ضياع
إعداد الصيدلي أنطوان مقبل
كثيراً ما نسمع كلمات تتكرّر على ألسنة الناس يصفون فيها حالات نفسية وعقلية معينة لدى بعض كبار السن ممن يعانون تدهوراً في الوظائف الذهنية، يُطلق عليها البعض اسم “الخرف” فيما يسميها آخرون “الزهايمر” دون معرفة الفارق الطبي بين المرضَيْن، وهو ما سنأتي على ذكره لاحقاً. ويشمل هذا التدهور، الذاكرة والتفكير والقدرة على التعلّم، الى غير ذلك من القدرات.
موضوعنا اليوم هو دواء جديد لعلاج مرض ألزهايمر اسمه Leqembi انطلق هذا العام ونال موافقة منظمة الدواء والغذاء (FDA) في شهر تموز (يوليو) الماضي. ويعمل هذا الدواء بطريقة جديدة تختلف عن الطرق التي تعمل بها الأدوية التقليدية المستخدمة حتى الآن.
بداية، ماذا عن داء ألزهايمر والأدوية المستخدمة حتى الآن لمعالجته، وكيف تطوّر مفعول هذه الأدوية، وصولاً الى الدواء الجديد.
قبل أن نخوض في تفاصيل الدواء الجديد؟ لا بدّ من إبراز الفارق بين الزهايمر وبين الخرف الذي يُطلق عليه بالإنكليزية اسم “Dementia”، بعد الخلط السائد بين الناس بين المرضَيْن المتشابهَيْن الى حدّ ما.
بالنسبة للخرف أولاً، فإنه اضطراب في الدماغ يتفاقم بمرور الوقت، ويتّسم في، البداية، بحدوث تغييرات فيه تؤدي الى تسربات بروتينات يُسمّى بعضها “Beta Amyloid”، وهذه تؤدي بدورها الى تقلّص وموت خلايا الدماغ وصولاً الى الخرف الذي هو تدهور تدريجي في الذاكرة والقدرة على التفكير والمهارات السلوكية والإجتماعية والذي يؤثر في قدرة الشخص على إداء وظائفه اليومية حتى البسيطة منها. نشير الى أن المرض هو أحد أسباب الخرف وليس السبب الوحيد، في حين أن عدة أمراض مختلفة من ألزهايمر تؤدي الى الخرف، لذا لا مجال للدخول في تفاصيلها الآن، مع العلم أن مرضى يُشكّلون القسم الأكبر من المصابين بالخرف، اذ يبلغ عدد المصابين به في الولايات المتحدة وحدها، نحو ستة ملايين ونصف المليون مصاب من الذين تتعدى أعمارهم الخمسة والستين عاماً، وهذا لا يعني أن من هم أصغر سناً ليسوا معرضّين للإصابة به، بل أن عددهم أقلّ من ذلك بكثير. وعلى الصعيد العالمي، تشير الإحصاءات الى أن نسبة ستين الى سبعين بالمائة من الذين يعانون الخرف هم من المصابين يتطوّر مع الوقت، بحيث يؤدي في المراحل المتقدمة الى تدهور شديد في وظائف الدماغ، الى الجفاف أو سود التغذية أو غيرها من المضاعفات قد تؤدي الى الوفاة.
ولا يوجد حتى الآن علاج يشفي نهائياً من مرض ألزهايمر، انما يتمّ استعمال أدوية تهدف الى تخفيف الأعراض، أو الى تغيير في مسار المرض فيصبح المسار بطيئاً أكثر فأكثر وهو ما يفعله الدواء الجديد. وسأتناول هذا الموضوع بالتفصيل في المقارنة بين مختلف الأدوية المستعملة في هذا المجال.
وفي المعلومات المتداولة حتى الآن أن ترسبات “Amyloid” المذكورة تتسبّب، أولا، بعدة اضطرابات أبرزها انخفاض في مادة “acetylcholine” أو زيادة غير طبيعية في مادة “Glutamate” (والمادتان هما من الناقلات العصبية في الدماغ) فتكون النتيجة انخفاضاً في كمية الدم التي تصل الى الدماغ، وبالتالي تقلّص وخلايا دماغية وموتها ما يؤدي الى تدهور في كافة الوظائف. من هنا اختلاف طرق عمل الأدوية المعالجة لهذا الدواء. فالأدوية التقليدية تعمل على مستوى الناقلات العصبية من “acetylcholine” و “Glutamate” فيمنع بعضها انخفاض الأولى مثل دواء “Donepezil” ودواء “Rivastigmine” ويمنع بعضها الآخر الزيادة الكبيرة للثانية مثل دواء “Memantine”. وكلاهما أي النقص والزيادة غير الطبيعيَيْن، يؤديان الى موت خلايا دماغية والحاق الضرر بالذاكرة وبسائر الوظائف الدماغية، وهو ما يُفسّر أعراض داء ألزهايمر.
وبعدما كشفت الأبحاث ضلوع مادة “Beta Amyloid” في التلاعب بمستويات الناقلات العصبية، أعلن عن دواء جديد يعمل على التصدي لهذه المادة البروتينية. من هنا نفهم الفرق من دواعي الإستعمال المعلنة من قبل الشركات المنتجة لكل من هذه الأدوية. فالأدوية القديمة يُروّج لها على أنها تعالج أعراض ألزهايمر الخفيفة منها والمتوسطة والشديدة، دون ذكر أية مرحلة من مراحل المرض. أما النشرة الطبية للدواء الجديد، فتتحدث عن معالجة المرحلة الأولى من المرض، علماً أنه نال موافقة منظمة الدواء والغذاء الـ FDA على هذا الأساس، بمعنى معالجة المرضى الذين يعانون ضعفاً إدراكياً خفيفاً ممن أكدت الفحوص وجود مادة “Amyloid” في أدمغتهم، وبذلك يكون العلاج المبكر للمرض قبل استفحال الأعراض الى أخرى أكثر قسوة بحيث تصبح معالجتها أكثر صعوبة. فالتسلسل في تطوّر المرض هو كالتالي: تراكم مادة “Amyloid” يؤدي الى اضطراب في كميات الناقلات العصبية، يليه نقص في تدفق الدم الى الخلايا، ثم موت الخلايا، فتكون بداية الأعراض التي تبدأ خفيفة ثم تصبح أكثر حدة وخطورة. وهنا يظهر بوضوح تميّز الدواء الجديد عن الأدوية القديمة بحيث يعالج الأمور في مهدها بدلاً من أن تعالجها الأدوية التقليدية بعد استعمالها، ومن هنا الفارق الذي ذكرته بين التخفيف من الأعراض الذي تمارسه الأدوية المستعملة حتى الآن وبين تغيير مسار المرض الذي يُمارسه الدواء الجديد، أي جعل هذا المسار بطيئاً أكثر فأكثر، فيكسب المريض بضع سنوات للعيش بأقل ما يُمكن من المعاناة.
الى ذلك، يحتوي المستحضر الجديد على مادة “lecanemab” ويسوّق تحت اسم “leqembi” وهو من انتاج ياباني أميركي مشترك من خلال شركَتَيْ “Eisai” و “Biogen” وهو يُعطي عن طريق الوريد ولكن بطريقة بطيئة على مدى فترة من الزمن لا تقلّ عن الساعة ولمرة واحدة كل أسبوعَيْن، على عكس الأدوية القديمة التي يتناولها المريض عن طريق الفم. وطريقة التسريب هذه “Infusion” تتمّ اما في المستشفى أو في مراكز طبية متخصّصة على يد اخصاصيين. وقد أوصت إدارة “FDA” بالتأكد من وجود “Beta-Amyloid” لدى المريض قبل المباشرة باستعمال الدواء، وهذا التأكد يتمّ عن طريق فحوص معينة بينها “Petscan” و “MRI” وغيرهما من الفحوص التي يطلب الطبيب إجراءها قبل إستعمال الدواء.
الجدير بالذكر أنه لم تجرِ أيه تجارب للدواء، حتى الآن، على أشخاص يعانون مراحل متقدمة من المرض. لكن التجارب التي أُجريت على هذا العقار عديدة، أولها دراسة سبقت موافقة الـ FDA مباشرة وكان لها الدور الأكبر في هذه الموافقة، وهي دراسة أشرف عليها الدكتور Christopher Van Dyck والتي شملت (1795) شخصاً يعانون الأعراض الأولية لداء ألزهايمر وتتراوح أعمارهم بين خمسين وتسعين عاماً. وقد تناولوا العقار بجرعة عشرة ميليغرامات لكل كيلوغرام من الوزن وذلك مرة كل أسبوعَيْن. وقد أظهرت النتائج تباطؤاً في التدهور العقلي بنسبة 27 بالمئة خلال ثمانية عشر شهراً (أي سنة ونصف السنة). والتباطؤ هذا شمل الذاكرة والوظائف الإدراكية، كما أظهرت فحوص “PetScan” و “MRI” انخفاضاً ملحوظاً في مستويات الـ “Beta Amyloid” في الدماغ، وهي المادة المسؤولة عن المرض. ولكن الدراسة أظهرت آثاراً جانبية لعقار أبرزها ظهور انتفاخ “Qedema” في منطقة الدماغ مع وجود بقع صغيرة من الدم. وهذه الآثار لم تتمظهر باية أعراض لدى أكثر الأشخاص وانما تمّ اكتشافها بواسطة فحوص معينة مثل “Petscan” و “MRI”. وما لبثت أن زالت بأكثريتها بعد وقت معيّن، الا في بعض الحالات حيث كان لها نتائج لا تخلو من الخطورة، وخاصة لدى أشخاص يتناولون أدوية مضادة لتختّر الدم (أي مسيّلة للدم)، كما لدى الأشخاص من ذوي جينات معينة في أجسامهم حدّدها الباحثون ومنعوا بموجبها حامليها من تناول العقار.
وقبل هذه الدراسة، أجريت تجارب عديدة أيضاً لم ترقَ بأهميتها اليها، لأنها تناولت أعدداً صغيرة من المرض، الا أنها أظهرت نتائج لا تخلو من الأهمية بخصوص هذا الدواء. وقد أجريت هذه التجارب في آذار (مارس) من العام 2019، ثم في تشرين الأول (أكتوبر) 2020 وفي أيلول (سبتمبر) 2021 ، كما في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 ، وأخيراً وليس آخراً في أيار (مايو) 2022.
ومن الأبحاث البارزة أيضاً هي تلك التي تمت في جامعة واشنطن وخلصت الى أن الدواء أدى الى تباطؤ في الأعراض بنسبة ثلاثين بالمئة بعد ثمانية عشر شهراً من العلاج. وتبيّن للباحثين أن نسبة 15 الى 20 بالمئة فقط من مرضى ألزهايمر كانوا مؤهّلين للعلاج بهذا الدواء لأنهم كانوا في مراحل مبكرة وقبل استفحال الأعراض.
وفي تحليل إضافي للدراسات التي أجريت على دواء “leqembi” ، تبيّن أنه حتى لو توقّف المرضى عن تناول الدواء خلال أكثر من تسعة أشهر فإنهم يستمرون بالإستفادة من مفاعيله.
وقد أظهرت الأبحاث حول مرض ألزهايمر المستمرة أن هناك بروتينات أخرى غير “Beta Amyloid” قد تتراكم في الدماغ وتؤدي الى الإصابة بالمرض، وأن التورّم وبقع الدم في الدماغ يحصلان بعد تناول الدواء مع كل مادة تقاوم هذه الأنواع من البروتينات وليس فقط مع مادة “Lecanemab” الموجودة في الدواء، أي أنها ستكون آثاراً جانبية لأي دواء جديد يمكن انتاجه ويعمل بنفس الطريقة.
وبالحديث عن هذين الأثرين الجانبيَيْن، فقد تبايَنت آراء المحللين العلميين بخصوصهما. صحيح أن ما حصل لأكثرية المرضى زال بعد فترة معينة ودون أعراض تُذكر، الا أنه بالنسبة لعدد آخر وإن كان أقل، كان أكثر خطورة إذ أدى الى وفاة ثلاثة أشخاص من أصل 1795 شخصاً خضعوا للدراسة.
من هنا كانت التباينات في آراء هؤلاء المحللين، بين من حمّل الدواء مسؤولية هذه الوفيات وبين من قال إن الوفاة ناتجة عن مشاكل صحية معينة ربما كان يعانيها هؤلاء الأشخاص. مع ذلك، ففي تقييمهم للدواء، يعتبرون أن فوائده تفوق أخطاره.
وبالإضافة الى هذين التأثيرين الجانبيَيْن، كانت هناك آثار جانبية أخرى ولو هي أقلّ حصولاً، وهي ألم في الرأس، دوخة، عدم وضوح في الرؤية، غثيان، تقيؤ، إسهال، سعال، وهذه الأعراض قد تحصل نادراً ولكن يقضي الواجب تعدادها.
أما في ما خصّ موانع الإستعمال، فإن المستحضر يُمنع إعطاؤه لمن لديه حساسية تجاه مادة “Lecanemab” أو اتجاه أي من المواد الأخرى الموجودة فيه والتي تعمل على تسهيل امتصاصه أو لحفظه أو لأي هدف آخر غير دوره العلاجي. ومن بين التحذيرات، وحرصاً على عدم حصول أي ردة فعل خطرة من جراء ادخال الدواء في الوريد، تشير المعلومات الى ضرورة إعطاء الدواء في المستشفى أو في عيادة طبية متخصصة والأفضلية بإشراف طبيب. بالإضافة الى ضرورة إجراء فحص جيني مسبق قبل المباشرة بالعلاج وهو ما ذكرته سابقاً.
وهناك عدة فحوص أخرى ينبغي إجراؤها قبل الإستعمال وبعد الإستعمال بشكل دوري، حتى لو لم تكن هناك آثار جانبية ظاهرة.
وعن التفاعل مع أدوية أخرى، فقد ذكرتُ سابقاً الأدوية المسيّلة للدم، لذا ينبغي إعلام الطبيب عن أي دواء يتناوله مريض ألزهايمر قبل البدء بالعلاج. ويقول الباحثون أن هناك حاجة الى المزيد من التجارب والمزيد من الإستعمال لتحديد فعالية الدواء ومدى تقبّل المرضى له بأقل ما يُمكن من الأضرار على المدى المتوسط والبعيد.
الجدير ذكره أيضاً أن العقار الجديد لم يدخل السوق اللبنانية بعد، كما الكثير من الأدوية الجديدة، وذلك بسبب الوضع الإقتصادي المؤسف الذي نعيشه. نأمل حصول ذلك في وقت قريب.
ختاماً، ورغم كل ما يقال عن التأثيرات الجانبية للدواء والتي لا يخلو منها أي مستحضر، الا أن انتاجه يُعتبر اختراقاً كبيراً لجدار كان يحرم عدداً من كبار السن في قضاء شيخوخة مريحة في نهاية أعمارهم، فضلاً عن أن هذا الإنتاج فتح المجال واسعاً لأبحاث جديدة على مختلف المستويات. ونشير هنا الى أن المعهد الوطني للشيخوخة في الولايات المتحدة (NIA) (وهو مؤسسة أنشئت بهدف تحسين الوضع الصحي للمسنين من خلال الأبحاث) وَعد بإجراء دراسات حول علاجات جديدة تستهدف بروتينات أخرى ممكن تراكهما في الدماغ غير “amyloid” وتؤدي الى الإصابة بهذا المرض. كما بدأت جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو أبحاثاً حول مادة جديدة لعلاج ألزهايمر وهي أبحاث وُضعت الخطط لإكتمالها عام 2026، وهذا كله جزء من محاولات عديدة يجري الإعداد لها بعد توقف الأبحاث عن علاجات جديدة لمدة عشرين سنة. الأمل كبير والتمنيات كثيرة. إذا كان هدف الباحثين في الطب التخفيف من الآلام الجسدية للناس في منتصف العمر وفي خريف العمر، فإن التخفيف من الآلام العقلية والنفسية هي من الأولويات التي ينبغي الإهتمام بها، لجعل المسنين يتمتعون بنسبة معقولة من القدرات العقلية، وذلك لتمرير مرحلة الشيخوخة بأقل ما يُمكن من القلق والمعاناة والآلام النفسية، الى جانب الأبناء والأحفاد وسائر أفراد العائلة.