تعال وحلها
د. غالب خلايلي
عندما ابتدأت العمل في عيادتي قبل عقود، نصحني ناصحٌ بوضع بدّالة هاتف مكلفة Operator ذات خطين، كيلا يضيع أي اتصال. وتطوّرت البدالات بعد سنوات، وصارت تكشف رقم المتصل، فبدّلت القديمة، لكن حتى الجديدة قدمت بعد سنوات، وإن بقيت تعمل حتى انقلب ظهر المجنّ وتعطلت ذات يوم!
هذا يعني أنني انقطعت عن مرضاي ورزقي، فركضت أستنجد بمعين، إلى أن جاءني (على وجه السرعة!) رجل غريب الوجه واليد واللسان، بعد ثلاثة أيام فحسب، وقد استطاع الأخ الكريم بخبرته الفائقة وحكمته- أن يفرط البدّالة إلى ستة عشر شريطاً مقطّعاً، وما عاد يعرف كيف يوصل بعضها ببعض، وهنا رفع يديه وأعلن يأسه قائلاً: أنا لا أفهم بهذا النوع من الأجهزة!.
حسبي الله ونعم الوكيل، خاصة أن الشركة الأم أعلنت أن بدّالتي قديمة، وما عادت معتمدة، ولا حلّ بسوى استبدالها! هذا يعني أن عليّ دفع الآلاف، فقررتُ أن أتدبّر أموري مؤقتاً بطريقة بدائية، إلى جاء ولدي المهندس الكهربائي في إجازة من مغتربه، وكان قد درس (الكتالوج) هناك، فاستطاع ربط الأشرطة المتقطعة خلال ساعة عمل، واستبدل ببطارية صغيرة مخفيّة تشبه العملة المعدنية أخرى جديدة، فعادت البدالة تعمل بكل نشاط (وعين الله عليها) بعد برمجة بسيطة تعلّمتها للطوارئ. يعني هل دماغ تقني الأجهزة أفضل وقد شهدنا مأساته؟
الشاهد هو أنك عندما تطلب من اختصاصيّ معروف أن ينجز لك عملاً، فالمفترض أنه يجيد دقائقَ عمله، وليس بحاجةٍ إلى أي توجيهات أو مراجعة. هذا ما يمكن أن تقوله اليوم عن أهل التقنية الذين يجلدوننا وقد صارت أجورهم أغلى من الذهب، فكم يخرّبون حياتنا كونهم يلعبون أو لا يفهمون مصلحتهم.
مرة طلبت صانع ستائر معروفاً جداً، والمفترض أنه -على قدر اسمه الكبير جداً- يضع ستائر لا يتشوّه شكلها مع أول نقرة، ولا تصطدم بالنافذة مع كل حركة، ذلك بديهي عند المهني المحترف، ولا يفترض بك أن تنبهه أو تشكو مع كل ستارةٍ يركبها.
والأمر نفسه عندما تطلب من كهربائي أن يركب لك (مقبساً)، فالمفترض أنه لن يحترق بعد ساعات، لأنه اختار المقبس والمأخذ بما يتناسب وقوة الجهاز المراد تشغيله، وكذا عندما تسلّم ملابسك للكوّاء، إذ يفترض أنه خبير بأنواع القماش ودرجة الحرارة اللازمة لكل قطعة، وأين يجب أن يضغط المكوى أو يخفّف الضغط، فلا يجعل القماش لامعاً، لاسيما فوق السحّاب والأزرار، ناهيك عن أنه يجب أن يعطيك ملابسك ذاتها، لا أن يعطيك ملابس الآخرين لأنه أضاع ملابسك.
وعندما تسلم بيتك للدهّان، فالمفترض أنه ملمّ بالبسائط مثل أن يكون الطلاء متجانساً، سليمَ الأحرف، غير مشرشر.
مثل هذا (التخريب) تجده في أماكن كثيرة، عند ميكانيكي السيارات الذي يخرّب أكثر مما يصلح، وعند النجّار والحدّاد ومصلّح الساعات، بل حتّى في وكالات مشهورة، كما سبق وأشرت في غير مقال، كما تجده في عوالم أخرى مثل الهندسة إذ تشيع فوضى الأبنية غير المتناسقة، والعيوب الهندسية الفاضحة التي تراها حتى عين (الغشيم)، وقد تجد مدناً ضخمة غير متسقة، وتعاني الزحمة، وندرة الحدائق، وغياب أماكن الاصطفاف، وندرة الصرف الصحي.
ويمكن أن يجد المرء مثل ذلك عند احتياجه إلى (فتوى) قانونية في العمل والوظيفة أو غيرها، ليسأل أهل الصنعة فإذا بهم يضعون المرء في متاهة لا يخرج منها إلا خاسراً وقته وماله.

ولا يستغرب المرء أن يجد في عالم الطبّ أموراً مشابهة، عندما لا يُعطى الخبز للخباز، فيجد أخطاء طبية، يصبح معها تصحيح الخطأ صعباً أو مستحيلاً، ومن ذلك تخريب أنف أو شفة أو أسنان، أو خدين، انظروا حولكم تدهشْكم التشوهات.
المحزن أنك في الظل تجد أناساً أكثر فهماً وخبرة وتواضعاً، آثروا الابتعاد عن الأضواء، وعن الجشع، يعرفهم قلة من الناس، يعيشون بهدوء، وينجزون بهدوء، إذ يتقنون عملهم بلا ضجيج، ولا يجنون إلا القليل.
لكن المشكلة اليوم هي عشق الأضواء، والرغبة في البقاء تحتها، فيركض الناس إلى الأضواء المتلألئة، ولكنهم في سعيهم إليها يشبهون الفراشات التي تسعى إلى النار.
في هذه الحياة، ليس كل ما يلمع ذهباً، وليس كل ما خفت ضوؤه رصاص أو قصدير، فأعاننا الله على التقنيات التي تذبحنا، مادياً ومعنوياً، وتدّمرنا بكذبها المنمّق، وحيلها المتزايدة في عالم بلا ضمير، حتى ما عدنا نعرف كوعنا من بوعنا، ولا رؤوسنا من أرجلنا.
كان الشرف في الماضي خير ضمان، واليوم صار مستثنىً بإلا، وغاب الأمان.
وعافاكم الرحمن.
العين 19/11/2025





















































