جريمة المرفأ : من يظنّ ان الاصلاح ممكن فهو واهم
د. الياس ميشال الشويري
الحكمة القائلة: “إطعام الأفعى عسلاً لن يغيّر من طبيعتها المسمومة” ليست مجرد صورة بلاغية، بل هي تلخيص مكثّف لعلاقة الإنسان بالشرور المتجذّرة في النفوس. الأفعى هنا ليست مجرد حيوان زاحف سام، بل رمزٌ للبشر الذين لا يبدّد الطيبُ طبيعتهم ولا تُصلحهم النيات الحسنة. ومهما أغْدَقَتْ عليهم من عسل المودة أو منحتهم من فرص التسامح، فإنّ أنيابهم تظلّ محمّلة بالسمّ، تنتظر لحظة الانقضاض. هذه الفلسفة تصلح أن تكون مفتاحًا لقراءة التاريخ البشري عامة، وتجربة لبنان خاصة؛ حيث منح اللبنانيون طيبتهم وولاءهم وثقتهم لطبقة حاكمة لم تعرف إلا الغدر، فردّت على العسل بالسم، وعلى الوفاء بالخيانة.
في هذا المقال، نتناول الفكرة من خمسة محاور كبرى: أوّلها البعد الرمزي والفلسفي للأفعى، وثانيها حدود الطيبة الإنسانية، وثالثها ترجمتها في السياسة اللبنانية، ورابعها انعكاسها على الأزمات الكبرى التي هزّت لبنان، وخامسها الدروس المستخلصة للمستقبل.
1. الفلسفة الرمزية للأفعى والشر المتأصل
الأفعى عبر التاريخ رمزٌ متكرّر في الثقافات والأساطير، فهي حيوانٌ يجمع بين الجاذبية والخطر، بين النعومة القاتلة واللدغة الفتّاكة. في الميثولوجيا اليونانية، وفي الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل والقرآن، تمثل الأفعى الخديعة التي لا يمكن الوثوق بها. والحكمة القائلة بأن إطعامها عسلاً لن يبدّل طبيعتها، تكشف عمق هذا الرمز: الشر حين يتجذّر، يصبح جزءًا من هوية الكائن، لا يزول باللطف الخارجي. قد تُهادن الأفعى للحظة، وقد تبدو ساكنة، لكنها في جوهرها تبقى كائناً ساماً لا يعرف إلا اللدغ. ومن هنا يتضح أن الفلسفة الرمزية لهذه الحكمة تُنبّهنا إلى أنّ الطبيعة المتأصّلة في النفوس الشريرة لا تعالجها النيات الحسنة وحدها، بل تحتاج إلى ردع يفرض حدوداً ويمنع السم من الانتشار.
الإنسان، كالأفعى، قد يحمل طبيعة مزدوجة: القدرة على الخير والقدرة على الشر. لكنّ الفرق أن الإنسان يمتلك حرية الإرادة التي تمكّنه من الاختيار، بينما الأفعى محكومة بغريزتها. ومع ذلك، فإنّ بعض البشر يختارون أن يكونوا مثل الأفاعي، فيستسلمون لنوازع الشر، ويحوّلون أنفسهم إلى مصدر خطر دائم على من حولهم. هؤلاء هم الذين لا تصلحهم المعاملة الحسنة، بل تفسَّر الطيبة في قاموسهم على أنها ضعف، والكرم على أنه سذاجة، والعفو على أنه تنازل يمكن استغلاله. لذلك يزدادون شراسة كلما زادت الطيبة تجاههم، كما لو أنّ العسل لا يغذيهم إلا بمزيد من الجرأة على اللدغ.
الفلسفة الرمزية للمقولة تصلح لفهم العلاقات الاجتماعية والسياسية معاً. ففي المجتمعات، هناك دائمًا من يتقمص دور الأفعى: يستغل الثقة ليغدر، ويستغل الولاء ليطعن، ويستغل الطيبة ليزداد سمًّا. هذه الرمزية لا تقتصر على العلاقات الفردية، بل تنسحب على الأنظمة والدول، حيث يمكن أن تكون السلطة نفسها أفعى متخفية بعسل الشعارات والوعود. وما لم يُدرك الناس هذه الحقيقة، فإنهم سيواصلون إطعام الأفعى عسلاً، ليُفاجَؤوا دائماً بلسعة قاتلة. هكذا يصبح الرمز درسًا واقعيًا: لا تراهن على أن اللطف سيغيّر الشرير، بل ضع حدوداً تحمي نفسك من سمّه.

2. الطيبة بين الفضيلة والاستغلال
الطيبة فضيلة عظيمة، لكنها حين تُلقى في غير مكانها تتحول إلى ثغرة تُستغل. الإنسان الطيب يتوقع أن يُقابل عطاءه بعطاء، وأن يُقابل عفوه باعتراف بالجميل، لكنه يُصدم حين يكتشف أن بعض النفوس لا تردّ الجميل بالجميل، بل تفسره على أنه إذعان يفتح شهية الاستغلال. وهنا تتبدّد الطيبة من فضيلة إلى سذاجة قاتلة. هذه المعضلة الأخلاقية رصدها فلاسفة كثر، من نيتشه إلى علي شريعتي، حيث أكّدوا أنّ من يوزّع خيره دون حساب، يصبح فريسة للذئاب المتربصة. فالخير يجب أن يقترن بالحكمة، وإلا تحوّل إلى مصدر شر على صاحبه.
في لبنان، تتجلّى هذه المعضلة بوضوح. الشعب اللبناني بطبيعته كريم، مضياف، متسامح، لكنه واجه طبقة سياسية تعاملت مع هذه الطيبة على أنها رصيد للاستغلال. اللبنانيون صبروا طويلاً على الفساد، تسامحوا مع الحروب الداخلية، أعادوا الثقة بالزعماء مراراً، لكنّ النتيجة لم تكن وفاءً، بل مزيدًا من النهب. الطيبة هنا لم تغيّر الأفاعي السياسية، بل جعلتها أكثر جرأة في سرقة المال العام، وفي إذلال الناس، وفي تحويل الوطن إلى مزرعة خاصة. لقد تَحوّل الشعب الطيب إلى شريك في تغذية الأفعى بعسل الولاء، من دون أن يدرك أنّ النتيجة ستكون لدغة تدمّر حياته اليومية.
هذا الواقع يفرض إعادة النظر في مفهوم الطيبة نفسها. ليست كل طيبة فضيلة إذا لم تترافق مع وعي سياسي وحزم قانوني. الطيبة التي تمنح فرصة تلو الأخرى لمن يثبت خيانته، هي طيبة قاتلة. الطيبة التي تُسوّغ الفساد بحجّة “ما إلنا غيرن” هي شراكة في الجريمة. الطيبة التي تسكت عن الطائفية والمحاسيب هي وقود لاستمرار السموم. لذا فإنّ الطيبة في لبنان لم تعد فضيلة، بل تحولت إلى مرض اجتماعي خطير. وحده المزج بين الطيبة والعدل قادر على ردع الأفاعي، وإلا بقي اللبنانيون في دائرة السمّ التي لا تنتهي.

3. السياسة اللبنانية كأفعى تتغذى على العسل الشعبي
السياسة اللبنانية هي التجسيد الحي لمقولة الأفعى والعسل. الشعب قدّم كل ما لديه: الدماء في الحروب، الصبر على الأزمات، الولاء الطائفي والحزبي، وحتى الهجرة وتحويلات المغتربين. كل هذا كان عسلًا يتدفّق نحو السلطة. لكنّ النتيجة لم تكن بناء دولة، بل تعزيز منظومة فاسدة لا تشبع. الأفعى السياسية امتصّت العسل الشعبي، ثم قابلته باللدغات: لدغة الانقسام الطائفي، لدغة الديون الخارجية، لدغة الانهيار الاقتصادي. في كل مرة منح اللبنانيون ثقة جديدة، جاءت اللدغة أشد قسوة.
منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم، أعطى الشعب اللبناني الطبقة الحاكمة فرصاً لا تُحصى. انتخابات متكررة، تفويض شعبي للأحزاب، تسامح مع الحروب الداخلية والاغتيالات. لكنّ الطبقة الحاكمة لم تغيّر سلوكها. بالعكس، ازدادت شراسة، حتى باتت الأفعى السياسية أشبه بوحش متعدد الرؤوس: رأس للفساد المالي، رأس للطائفية، رأس للولاءات الخارجية، ورأس لإجهاض كل محاولة إصلاح. اللبنانيون أطعموا الأفعى عسلاً من صبرهم ودموعهم وعرقهم، لكنّ الرد كان المزيد من السمّ الذي دمّر الاقتصاد والمجتمع.
هكذا يظهر أن السياسة اللبنانية ليست ساحة لإصلاح الأفاعي، بل مستنقع لتفريخها. وكل من يظنّ أنّ الصبر والانتظار سيغيران طبيعة المنظومة، يعيش وهماً قاتلاً. فالأفعى السياسية لن تتحول إلى حمامة، ولو أغدقت عليها عسلاً لقرون. الحلّ لا يكون بالاستمرار في تقديم الطاعة والولاء، بل بكسر الحلقة التي تجعل الشعب مجرد مورد غذاء للأفاعي. لبنان يحتاج إلى ثورة وعي تدرك أنّ العسل لا يصلح دواءً للسموم السياسية.

4. الأزمات اللبنانية كدليل على ثبات السموم
الأزمات الكبرى التي مرّ بها لبنان دليل صارخ على أنّ الأفعى لم تتغيّر رغم كل العسل الشعبي. أزمة الكهرباء المستمرة منذ عقود، على سبيل المثال، لم تكن نتيجة عجز تقني بل نتيجة سمّ سياسي متعمّد. الشعب دفع المليارات من جيبه، وانتظر بصبر، لكنّ الطبقة الحاكمة لم تبنِ دولة كهرباء، بل شبكة فساد. هنا نرى العسل الشعبي يُقدَّم في صورة ضرائب وأموال عامة، لكنّ الرد جاء على شكل لدغات فساد أحرقت كل أمل.
انفجار مرفأ بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠ كان الحدث الأكثر دلالة على ثبات السموم. الشعب اللبناني قدّم كل أشكال التضامن بعد الكارثة، بينما قابلت السلطة ذلك بالإنكار، والتهرّب من التحقيق، وحماية المتورطين. هذه ليست مجرد أزمة، بل دليل على أنّ الأفعى السياسية لا تتغيّر حتى أمام الفاجعة. لقد أُطعمَت عسلاً من صبر الناس ومن دماء الضحايا، لكنّها لم تُظهر أي ندم أو تحول، بل زادت تمسكاً بممارساتها المسمومة.
الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي مثال آخر. اللبنانيون صبروا على سياسات المصرف المركزي والحكومات المتعاقبة، وأرسل المغتربون تحويلاتهم كعسل لإنعاش الاقتصاد. لكنّ الرد كان سمّاً مضاعفاً: سرقة الودائع، انهيار الليرة، انهيار الأمان الاجتماعي. الأفعى لم تتغيّر، بل ازدادت شراهة. وهذا البرهان العملي يؤكد أن الطيبة وحدها لا تنقذ بلداً، بل تُغذّي الأفاعي لتلتهم كل ما تبقّى من خير.

5. دروس للبنان والغد الأفضل
من كل ما سبق، الدرس الأول أن الطيبة غير المشروطة لا تصلح في السياسة. الشعب اللبناني بحاجة إلى أن يتعلّم أنّ إطعام الأفعى عسلاً لا يغيّرها، بل يجبره على دفع ثمن لدغاتها. المطلوب اليوم وعي جديد يرى أنّ الفساد ليس حادثاً عابراً بل طبيعة متجذّرة، وأنّ التعامل معه يحتاج إلى ردع جذري، لا إلى صبر وانتظار.
الدرس الثاني أن بناء الدولة لا يتم على أساس العواطف وحدها، بل يحتاج إلى قوة القانون والعدالة. لا يكفي أن يكون اللبنانيون طيبين، بل يجب أن يكونوا يقظين، قادرين على وضع حدود تمنع الأفاعي من التمدد. وهذا يعني فصل السياسة عن الطائفية، وبناء مؤسسات قضائية واقتصادية قوية، وإقامة نظام محاسبة حقيقي.
الدرس الثالث أن المستقبل اللبناني لن يُكتب بالعسل، بل بإرادة المواجهة. على الشعب أن يدرك أنّ كل تسامح مع الفاسدين هو عسل إضافي يغذي سمومهم. الطريق إلى الغد الأفضل يبدأ بقرار جماعي: التوقف عن إطعام الأفاعي، ومواجهتها بالحزم، واستبدال منظومة السموم بقيادة جديدة تحمل في جوهرها طبيعة مختلفة. عندها فقط، يمكن للبنان أن يتحرر من لدغات الماضي، ويستعيد حلاوة العسل التي حُرِفَت عن مسارها.
6. الخاتمة
الحكمة القديمة أثبتت صدقها في التجربة اللبنانية: الأفعى تبقى أفعى مهما أطعمتها عسلاً. لقد منح اللبنانيون عسلهم على شكل ثقة، صبر، ولاء، تضحيات، لكنّ الرد جاء دائماً على شكل سمّ: فساد، طائفية، نهب، خيانة. الدرس اليوم واضح: لا يكفي أن نكون طيبين لنصنع دولة، بل يجب أن نكون واعين وحازمين. فالأفعى لن تتحوّل إلى حمامة، والشر المتجذّر لا يتغيّر بالمعاملة الحسنة، بل يُكبح بالقوة والعدالة. إذا فهم اللبنانيون هذه الحقيقة وطبّقوها، عندها فقط يمكن أن يولد لبنان جديد، خالٍ من سموم الأفاعي، مليء بعسل الحياة الكريمة.






















































