الصورة الدينية الرمزية المتداولة بين الناس في هذه الذكرى
د. الياس ميشال الشويري
يحل عيد صعود العذراء مريم، المعروف أيضاً بعيد انتقال العذراء، في ١٥ آب من كل عام كحدث روحي مهيب، يحمل في طياته أبعادًا إيمانية وتاريخية وثقافية عميقة. فهو ليس مجرد ذكرى كنسية، بل محطة تلتقي فيها الأرض بالسماء، وتتجدد فيها وعود الخلاص والنصر على الموت. في قلب لبنان، البلد الذي يئن تحت ثقل الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يكتسب هذا العيد بُعدًا خاصًا، إذ يصبح أكثر من مناسبة دينية؛ إنه فعل مقاومة روحية في وجه منظومة سياسية فاسدة تستبيح كرامة المواطن وتنهب خيرات الوطن. انتقال القديسة مريم، الأم النقية، إلى المجد الإلهي بالجسد والروح، يتحوّل إلى رمز أمل عابر للزمن، ورسالة واضحة بأن الطهارة تنتصر على القذارة، وأن النقاء يعلو فوق الانحطاط، مهما كان الحاضر مظلمًا. بهذا المعنى، فإن عيد الانتقال يحمل للبنانيين، الأحرار منهم، نداءً للبقاء واقفين، رافعي الرأس، متمسكين بالحق، ومؤمنين أن الله، الذي رفع مريم، قادر أيضًا أن يرفع وطنهم من قاع الفساد إلى قمم المجد.
- البعد الروحي للصعود ومعناه في واقع لبنان
يأتي عيد صعود العذراء مريم في ١٥ آب ليعلن أن الرجاء ليس فكرة تجريدية بل حقيقة ملموسة في مسار الإيمان. مريم، الأم النقية، انتقلت بالجسد والروح إلى مجد السماء، لتصير أيقونة النصر على الفناء والهوان. في لبنان، حيث يتصارع الناس مع واقع مأساوي صنعته زمرة من السياسيين الفاسدين، يصبح هذا العيد أكثر من مجرد احتفال كنسي، بل يتحوّل إلى صرخة رفض للموت المعنوي والروحي الذي يفرضه هؤلاء — رموز القذارة — على البلاد. في مشهد العذراء المرفوعة، يرى اللبناني المؤمن صورة معاكسة تمامًا لانحدار حكامه نحو الحضيض الأخلاقي. وبينما يتقاسم السياسيون الفاسدون المغانم ويزرعون الإحباط في النفوس، يقدّم الصعود وعدًا مختلفًا: أن الكرامة المهدورة ستُستعاد، وأن النقاء ينتصر على القذارة. لذلك فإن هذا العيد يحمل بُعدًا مقاومًا، فهو يذكّرنا أن مصير الظالمين السقوط، وأن الحقّ، مهما طال غيابه، سيعلو فوق رأس الفساد. إنه دعوة لإبقاء الرأس مرفوعًا نحو السماء، حيث العدالة الحقيقية، في زمن يحاولون فيه إذلال كل من يرفض الخضوع.
البعد الروحي في عيد الصعود يوجّه رسالة واضحة لكل من فقد الأمل في إصلاح لبنان: لا شيء مستحيل أمام إرادة الله. العذراء مريم لم ترتفع لأنها صاحبة نفوذ أو مال أو قوّة سياسية، بل لأنها عاشت حياتها في طاعة الحق وخدمة الآخرين. هذا البعد يضرب في الصميم كل منظومة سياسية في لبنان جعلت من السرقة والكذب وسيلة بقاء. فعلى النقيض من القديسة مريم التي رفعتها السماء بكرامتها، هناك هؤلاء الذين يغرقون في مستنقع جشعهم ويجرّون معهم وطنًا كاملًا إلى الانهيار. العيد يذكّرنا أن الرفعة الحقيقية لا تأتي عبر التسلّق على أكتاف المظلومين، بل من حياة مكرّسة للخير. ولأن لبنان اليوم غارق في الفساد، فإن هذا المعنى يتحوّل إلى نداء إيماني لكل شخص شريف أن يظل متمسكًا برجاء القيامة الوطنية، مؤمنًا أن الله لا يترك أرضه للذئاب. فكما لم يستطع الموت أن يحبس القديسة مريم، لن يستطيع الفساد أن يحبس لبنان للأبد.
عيد الصعود، في عمقه، هو إعلان أن الظلم مؤقّت، وأن العدل آتٍ ولو بعد حين. اللبناني الحر الذي ينظر إلى السماء في هذا اليوم، يرى فيها انعكاسًا لأمنيته بأن يرى وطنه مرفوعًا من تحت الركام. وفي مواجهة طبقة سياسية فاسدة تتفنّن في إذلال الشعب الحر، يصبح العيد فرصة لتجديد العهد مع القيم التي يمثلها صعود القديسة مريم: النقاء، الإخلاص، التضحية، والإيمان بأن التاريخ لا يكتبه الفاسدون وحدهم. هذا الرجاء ليس رفاهية عاطفية، بل هو طاقة مقاومة تمنح القدرة على مواجهة الحاضر المظلم. إنه يذكّرنا أن يد الله أقوى من قبضة أي حاكم، وأن الذين ينهبون قوت الشعب سيختفون كما يختفي الدخان. وبينما يتهاوى الضمير العام في قصورهم المذهبة، يقف المؤمن متشبثًا برموز الطهارة، واثقًا أن يوم القيامة، سواء على الأرض أو في السماء، سيضع كل واحد في مكانه العادل.

- البعد التاريخي والطقسي لعيد الصعود وربطه بذاكرة الشعب اللبناني
عيد صعود السيدة العذراء في ١٥ آب له جذور عميقة في التقليد المسيحي منذ القرون الأولى. الكنيسة تعلّم أن القديسة مريم، بعد إتمام مسيرتها على الأرض، انتقلت بالجسد والروح إلى المجد، وهو إكرام خاص من الله لأم المسيح، له المجد. عبر القرون، صار هذا العيد مناسبة مهيبة يتوافد فيها المؤمنون إلى الكنائس والأديرة لإحياء ذكرى النصر على الموت. في لبنان، أخذ هذا العيد بُعدًا اجتماعيًا وثقافيًا، فصار يومًا للقاء العائلات، وتقديم النذور، وتقديس القلوب. لكن هذا الطقس الروحي العميق يعيش اليوم وسط واقع سياسي خانق، حيث تحاول زمرة الفاسدين أن تسرق من الناس حتى فرحتهم الدينية. ومع ذلك، يظل الشعب اللبناني الحر والمؤمن، رغم الأزمات، متمسكًا بإحياء العيد، وكأنه يقول لهؤلاء: قد تسرقون المال والخبز والكهرباء، لكنكم لن تسرقوا إيماننا. فالاحتفال بالصعود صار فعل تحدٍ، واستمرار في حفظ ذاكرة الانتصار على قوى الفناء، سواء كانت موت الجسد أو موت الوطن.
الطقوس التي ترافق عيد الصعود في لبنان تحمل في طياتها رمزية عميقة لمقاومة الانكسار. ففي هذا اليوم، ترتفع الصلوات المريمية، وتقام القداديس، وتُحمل الأيقونات في الزياحات بين القرى، وكأن الأرض نفسها تريد أن تتقدّس بذكرى القديسة مريم. غير أن المفارقة الصارخة تكمن في أن هذه المسيرات تحدث في ظل أزمة اقتصادية ومالية خانقة، من صنع أيدي حثالة السياسة. وبينما يحاول هؤلاء زرع اليأس، يرد الشعب برفع أنشودة “السلام عليك يا مريم” وكأنها إعلان صريح أن الرجاء لا يُكسر. إن التمسّك بالطقس في هذه الظروف ليس هروبًا من الواقع، بل تذكير بأن القيم الروحية أقدر على الصمود من أي منظومة سياسية فاسدة. فالزياحات لا تحمل فقط الأيقونات، بل تحمل أيضًا أحلام الناس بأن يأتي يوم يرتفع فيه لبنان كما ارتفعت القديسة مريم.
ذاكرة اللبنانيين مرتبطة بعيد الصعود باعتباره محطة للراحة الروحية وسط حياة مليئة بالتعب. في الماضي، كان هذا اليوم مناسبة يجتمع فيها الأهل والأصحاب، ويتبادلون الخيرات والابتسامات، في ظل شعور بالأمان النسبي. أما اليوم، فإن الاحتفال يأتي وسط انقطاع الكهرباء، غلاء الأسعار، وانهيار العملة، لكن هذا لم يطفئ جذوة الإيمان. على العكس، صار العيد بمثابة تذكير جماعي أن الشعوب لا تعيش فقط على الخبز، بل على الرجاء أيضًا. اللبناني المؤمن الذي يشارك في قداس العيد، يعلم أن صعود القديسة مريم هو وعد بأن السماء لا تنسى الأرض، وأن الله يرفع المظلومين كما رفع القديسة مريم المباركة. وفي كل مرة تُدق فيها أجراس الكنائس في ١٥ آب، يسمع الشعب في رنينها رسالة واضحة: كما رفعت السماء العذراء مريم، ستأتي ساعة يرفع فيها الله هذا الوطن من بين أنياب الفاسدين، مهما طال الليل.
- الصعود كدعوة للصمود والمقاومة الروحية في وجه الفساد
في جوهره، عيد الصعود ليس حدثًا من الماضي، بل نداء للحاضر والمستقبل. إنه يذكّر كل إنسان أن الحياة على الأرض ليست الغاية النهائية، بل مرحلة عابرة نحو المجد. هذه الحقيقة حين تنعكس على واقع لبنان، تصبح سلاحًا روحيًا ضد الاستسلام. فالفاسدون يراهنون على تعب الناس، وعلى أن الإحباط سيفرّغهم من القدرة على المقاومة، لكن الصعود يزرع في القلب إصرارًا على النهوض مهما كانت الضربات قاسية. إنه يربط بين الإيمان والعمل، بين الصلاة والموقف. فالمؤمن الذي يتأمل في العذراء مريم المرفوعة، يدرك أن الصعود ليس هروبًا من المعركة، بل هو انتصارها النهائي. ومع أن اللبناني الحر يعيش تحت ثقل الانهيار، إلا أن العيد يذكّره بأن الهزيمة الحقيقية هي أن يفقد الرجاء. ولهذا، فإن التمسك بهذا العيد في زمن الفساد هو فعل مقاومة صامتة، لكنه قوي، في وجه سلطة تحاول إذلاله بكل الوسائل.

الصعود يعيد ترتيب الأولويات في حياة المؤمن. حين يرى أن القديسة مريم وصلت إلى المجد من خلال التواضع والطهارة، يفهم أن قيم السماء تختلف جذريًا عن معايير السلطة على الأرض. في لبنان، حيث يختلط المال بالنفوذ، والكذب بالحكم، تصبح رسالة الصعود صفعة لكل من يظن أن القوة تصنع المجد. فهؤلاء الذين يتباهون بالقصور والسيارات الفارهة، لا يملكون شيئًا أمام من يملك قلبًا نقيًا وإيمانًا راسخًا. الصعود يحرّر الإنسان من وهم أن الفساد قدَر محتوم، ويمنحه الجرأة ليقول “لا” حتى في أصعب الظروف. إنه دعوة لكل مواطن أن يعيش بقيم العذراء، لا بقيم السوق السوداء. فالرجاء الذي يولّده العيد يخلق مقاومة داخلية، تحمي النفس من الانجرار إلى القبح الذي يحيط بها. هكذا يصبح الصعود مشروع حياة، لا مجرد ذكرى سنوية.
المقاومة الروحية التي يوقظها عيد الصعود ليست سلبية أو انفعالية، بل عملية وعميقة. فهي تبدأ من قرار شخصي بعدم الخضوع لثقافة الرشوة والكذب التي زرعها الحكام، وتمتد إلى التضامن مع الآخرين في مواجهة الظلم. العذراء مريم، التي صعدت لأنها أطاعت الله حتى النهاية، هي المثال الحي على أن الطاعة للحق أقوى من أي سلطة زمنية. اللبناني المؤمن الذي يستلهم من العيد هذا المبدأ، يدرك أن بلده لن ينهض بمجرد تغيير وجوه في الحكم، بل حين يتحول كل شخص حر إلى حامل لقيم النقاء والحق. بهذا المعنى، فإن الصعود يزرع في القلوب ثورة صامتة، لكنها قادرة على إسقاط منظومات بأكملها، لأنها لا تُبنى على العنف، بل على الإصرار على الحق. وعندما يتعمق هذا الوعي، يصبح الفساد معزولًا، وتبدأ البلاد بالصعود من جديد، كما صعدت القديسة مريم من بين أوجاع الأرض إلى فرح السماء.
- الرجاء كقوة خلاصية للبنان على ضوء الصعود
الرجاء ليس مجرد أمل في أن تتحسن الأمور، بل هو ثقة عميقة بأن الله يعمل في التاريخ حتى عندما يبدو كل شيء ميتًا. عيد الصعود يغذّي هذا الرجاء، لأنه يذكرنا أن العذراء مريم لم تصل إلى المجد صدفة، بل عبر مسيرة إيمان وسط ألم وصعوبات. في لبنان، حيث يسيطر الفساد حتى على الهواء الذي نتنفسه، يصبح الرجاء فعل تحدٍ يومي. هو القوة التي تمنع الاستسلام لليأس الذي يريد الفاسدون نشره، حتى يستمروا في حكم بلد محطم. الصعود يهمس في أذن اللبناني: كما رفعت السماء القديسة مريم، كذلك يمكن أن يُرفع وطنك، إذا تمسكت بالحق، ورفضت أن تكون شريكًا في القبح. هذا الرجاء لا ينفي صعوبة الطريق، لكنه يذكّر أن المستحيل يبدأ بالتحقّق حين يرفض الإنسان الاستسلام.
الرجاء الذي يلهمه عيد الصعود يملك بعدًا جماعيًا، فهو لا يقتصر على الخلاص الفردي، بل يطال الأمة كلها. العذراء مريم صعدت لأنها حملت في قلبها محبة للبشرية، ولبنان لا يمكن أن ينهض إلا حين يحمل أبناؤه محبة حقيقية لبعضهم البعض. السياسيون الحاليون، الفاسدون بامتياز، يعملون على تمزيق المجتمع بخطابات طائفية وحسابات شخصية، لكن العيد يدعونا إلى عكس ذلك تمامًا: إلى بناء جسور، وتجاوز الانقسامات، لأن الفساد يستفيد من تشتتنا. الرجاء يصبح هنا مشروع مقاومة وطنية شاملة، تبدأ من القلب وتمتد إلى الشارع، ومن الصلاة إلى العمل الميداني. إنه الإيمان بأن الله لا يترك شعوبًا تريد الحياة بكرامة، وأن ساعة القيامة الوطنية آتية مهما طال ليل الحثالة.
في النهاية، عيد الصعود هو مرآة يرى فيها اللبناني المؤمن نفسه بين خيارين: إما أن يسلك طريق السياسيين نحو الانحدار، أو طريق العذراء مريم نحو الارتفاع. الرجاء الذي يمنحه هذا العيد هو طاقة خلاصية، لأنّه يحرّر الإنسان الحر من فكرة أن مصيره مرهون برحمة الحكام. فكما أن القديسة مريم لم تنتظر إذنًا من قياصرة زمانها لتصعد، كذلك يمكن للبنان أن ينهض حين يقرر أبناؤه الأحرار التحرّر من قبضة الفساد. هذا الرجاء لا يعد فقط بسماء بعد الموت، بل بأرض جديدة قبل الموت، أرض نظيفة من سرقاتهم، مزدهرة بقيم الحق والعدالة. وهكذا، فإن عيد الصعود لا يبقى مجرد ذكرى دينية، بل يصبح نبضًا وطنيًا وروحيًا، يعلّم اللبنانيين الأحرار أن طريق الارتفاع يبدأ من قلب يرفض الانحناء للباطل، وأن السماء تفتح أبوابها دائمًا للشعوب التي تختار النقاء على حساب المصلحة الزائفة.

- الخاتمة
عيد صعود القديسة العذراء ليس فقط تذكارًا لحدث روحي مجيد، بل هو مدرسة في الرجاء، ورسالة خلاص موجهة إلى كل إنسان حر وإلى كل وطن يرزح تحت الظلم. في لبنان، حيث تحاول زمرة الحثالة من السياسيين أن تجعل اليأس قاعدة، يطّل هذا العيد كنافذة مفتوحة على السماء، تذكّر أن الظلم مهما طال فهو مؤقت، وأن الحق لا بد أن ينتصر. العذراء مريم، التي صعدت لأنها عاشت النقاء والإخلاص، تدعو اللبنانيين الأحرار اليوم ليختاروا طريق الارتفاع، لا الانحدار. فالرجاء الذي يولّده هذا العيد ليس ترفًا روحيًا، بل هو طاقة تحرّر الإنسان من الخوف، وتدعوه للعمل على بناء وطن نظيف من الفساد، غني بالقيم، متجذّر في الإيمان. وهكذا، يبقى عيد الصعود منارة في قلب العاصفة، ينير درب شعب مؤمن يرفض الانكسار، ويؤمن أن لبنان، مثل العذراء مريم، يمكن أن ينهض، ويصعد، ويستعيد مكانه بين أوطان العالم بكرامة ومجد.