان مشاعر، لكن يكاد لا يسأل أحد عنها.
***
إن أنسَ لا أنسَ ما حدث ذات صيف قريب لزميلٍ أراد التوسّط عند زميله الجراح والأستاذ الجامعي، كي يُجريَ لمريضٍ مسكينٍ عمليّة جراحيّة مجانية في المستشفى العام الذي يعمل به ويدرّب طلاب الطبّ، إذ كان الأستاذ قد حوّله إلى مستشفىً خاص (لعلّه يملك بعض أسهمه)، بدعوى أنه، حيث يعمل ويدرّب، تُفتقد بعض الإمكانيات المناسبة للجراحة!.
أما الوجه المخزي للصدمة فتبدّى بين (الزميلين!) بحوارٍ مباشرٍعلى الهواء أمام مجموع الطلبة قيد التخرج في عمر الرياحين (تخيلوا التجربة الثرّة التي يكتسبونها!)، عن تفاصيل مادية مقلقة، بخصوص مريض فقير مأزوم، وعن دفع الأستاذ لطلابه بالصوت العالي كي يهاجروا تاركين بلداً ربّاهم في أصعب الأوقات وأكثر لياليها حلكةً.
هذا مثال واحد من أمثلة تتبدى فيها أنانيّة بعض الزملاء (كأنها صارت اتجاهاً عالمياً!) سواء أفي بلد يعاني، والتضحية فيه واجب، أم في بلاد مرتاحة تطبق قوانين العولمة الظالمة التي لم تعد تعترف حتى بإنسانية الأطباء، ولا بحقوق المرضى إن لم يملكوا المال، ومع امتلاكهم له لا يعامَلون برفق.

الذي دعى إلى هذه المقدمة وما سيليها، مقالٌ كتبته قبل ثلاث سنوات عن الجراحة القلبية التي أجريت لي، وأنا من عادتي وصف المشاعر الإنسانية التي تخصّني أو تخص غيري بدقة تكسبها حياة وتشويقاً، حتى لكأن القارئ (الحقيقي) يشعر وكأنه هو الذي أجريت له الجراحة، فشعر بآلامها ومعاناتها، وأحس بعذاب الروح البشري، لكائنٍ غدا ضعيفاً مسكيناً مستسلماً لمباضع الجراحين، وللقدر.
أحد قرائي صديقٌ عزيز وطبيبُ قلبٍ تداخلي تمرّ عليه حالات كثيرة مثل حالتي، وقد أثارت كلماتي الاستحسان عنده، إذ تمكّنتُ كما قال من “أنسنة التجربة الجراحية“، فيما تكون حدثاً عادياً يواجهه (تقنياً) عدة مرات كل يوم، بينما تصبح المعاناة الإنسانية هامشية، خاصة وأن ضغط العمل يضعف شعور الطبيب بالتعاطف مع المريض، مع أن التعاطف هو أكثر ما يبحث عنه المريض جنباً إلى جنب الخبرة الطبية.
هذا ما ناديت به مراراً في مقالاتي حول أن الطب أصبح متوحّشاً مع الأسف في العقود الماضية، وأصبح المريض سلعةً ورقماً من الأرقام (رقم الملفّ، رقم الهاتف، رقم الحساب، الكلفة) بغض النظر عن أن هذا الذي يشكو ليس شجرة ولا حجراً ولا آلة، بل هو كائن حيّ من لحم ودم وأعصاب ومشاعر، أنى يكن لونه.

ولا أخفيكم البتة أنني قبل العمل الجراحي، حسبتُ حساب كل شيء بهدوء، بحيث أكون خالي الذمة تجاه حقوق البشر، ومنهم الأبناء، فيما كنت خالي البال تماماً من جهة أحداث حياتي التي استعرضتها وكأنها شريط سريع أمام ناظري، فيما الوقت أصلاً لم يعد يسمح بالاستدراك، وكم أحسستُ قبل يومين من الجراحة بأهمية البيت والعائلة، ومن أن قضاء يوم واحد في البيت بخير يعادل الدنيا وما عليها. وبالتأكيد، كل هذه المشاعر والحسابات لا تمر بخاطر الطبيب المعالج، وربما لا يستفسر عن شيء من مخاوف مريضه، لكنه سوف يجدها أمام ناظريه إن تعرّض هو للتجربة ذاتها، عندما يصبح الإنسان حسّاساً فوق التصور، وضعيفاً فوق التصوّر أيضاً. وليس سرأً أن أخبركم أن طبيبي الهندي في مستشفى توام بالعين (أ. ص) والذي حولني الى الجراحة، هنّأني بعد العملية وطلب مني تقديم أضاحي (وكنت قد فعلتُ) قائلا: لا تنسَ أن نسبة الوفيات في عمليتك لا تقل عن 3% في أحسن المراكز. الحقيقة أنني لم أكن غافلاً عن ذلك، لا بتفكيري، ولا عندما وقف المخدّر الناضج الرزين فوق رأسي وأنا مضطجعٌ فوق طاولة العمليات (وحوله نحو خمسة عشر شخصاً من أعضاء الفريق الطبي) يطلب توقيعي، مذكّراً أن لكلّ جراحة مخاطرَها، فابتسمت ووقعت، ثم (بعد حقنة وريدية) غبت.
إحدى القضايا التي أشار إليها صديقي، زميل مقاعد الدراسة قبل 46 عاما، الدكتور علاء العجيلي (رئيس قسم أمراض القلب في مركز قلب ميري الطبي، ورئيس معهد القلب والأوعية الدموية – أوربانا إلينوي، الولايات المتحدة)، أن مثل حالتي عندهم لا تثير شجوناً، وتعد سُكّرةً أو حلوى Candy، ذلك أنني حسب قوله: “مريض صغير السن (وكنت في الحادية والستين) بلا مشاكل من ضغط وتدخين وكحولية وبدانة، سوف أبقى في المستشفى أربعة أيام ثم أذهب إلى البيت، ومن ثم لا تُقارن حالتي بأحوال مرضى طاعنين في السن والمرض والاختلاطات (قصور كلوي، نزف هضمي..)، يتطلبون تفكيراً أعمق وتمحيصاً أشدّ وجهداً أكبر، لكن ما كتبتُه عن حالتي الأبسط جعل زميلي يتعاطف والتجربة، مقرّظاً إمكانيتي الكتابية في نجاح التواصل وإثارة التفكير عند القارئ. وكان أن أرسل الصديق، ما أجمله، مقالاً من جامعة هارفرد باللغة الإنجليزية، يتحدث عن التعاطف، سوف ألخص أهم نقاطه في حديثي، لكن قبل ذلك أنوّه إلى أن:
- التعاطف مع المرضى ضروري ومهم، بشرط عدم التمادي به، إذ قد يأتي بنتائج عكسية.
- شفاء النفس ضروري لشفاء البدن، وأن شفاء المريض يبدأ (أو يتعطل ويتفاقم) على طاولة الفحص.
- الطبيب، بغض النظر عن قوانين المستشفى (القاسية عادة)، وعاء ينضح بما فيه، وجه مقبول ووجه مكرب، وجه رحماني وآخر شيطاني، وأن حُسن القبول هبة من الله لبعض البشر.
- التمييز بين السلوك غير التعاطفي والسلوك غير الأخلاقي non ethical كالحالة التي بدأت بها حديثي.
***
يبتدئ مقال (بناء التعاطف في بنية الرعاية الصحية) بصورة تظهر يد طبيب حانية فوق يد مريض، وتحتها تعليق لأفلاطون: “أعلى أشكال المعرفة هو التعاطف، لأنه يتطلب منا أن نعلّق أنانيتنا ونعيش في عالم آخر”. ويتابع الكاتب تيد جيمس: لا نخطئ أبداً إذا قلنا إن “التعاطف” هو أحد أهم الأشياء التي يبحث عنها المرضى في الرعاية الصحية، فهم يذكرون أن التعاطف ذو أهمية لا تقل عن الخبرة الطبية عندما يتعلق الأمر باختيار الطبيب، ولذا سوف يبحثون عن طبيب آخر عندما يبدو طبيبهم الحالي غير مكترث.
والتعاطفEmpathy هو وعي مشاعر الآخرين وفهمها، أما الرحمة أو الإشفاق Compassion فما يلي ذلك استجابة لحالة التعاطف مع المريض، وكلاهما مهم لبناء الثقة مع المرضى وتقديم الرعاية التي تلبي احتياجاتهم، ذلك أن التعاطف يعمل على تحسين رضا المرضى، والتزامهم بالعلاج، ومن ثم تتحسّن النتائج السريرية، ناهيك عن أنها تقلل فرص النزاعات والتقاضي، وتحسّن عملية السّداد، ولكن الأهم هو زيادة فرص التواصل الإنساني.
ويتابع الكاتب: من المؤسف افتقار العديد من أماكن الرعاية الصحية إلى هذا المجال الإنساني. لكن الحل كما يفكر به بخلق ثقافة التعاطف بدءاً من القمة، فعندما يطبق كبار القادة السلوكيات الإنسانية المرغوبة، فإنها تفرض نفسها على المنظومة بأكملها، إذ يشعر الناس أن القادة يرونهم ويسمعونهم ويستجيبون لاحتياجاتهم. لهذا يجب جعل التعاطف أولوية في قرارات التوظيف وعمليات التوجيه.
ومع ذلك، فإن تطوير التعاطف في منظمات الرعاية الصحية هو أكثر من مجرد مسؤولية كبار فحسب، فنحن جميعًا (على المستوى الأقل) نلعب دورًا في خلق بيئة نتعامل فيها باحترام بعضنا مع بعض.
وهل يُتعلم التعاطف؟ تشير الدراسات إلى أن التدريب على التعاطف يحسن الأداء الفردي. وقد نشرت الدكتورة هيلين ريس، مؤسّسة برنامج التعاطف والعلوم التواصلية ومديرته في مستشفى ماساتشوستس العام، نتائج مشجعة من بحثها حول تدريب التعاطف وضرورة توفيره لكل من يتعامل مع المريض.
اللافت في الحياة العامة أن التدريب على التميز شائع في قطاعات الخدمات الأخرى ومعترف به على نطاق واسع، ومن ثم فإن الرعاية الصحية ليست استثناءً، بل هي أولى به.
على أن التعاطف الناجم عن التدريب قد ينخفض بمرور الوقت، وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة “نيو إنغلاند” الطبية، وهذا يشير إلى أهمية اتباع معايير خاصة منها تجربة المريض والتدريب المستمر، مما يتطلب إعادة تصميم الأهداف، مع إعطاء التعاطف أولوية، يدمج فيها صوت المريض، من خلال فهم شامل لرحلته، ونقاط خوفه وألمه والتحديات، من خلال الاستطلاعات والدراسات، وربما دمج المرضى أنفسهم في اللجان ومجموعات العمل. وعلى سبيل المثال، تعمل بعض مراكز السرطان مع المرضى لتحديد أولويات تحسين الجودة بناءً على تجاربهم. ترسم خطوط رحلتهم بالكامل، من وقت اتصالهم بالمستشفى إلى وقت مغادرتهم، للوصول إلى أهم المفاتيح التي تنجح التجربة برمّتها، وتصبح تلك النقاط أولويات لتصميم ناجح تندمج فيه الرعاية الطبية مع التعاطف والرحمة، لننطلق بعدها – بالفكر ذاته – إلى الرعاية الصحية لمجموع السكان، والتي قد تعيقها الظروف المعيشية والأوضاع الاجتماعية.
أخيراً يفترض أن تكون عملية الدمج العاطفي الطبي سلسة غير مكلفة، كما تفعل أدريان بواسي، رئيسة قسم تجارب المرضى في عيادة كليفلاند، فعند وجود مريض جراحي مثلا، تضيف أدريان بند “تحديث الأسرة” إلى قائمة التحقق الجراحية الآمنة (مثل مكان الجراحة والعمل المطلوب)، ويمكن أن يسأل المريض عند استقباله سؤالين مهمين: “كيف ترغب في أن تتم مخاطبتك؟” و”ما هو اهتمامك الرئيس بهذه الزيارة؟”.
والخلاصة: إن التعاطف هو جوهر الرعاية الصحية الجيدة، فوق ما نتصور، ولهذا فإن تخصيص الوقت الكافي لفهم تجارب مرضانا يساعدنا على تقديم رعاية أفضل ونتائج أحسن.
وكم هو الفرق شاسع بين ذلك، وبين قول الطبيب الجاف للمريض بمجرد فتح فمه للاستفسار: من فينا الدكتور؟ هيا، تعال اجلس مكاني. وكم عدد الذين يسألون المريض المكلوم في عموم البلاد: كيف تريد أن تتم مخاطبتك؟
***
المراجع:
- خبرة شخصة
- بناء التعاطف في بنية الرعاية الصحية: تيد أ. جيمس، دكتوراة في الطب، ماجستير في طب الرعاية الصحية 12 يناير 2023
https://postgraduateeducation.hms.harvard.edu/trends-medicine/building-empathy-structure-health-care