بقلم أ. عيد عبد الناصر
مقال جديد لمستشار التأمين السعودي وإدارة تحليل المخاطر والحوكمة الكاتب والناقد أ. عبد الناصر صاحب الخبرة التي تمتد الى أكثر من 40 عاماً تبوأ خلالها مراكز عدّة بينها مستشار في لجنة الصل في المنازعات والمخالفات التأمينية للبنك المركزي السعودي “ساما”، وقد عُيّن بقرار ملكي وآخر وزاري من مجلس الوزارء في المملكة العربية السعودية. ولمزيد من التفاصيل انقر على الرابط المرفق.
https://manhom.com/%D8%B4%D8%AE%D8%B5%D9%8A%D8%A7-%D8%A8%D9%86-%D8%AA/%D8%B9%D9%8A%D8%AF-D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B5%D8%B1%
قرأتُ مؤخرًا مقالًا للأخت أسيل منصور بعنوان «كنت أظنّ أن الخبرة لا تساوي الكثير.. حتى»، وقد دفعني للكتابة حول قيمة التجربة ودلالتها في الحياة المهنية.
كثيرون يخلطون بين التجربة والخبرة العملية، كما لو كانتا وجهين لعملة واحدة، لكن بينهما مسافة من النضج والوعي لا تُقاس بالسنوات، بل بعمق الفهم ونوعية الممارسة. الخبرة ليست مرور الزمن على الإنسان، بل هي حصيلة تراكمٍ من التجارب التي تشكّلت عبر الاحتكاك بالحياة والعمل، حتى أصبحت جزءًا من الحدس المهني والبديهة العملية.
أعرف زميلًا عمل ثلاثين عامًا في وظيفةٍ واحدة: إدخال بيانات فواتير المقاولين. وعلى الورق، تبدو هذه خبرة طويلة، لكنها في حقيقتها خبرة يومٍ واحد مكرّر ثلاثين سنة، فالزمن وحده لا يصنع الخبرة، إن لم يصاحبه تطوّر في الفهم وتجديد في طريقة الأداء.
الخبرة العملية الحقيقية هي القدرة على تحويل التجربة إلى معرفةٍ منظمة، وعلى صياغة تلك المعرفة في نسقٍ عملي يُختصر به الطريق ويُتجنّب به تكرار الأخطاء. فالتجربة الواعية ليست حدثًا يُروى، بل وعيٌ يُبنى.
تتجلّى قيمة الخبرة أكثر في المهن المعقّدة، كالأقسام الفنية في شركات التأمين: الاكتتاب والمطالبات مثلاً، حيث يتعامل الموظف يوميًا مع مئات الحالات المختلفة، التي قد يتداخل فيها الالتباس والغش والتأويلات المتعددة لنصوص الوثائق. ومع مرور الوقت وتكرار المواقف، تتكوّن لدى الخبير قدرة شبه فطرية على التمييز بين الصدق والادّعاء، بين ما يُقال وما يُخفى. وهذه القدرة لا تُدرّس في القاعات الدراسية، بل تُكتسب بالاحتكاك، بالتجربة، وبالخطأ والتعلّم منه.
خذ مثلاً السباحة أو ركوب الخيل أو صيد السمك؛ كلها تجارب جميلة، لكنها تبقى محدودة الأثر إن لم تتكرر. أما حين تتراكم وتُمارس بوعيٍ وتأمل، تتحول التجربة إلى معرفة، والمعرفة إلى خبرة، والخبرة إلى مهارةٍ ناضجة. فالنضج لا يأتي من كثرة التجارب فقط، بل من الوعي بما تعلّمناه منها.
قد يجادل البعض في إمكانية الاستغناء عن الخبرة العملية، بدعوى أن التعليم والتدريب كافيان. لكن الواقع أثبت أن التعليم يرسم الطريق، بينما التجربة تكشف أسراره. الشركات الناجحة هي التي تدرك هذه الحقيقة، فتعمل على حفظ ذاكرتها المهنية ونقل خبراتها المتراكمة بين الأجيال، لأن خسارة الخبرة تعني إعادة اختراع العجلة في كل مرة.
الخبير العملي يرى بسرعة ما إذا كانت الفكرة قابلة للتطبيق أم لا، لأنه جرّب وأخطأ وتعلّم من خطئه. أما من لم يخض التجربة فيعيش في مساحة الاحتمال، ويبدأ من الصفر في كل مرة. التجربة بلا وعيٍ بها تُشبه خطًا يُرسم على الرمل، تمحوه أول ريح. أما التجربة الواعية فتبقى أثرًا متجذّرًا في العقل والسلوك.
خلاصة القول، التجربة هي التي تمنح النظرية معناها، والتعليم هو الذي يمنح التجربة اتجاهها.
فمن دون التجربة، تظل المعرفة معلّقة في الهواء، ومن دون الوعي بالتجربة، تظل الممارسة تكرارًا بلا تطور. ومع مرور الزمن، يصبح الإنسان مزيجًا من عقلٍ يعرف لماذا، ويدٍ تعرف كيف، وقلبٍ يعرف متى يتوقف ليتأمل. هذا المزيج هو رأس المال الحقيقي لأي مهنة.
























































