أحمد محمد صباغ… الوقاية والمنع
“مفهوم إدارة الخطر وطُرُق مواجهته” هو الموضوع الذي أثرناه مع أحد روّاد التأمين الاسلامي في الوطن العربي الأستاذ أحمد محمد صبّاغ، الذي كان حتى الأمس القريب مدير عام شركة التأمين الاسلاميّة التي أسّسها مع روّاد في الاقتصاد الاسلامي في العالم وذلك في العام 1996، في عمّان، وكان عضوًا في مجلس الإدارة. ونظرًا لخبرته الواسعة في التأمين الاسلامي ومساهماته في نشر فكر التأمين الاسلامي، أردنيًا وعربيًا، فقد انتُخب رئيسًا للاتّحاد العالمي لشركات التأمين وإعادة التأمين الاسلامي (مقرّه في الخرطوم في السودان).
في هذا الحديث، جولة أجريناها معه حول مفهوم الخطر في التأمين.. كيفيّة إدارته ومواجهته.. كيفيّة الوقاية منه ومنعه، إلى غير ذلك من الأمور التي تهمّ خبراء التأمين وقد توسّع مداركهم ومعلوماتهم.
فإلى الحوار..
سألناه: ما مفهوم إدارة الخطر… قواعده الإداريّة وطرق مواجهته، أجاب:
– يُقصد بإدارة الخطر التحكّم فيه عن طريق التقليل من حجم الخسائر المتوّقعة عند حدوثه من جهة، والحدّ من تكرار حدوثه من جهة أخرى. ويرتكز مفهوم إدارة الخطر على مجموعة من الأساليب العلمية التي يجب أخذها في الحسبان عند اتخاذ القرار لمواجهة أي خطر من اجل منع أو تقليل الخسائر المادية المحتملة. ويتطلّب ذلك من الجهة المسؤولة عن إدارة الخطر أن تحدّده أولاً، ثم تقوم بتصنيفه وحساب احتمالات تحقّقه وحجم الخسائر المتوّقعة في حال وقوعه، تمهيداً لقياس الخطر كميّاً، ثم اختيار أفضل الوسائل لمواجهته والحدّ من آثاره. ويتوّلى عادة هذه الوظيفة شخص يسمى مدير المخاطر.
تاريخيًا، ظهر الخطر مع بداية القرن التاسع عشر كإدارة متخصّصة في المشروعات الصناعية حيث كان من أهمّ نشاطاتها توفير الأمن للعاملين بالمشروعات، وكذلك توفير الأمن لممتلكات هذه المشاريع. ومنذ ذلك التاريخ، اهتم العالم باستخدام الأساليب العلمية لمواجهة المخاطر. ومع ظهور الثورة الصناعية ووجود نُدرة في بعض الأيدي العاملة المدرّبة وارتفاع تكاليف إنشاء المباني وشراء المعدات، سعى أصحاب الأعمال لمنع وتقليل المخاطر التي يتعرّض لها العمال والممتلكات.
س: تحدّثت عن إمكانيّة إدارة الخطر.. كيف تحصل هذه الإدارة؟
ج: يتمّ ذلك من خلال دراسة أوجه النشاط المختلفة بالمشروع المراد تأمينه بهدف اكتشاف ومعرفة الأخطار التي يتعرّض لها المشروع. ولتسهيل عملية اكتشاف الخطر، تقوم الجهة المسؤولة بإعداد تبويب شامل للأخطار المختلفة التي يتوقّع أن يواجهها المشروع في مراحل نشاطاته المختلفة، بالإضافة إلى تبويب مسبّبات الخطر والعوامل المساعدة له والطرق المختلفة لمواجهتها، علمًا أنّ هناك ثلاثة أنواع من الأخطار: الجسيمة، وهي التي قد تؤدي إلى إفلاس المشروع. المتوسطة، وهي التي لا تؤدي إلى الإفلاس ولكن قد تؤدي إلى الاقتراض للاستمرار في الإنتاج. القليلة، وهي التي يمكن مواجهة خسائرها بسهولة من الدخل الجاري للمشروع.
لتحديد البدائل واختيار الوسيلة المناسبة لمواجهة هذه الأخطار، لا بدّ من اختيار الوسيلة المناسبة لمواجهة كل خطر على حدة، بناءً على حجم الخسارة المادية المحتملة والعوامل المساعدة للخطر والموارد المتاحة لمواجهة الخسارة إذا تحقّقتْ.
وبديهي القول أنّ عملية التقييم والمراجعة ضرورية لأن بيئة الأخطار ليست ساكنة بل هي بيئة متغيّرة. فالأخطار تتبدّل وتتغيّر ويختفي بعضها، كما تنشأ أخطار أخرى، لذا لا بدّ من المراجعة والمراقبة لتحديد أفضل السبل لمواجهة الأخطار قبل أن تصبح مُكلفة، وذلك من خلال التعرّف إلى مصدره وتقدير حجم الخسارة المحتملة في حالة وقوعه، ثم بعد ذلك اختيار الوسيلة المناسبة لمواجهته. وأهمّ طرق مواجهة الخطر هي الوقاية والمنع، التجزئة والتنويع، وتحويل الخطر. بالنّسبة للنقطة الأولى، فيطلق عليها أحياناً سياسة تخفيض الخطر: تقضي بمحاولة منع هذا الخطر كلياً إن أمكن أو بالحدّ من الخسائر التي يسبّبها في حالة وقوعه، عن طريق استخدام وسائل الوقاية والحدّ من الخسارة، وتقسم إلى قسمين: الأوّل يتمثل بتكليف شركة التأمين إحدى الشركات المتخصّصة بتقدير المخاطر للقيام بالتعرف إلى الخطر، وتحديد مصادره، وفهم طبيعة الأمور وتقدير نسبة احتمال تعرّض الموجودات للخسارة، إلى غير ذلك، وهذا ما يُعرف بــ Survey Pre Risk.
وما تجدر الإشارة إليه أن الشركات التي تقوم بهذه الخدمات التأمينية تعتمد في أدائها لمهامها على كادر من الموارد البشرية المؤّهلة وفي مختلف التخصّصات التي تتطلّبها العمليات التأمينية بأنواعها المتعدّدة. ومن ذلك على سبيل المثال: إقامة مانعات الصواعق فوق المباني العالية يعتبر وسيلة للوقاية من خطر الصواعق. كما أن استخدام التكنولوجيا الحديثة لتنظيم حركة المرور يمكن أن يقلّل من خطر حوادث المركبات على الطرق ومن خلال تدريب العاملين وإتباع تعليمات الأمن الصناعي يمكن التقليل من تكرار حوادث إصابات العمل.
القسم الثاني من الوقاية Loss Adjusters Survey يتمثّل بقيام الشركات المتخصّصة بتقدير الخسائر وبطلب من شركات التأمين معاينة موقع الخطر بعد وقوعه للقيام بالتقديرات الدقيقة للخسائر الفعلية الناتجة عنه، من خلال كوادرها المؤهلة وفي مختلف التخصّصات التي تتطلّبها المهمّة، والقيام بالإجراءات اللازمة لمنع ازدياد حجم الخطر وتفاقم الخسارة.
في ما يتعلّق بالتجزئة والتنويع، فالمقصود أن يقوم صاحب المشروع بتجزئة الشيء المعرّض للخطر بشكل يضمن عدم تعرّض جميع الأجزاء في وقت واحد لتحقّق مسبّب الخطر، ومن الأمثلة العملية على هذه السياسة قيام صاحب المشروع بتوزيع الموجودات على عدّة أماكن متباعدة جغرافياً، ويُشترط لتطبيق هذه السياسة ضرورة تجزئة الشيء المعرض للخطر ووجود مقدره مالية تمكّن صاحب المشروع من مواجهة أية خسائر فور حدوثها.
تبقى النقطة الثالثة وهي تحويل الخطر إلى طرف أخر نظير دفع مقابل معيّن لهذا الطرف مع احتفاظ صاحب الشيء موضوع الخطر الأصلي بملكيته للموجودات المؤمّنة. ويُعتبر التأمين من أهم وسائل تحويل الخطر وأكثرها انتشاراً حيث تقوم شركات التأمين بتعويض الأفراد والمنشآت المعرضين لخطر معيّن عن الخسارة المادية المحتملة التي لحقت بهم نتيجة لحدوث الخطر المؤمّن منه وذلك مقابل مبلغ محددّ يسمى قسط التأمين. وقد ساعد على نجاح وانتشار التأمين في مواجهة هذه الأخطار أن شركات التأمين اعتمدت على قانون الأعداد الكبيرة فقامت بتجميع عدد كبير جداً من الأخطار المتشابهة ومن ثم أصبحت هناك دقة في التقدير بين الخسارة الفعلية والخسارة المتوّقعة، ما ساعد في فرض قسط ثابت محدّد مقدّماً بالإضافة إلى إنها أدّت إلى توزيع الخسائر المادية التي تحققت لدى البعض على جميع المعرضين لنفس الخطر بطريقة عادلة. وعادةً ما تُتبع هذه الوسيلة في مواجهة الأخطار التي تكون فيها درجة احتمال وقوع الخطر ضئيلة بينما تكون الخسائر الناشئة نتيجة وقوع هذا الخطر كبيرة.
س: ما هو مفهوم الخطر.. شروطه وأقسامه؟
ج: اختلفت آراء الباحثين في علم التأمين في تعريف الخطر تبعاً لاختلاف الأساس الذي بنى عليه كل باحث تصوّره للخطر وأهم هذه التعريفات ما يلي:
- “هو عدم التأكد من وقوع خسارة معينة”. وقد اعتمد هذا التعريف على الحالة المعنوية للفرد عند اتخاذ قراراته، ذلك أنه قام على عدم التأكد الذي لا يخضع للقياس بطريقة موضوعية بل يتوقف على التقدير الشخصي للنتائج الناشئة عن موقف معين.
- “احتمال وقوع خسارة”، وقد اهتم هذا التعريف بشرط الخطر وهو أن يكون الحادث احتمالياً وليس مؤكداً أو مستحيل الحدوث.
- “الخسارة المادية المحتملة نتيجة لوقوع حادث معيّن”، وقد حصر هذا التعريف نوع الخسارة بأنها خسارة مادية.
- “احتمال وقوع الخسارة في الوسائل أو الأهداف”، وهو تعريف الخطر عند المختصين بالقانون.
- “أي حادث احتمالي يعقد من أجله التأمين”، وهو تعريف الخطر عند من يمارسون مهنة التأمين.
وعلى الرغم من عدم الاتفاق على تعريف موّحد للخطر على المستوى الدولي، إلا أن التعريف المرجح للخطر هو:
“الخسارة المادية المحتملة، والخسارة المعنوية التي يمكن قياسها نتيجة لوقوع حادث معيّن”.
ويمتاز هذا التعريف عن غيره بأنه لا يقتصر على الخسارة المادية فقط والتي غالباً ما ترتبط بأخطار الممتلكات والأشياء المادية الملموسة أكثر من ارتباطها بأنواع أخرى من الأخطار مثل أخطار الأشخاص وإخطار المسؤولية المدنية. لذلك فإن إضافة الخسارة المعنوية إلى التعريف تجعله أكثر شمولاً، ولكن بشرط قياس الخسارة المعنوية طبقاً للخبرة العملية أو التقدير الشخصي والتعبير عنها بشكل كمي حتى يتسنى حساب قسط التأمين ومقدار التعويض. وهذا التعريف ينطبق على جميع الأخطار، سواء أكانت تتعلق بالممتلكات أو الأشخاص أو المسؤولية المدنية.
س: كيف تنظر شركات التأمين إلى الخطر؟
ج: يُعتبر الخطر من أهم المشكلات الحيوية التي تؤثر على المشاريع تأثيراً فعالاً، لأن ازدياد الخطر يترتب عليه تبعات مالية كبيرة حال تحقّقه. وحيث أن كل المشاريع تتعرّض للمخاطر، فإن إدارة هذه المخاطر تكتسب أهمية كبيرة لأنها تستخدم الأساليب العلمية الحديثة لمواجهة تلك المخاطر وقد أصبح التحليل الاحتمالي للخطر أو ما يسمى بالتحليل الكمي للخطر يطبّق حالياً في كثير من القطاعات مثل النقل والمباني والطاقة، والتفاعلات الكيميائية، والمجال الحربي وحتى في تخطيط وتمويل المشروعات. وتعتمد شركات التأمين في قبولها للخطر أو رفضه على التوصيات المقدّمة لها من خبراء تقدير المخاطر أو الشركات المتخصّصة بذلك لتحمي نفسها من الخسائر الكبيرة التي تُخلفها المخاطر حال وقوعها. وترى شركات التأمين أن الخطر يتمثّل في الفرق بين الخسارة المتوّقعة والتي تمّ على أساسها احتساب قسط التأمين، والخسارة الفعلية التي تلتزم شركة التأمين بتعويضها في حالة تحقق الخطر المؤمّن منه. فالخسارة من وجهة نظر شركات التأمين تعني أن تزيد الخسائر الفعلية عن الخسائر المتوقّعة وذلك على المستوى الكليّ لأعمال الشركة في نوع من أنواع التأمين أو في مجموع أنواع التـأمين التي تقدّمها الشركة وليس على مستوى حادث معيّن.ويقل هذا الفرق إحصائياً إلى حدّه الأدنى كلما زاد عدد الحالات المعرّضة للخطر نفسه وهو ما يسمى بقانون الإعداد الكبيرة.
هناك مجموعة من الصفات والشروط يجب أن تتوافر في الخطر حتى تقبل شركات التأمين تأمينه وأهم هذه الشروط أو الصفات ما يلي:
- الاحتماليّة، بمعنى أن يكون الخطر محتمل الوقوع “لا مؤكداً ولا مستحيلاً” وذلك لان احتمال “عدم التأكد” هو العنصر الأساس في مفهوم الخطر القابل للتأمين، ويقصد هنا بالاحتمال عدم حتمية وقوع هذا الخطر فهو قد يتحقّق وقد لا يتحقق، فحادث السيارة أو حريق المصنع أو سرقة المنزل كلها حوادث محتملة الوقوع ولكنها ليست حتمية الوقوع بينما خطر الوفاة مثلاً حتمي الوقوع “مؤكد الحدوث” إلا أن عنصر التأكد هنا يتعلق في توقيت حدوث الوفاة. فإذا كان الخطر مؤكد الوقوع، فإن شركات التأمين لن تقوم بالتأمين ضد هذا الخطر، أما إذا كان الخطر مستحيل الوقوع، فإن الفرد لن يؤمّن على خطر لن يقع ويتحّمل تكاليف هو في غنى عن دفعها، فمثلاً لا يجوز التأمين على بضاعة شحنت بحراً ضد أخطار الرحلة البحرية بعدما تكون البضاعة قد وصلت سالمة ويعلم طرفي العقد أو أحدهما بذلك لأن احتمال غرقها أصبح غير واردٍ هنا. ويرتبط شرط الاحتمالية هنا بشرط آخر هو أن يكون الخطر مستقبلي الحدوث والذي سنشير له لاحقاً.
- أن يكون الخطر موضوع التأمين قابلاً للقياس بشكل كميّ، فيما أن التأمين يقوم على أساس تعويض الخسائر الناجمة عن تحقق الخطر المؤمّن ضده فإنه من المنطقي أن تكون هذه الخسائر قابلة للقياس ويمكن التعبير عنها كميّاً حتى يسهل على شركة التأمين حساب القسط الواجب استيفاؤه من طالب التأمين. فمثلاً عند حدوث حادث اصطدام سيارة، فان شركة التأمين تقوم بالتعويض عن الأضرار المادية القابلة للقياس كميّاً مثل مصاريف العلاج، إصلاح الأضرار بالسيارة، أو إصلاح ممتلكات الغير التي تضررت بفعل الحادث، وكذلك دفع بدل الضرر أو العطل الذي نجم. أما الأضرار النفسية كالألم والمعاناة والخوف، فانه لا سبيل إلى تعويضها لأنها لا تخضع لمبدأ القياس والتقييم.
- أن تكون الخسارة الناتجة عن وقوع الخطر المؤمن ضده عرضية وغير مقصودة بمعنى أن يكون الخطر لا إرادياً محضاً، ويشترط أن يكون الخطر غير مرتهن وقوعه بأحد طرفَيْ عقد التأمين وإنما يرتهن بإرادة طرف ثالث مستقل أو بظروف لا دخل لطرفَيْ العقد فيها ولا يملكون أمرها، وبذلك، فإن شركات التأمين لا تقوم بتعويض الشخص الذي يتعمد إلحاق الضرر بالشيء المؤمن عليه لأن هذا الفعل المتعمد ليس حدثاً وقع بصورة عشوائية كما أن تعمد حدوث الضرر يخالف قانون الأعداد الكبيرة الذي يعتمد وبصورة أساسية على الأحداث التي تقع بصورة عشوائية.
- أن يكون الخطر موضوع التأمين مشروعاً قانوناً، وأن يكون أخلاقياً فلا يجوز مثلاً التأمين على بضائع مسروقة أو مهرّبة ولا تستحق التعويض عند تحقق الخطر، كما أن شركات التأمين لا تقوم بالتأمين ضد مخالفات السير أيضاً لأن في ذلك مخالفة غير قانونية وغير أخلاقية، ومثلها الأضرار الناتجة عن حادث سير تبيّن أن السائق كان تحت تأثير المخدرات أو السُكر فلا يستحق التعويض.
- أن يكون الخطر المؤمن ضده مستقبلياً، بمعنى أن الخسارة يجب أن تخضع لعنصر الصدفة، بحيث تكون محتملة وغير مؤكدة الوقوع لان الخسارة التي وقعت بالماضي أو الخطر الذي حدث بالماضي هو مؤكد الوقوع واحتمالية حدوثه 100% ولا يجوز التأمين ضد خطر مؤكد الوقوع، فمثلاً الاستهلاك الطبيعي للآلة أمر مؤكد الوقوع فلا يجوز التأمين عليه.