إعداد مادلين طوق
الأبنية الأثريّة المنتشرة في المناطق القريبة من مرفأ بيروت، تحديدًا منطقة الجميزة – مار ميخائيل وشارع سرسق في الأشرفية، نالت الحصّة الأكبر من الضرر نتيجة الانفجار المزلزل في 4 آب الماضي. ووفقًا لما ذكره الأمين العام للهئية العليا للإغاثة اللواء محمد خير، فإنّ عدد هذه المنازل يصل إلى خمسين منزلاً والبعض منها يصحّ نعته بقصر. ويتخوّف كثيرون، لا سيما منهم مهندسو ترميم البيوت الأثريّة، أن تتعرّض تلك البيوت للهدم في ظلّ الفوضى القائمة، أو يتمّ التعامل معها وكأنّها أيّ مبنى عادي بلا تاريخ ولا خصوصيّة. ومن المعروف أنّ إصلاح وترميم مثل هذه البيوت الأثريّة يحتاج إلى تمويل من منظّمات دوليّة وعالميّة، كما يحتاج إلى وزارة ثقافة مُدركة هذا الواقع، الأمر الذي لم يلحظه أحد. وما دفع إلى التشاؤم، أنّه في اليوم التالي للانفجار، قرّر المعنيّون هدم مبنى تراثي لمجرّد سقوط سقف، ولكن تمّ تدارك الأمر لاحقًا.
وإزاء هذا الواقع ومنعًا لأيّ “مجزرة” أثريّة، شكّلت نقابة المهندسين لجنة ضمّت خبراء واختصاصيّين وإنشائيّين مهمّتها الإشراف على ترميم منازل بيروت التراثيّة. تزامنًا، تنادى ما يصل إلى ألف مهندس كمتطوّعين، للمساعدة على ترميم البيوت الأثريّة المتضرّرة وجمع تبرّعات لهذه الغاية، علمًا أنّ معظم الأضرار تمثّل بانهيار الواجهات الزجاجيّة لهذه البيوت وسقوط سقوفها المغطّاة بالقرميد، وتصدّع شرفاتها المطرّزة، وتناثر قناطرها التي تجسّد حقبة معماريّة ذات جذور تاريخيّة.
من المعالم الأثريّة التي كان دمارها مؤذيًا ومُكلفًا، قصر بسترس في الأشرفية الذي تحوّل متحفًا والبالغ من العمر 160 عامًا. لقد صمد هذا القصر في وجه حربَيْن عالميّتَيْن، ولكنّه لم يستطعْ الصمود إبّان الحرب الأهلية التي عرفها لبنان بين عامَيْ 1975 و1990، إذ تعرّض لأضرار كبيرة احتاج أصحابه إلى 20 عامًا لترميمه وفق الأصول، وإعادته إلى سابق مجده، لكنّ انفجار مرفأ بيروت لم يرحمه، فدُمِّر من الخارج والداخل، إذ انهارت السقوف، وتكسّر الرخام وتصدّعت الجدران مصطحبة معها صورًا تاريخيّة ثمينة. على أنّ الصُور التي التقطت بعد الفاجعة، تبقى أصدق إنباءٍ من الوصف الإنشائي! إنّ قصر بسترس يحتاج اليوم إلى ترميم دقيق، كما لو أنّه سيعاد بناؤه من الصفر!
تراث آخر دمّره انفجار المرفأ، هو تراث دور أزياء مصمّمين لبنانيّين وصلوا إلى العالميّة، مثل ايلي صعب، ربيع كيروز، طوني ورد، عبد محفوظ وزهير مراد، والأخير أجهش بالبكاء كالأطفال وهو يشاهد ما حلّ بمشغله المؤلّف من أحد عشر طابقًا، والذي هو ثمرة عشرين عامًا من التعب والكدّ في عالم الأزياء، ليخسر كلّ ذلك في ثوانٍ. وفي لحظة غضب، قرّر أن يترك لبنان ويهاجر، ولكن سرعان ما استعاد عزيمته وتمسّك بالأمل وقرّر أن يعيد بناء ما خسر من جديد.
وعلى غرار زهير مراد، تلقّى المصمّم ربيع كيروز ضربة قاسية في مشغله الواقع في منقطة الجميزة، في مبنى تراثي قديم أعاد تجديده منذ سنوات. ولم يكتفِ بهذه الفاجعة التي حلّت به، بل أصيب في رأسه، ما اضطرّه للدخول إلى المستشفى والخضوع للمعالجة.
مصمّمان آخران لم يسلما كذلك من الانفجار: عبد محفوظ وداني أطرش. الأوّل تعرّضت أزياء مشغله التي كان يجهّزها لزبائنه، إلى التلف والتمزّق، فتقبّل ما أصابه وأطلق سريعًا ورشة الترميم. أمّا الثاني فقد خسر منزله التراثي الذي تهدّم في الأشرفية، كما مشغله في وسط بيروت الذي نال نصيبه من الدمار.
يبقى المصمّم أيلي صعب الذي “مزّق” هذا الانفجار المزلزل كلّ ما يملك من حجر وأزياء، سواء كانت معروضة أو قيد التصميم والإعداد، فضلاً عن مقتنياته التي تبعثرت، وقناطر مشغله التي تكسّرت، وواجهات وشرفات منزله التي أزيلت واتّكأ بعضها على البعض الآخر. كان همّ ايلي صعب لحظة الانفجار أن يكون العاملون معه وعددهم 200 شخص قد نجوا بسلام، مع أنّ نجله ايلي جونيور قد أصيب وعولج. صعب، مع كلّ ذلك، قرّر إعادة بناء ما هدّمه الانفجار، لأنّه بالصلابة والعزم يمكن تحقيق الكثير…