الأدب والطبّ معًا
عندما يكون الطبيب أديبًا أو الأديب طبيبًا، لا فرق، يكون التعامل معهما متميّزًا لأنّ الطبيب الأديب يعامل مرضاه بأسلوب مختلف تمامًا عن تعامل أيّ طبيب آخر: إنسانيًا، علاجيًا، وَصْفات للأدوية إذ يكون عددها محدودًا جدًّا، ورؤوفًا بل راقيًا في وَضْع تسعيرة لبدل المعاينة… ويكاد الكلام نفسه ينطبق على من نَمَتْ في صباه بذور الأدب وهو شاب يافع، ثمّ لجأ إلى الطبّ دارسًا متعمّقًا، سعيًا إلى احتضان المجد من طرفَيْه…
د. غالب خلايلي الأديب والطبيب، الذي شقّ دربهما بكثير من الجهد والمعاناة، ولا نعرف بأيّ منهما بدأ، هو واحد من هذه المدرسة التي يمضي فيها مدرّسًا مجليًا، لعلّ أعداد من هم مثله تتضاعف في زمن بدأت تنعدم فيه القيم والأخلاق…
فإلى ما خطّه القلم بيدٍ على مرأى من مبضع في اليد الأخرى…
* * *
د. غالب خلايلي
هناك أناسٌ ينصبّ كلّ تفكيرهم في بطونهم، على غرار “أشعبَ” وأمثاله من الطفيليين، أوغيرهم من الجشعين والمحبّين لبطونهم، وكذا المُكرهين على الجوع، إلا أنني في مقالي لا أعني هذا النوع الشائع المتناقض، والذي يأخذ بُعداً مادياً صرفاً، إنما أعني نوعاً أصعب بكثير، غير مادي، يتحوّل فيه الدماغ والمشاعر السلبية والارتكاسات الانفعالية كلها إلى البطن.
ووجه الإزعاج المقلق ههنا هو كثرة المنغّصات التي تؤدي إلى تلك الانفعالات المضنية، حتى ليبدو أنه ما من خيار أمام الناس في أن يكونوا من هذا النوع أو ذاك، فهم إما بطنيون بدرجة ما، وإما غير بطنيين (قد يكونون صدريين أو مفصليين أو مصدوعين عند الشدة..)، وعليهم أن يتأقلموا على ما فُطروا عليه، بعد أن يتعرّفوا إلى حقيقة أجسامهم وجملتهم العصبية، وما هذا بالسهل، لاسيما في المراحل الأولى، فكيف يدرك سوى اللبيب حالةَ طفله مثلا وهو يشكو أوّلَ مرة (ثم المرّة تلو الأخرى) من ألم بطني لسبب غير بطني (مدرسي أو عائلي مثلاً)، أو تدرك اللبيبة حالة طفلتها التي يكاد يغمى عليها من الألم عندما ترى زميلة لها تلبس ثوباً جميلاً أو تلعب بلعبة جذابة؟ إن مراجعة الطبيب الحاذق يمكن أن تكشفَ أنه لا يوجد سببٌ مؤلم في البطن، بعد أن ينفي قائمة الأسباب، فيصبح مع الزمن خبيراً في كشف مثل تلك الحالات دون جهد، ويدعو في سرّه وجهره لأمثال هؤلاء بصلاح الحال وهدوء البال في قابل الأيام.
ولكن أين هو هدوء البال، وفي الحياة عدد لا ينتهي من التحدّيات، تبدأ مع أول صرخة للوليد تقضّ المضاجع وتخرب السكون دون سبب واضح أحياناً، اللهم سوى قليل من الغاز في البطن، ويستمر بمثل هذا “الموّال” في شبابه – وإن بنغمةٍ مختلفة – والظروف كما تدرون، وربما تتفاقم في خريف العمر لاسيما عند النساء بعد سن الضهي (توقّف الإباضة وخلل الهرمونات)، أو بعد الإصابة بالأمراض المختلفة المرتبطة أو غير المرتبطة بتقدم العمر.
***
في طفولتي لا أذكر أنني عانيتُ ألماً بطنياً ماغصاً سوى ما يتعرّض له آلاف الأطفال الطبيعيين عند وجود إمساك أو إسهال أو رضّ أو ظرف عصيب (قبيل الامتحان مثلا)، وهو ألم عابر ينتهي بنهاية أسبابه. وأظن أنه ما من أحد إلا واختبر الانفعال البطني، عندما ينطلق أمامه شقيٌّ فجأة بسيارة مسرعة ذات صوت مرعب، أو عند سماعه انفجاراً أو خبراً مؤسفاً لم يكن يتوقّعه. أحدهم يقول لك: عندما رأيتُ ذلك المشهد (تكركبت مصاريني) أو (تخربطت أمعائي).. إلخ من تلك التعابير التي تعبّر عن حالة عابرة، أما أن يصبحَ الانفعال كله في البطن، ويستديم، مهما يكن السبب تافهاً، مثل زمّور سيارة أو رنّة هاتف أو فتح باب، فهو أمرٌ في غاية الإزعاج.
عانيتُ من ذلك بين وقتٍ وآخر ولو بفواصل متباعدة جدّاً. أذكر أنّني في بدايات افتتاح عيادتي (وقد مرّ اليوم ربع قرن على ذلك) كنت أتوتّر بطنياً كلما استُعجلتُ للذهاب إلى العيادة، مع منتِظرين لا يصبرون (وصبر الناس مختلف بين مِنطَقة وأخرى)، فينقبض مؤلماً، ويبقى كذلك حتى عودتي من العمل والاسترخاء في البيت ساعة أو ساعتين. ساعدتني الموسيقى الهادئة والحياة الروحية على تجاوز تلك الحالة، حتى غدت الأمعاء ساكنةً مرتاحة كأنها غير موجودة، فلا أتذكّرها إلا في مرض طارئ. بَدَهِيّ أنني صرت مع الزمن خبيراً بأنواع تلك الآلام، من الالتهابات المعوية الحادة المضنية (المرافقة للسفر عادة وما يتلوّث من طعام، لاسيما في غياب الكهرباء والماء)، إلى التهاب الكبد، إلى الحصاة الكلوية النازلة، إلى حمّى البحر المتوسط، لتبقى الأخيرةُ أصعبَها (أبعد الله عنكم وعنا ما هو أصعب)، لأنها إذا زارتك لا ترحل إلا (على كيفها)، وما على صاحبها سوى تناول المسكنات، لأن ألم البطن المنتشر (الذي يقلد التهاب الزائدة أحياناً) مزعج حتى الثمالة، خاصة مع حمى مرافقة، وتعب وانحطاط (دعث) ونقص شهية (قَمَه)، وكلها تدفعك دفعاً إلى الانزواء والاستكانة والنوم عسى أن تنتهيَ الآلام، لتبدأ بالتحلحل البطيء خلال أيام، حتى إذا ما انتهت وعاد البطن إلى سكونه شعر صاحبها كأنه وُلِد من جديد.
مرّت عقودٌ دون أن أعانيَ تلكَ الحالةَ حتى أتى عام الجراحة القلبية في آب 2021، والذي كنتُ قد أسهبت في وصفه سابقاً. ومع أن الظروف التي أجريت بها العملية أكثر من مثالية، إلا أن ألم البطن والقشعريرة فاجآني بعد العملية بيومين (مع نهاية التخدير القوي)، وأدخلاني في حيص بيص، إذ يعاودني الشعور بالبرد والارتجاف مع نهاية مفعول “البنادول”. كان السبب، رغم كل ارتياحي الجسدي والنفسي، هو الشدة التي ترافق العمل الجراحي، ويبدو أن ذلك يحدث لا شعورياً عند بعض الناس أو كلهم لا أدري، لِيُسْهِمَ إيقاف دواء الحمّى خطأ في تفاقم الألم، الذي اختلط عليّ هذه المرة إذ تركز في الخاصرة اليمنى، وهنا خشيت أن تكون الأغشية المحيطة بالرئتين والقلب (الجنب والتأمور) والتي غزتْها الأنابيب أثناء الجراحة قد التهبت، خاصة أن التنفّس غدا مؤلماً، ولما طمأنني زميل التصوير أن ذلك لم يحدث، انصرف ذهني إلى الحمى الخبيثة التي استغلت حالتي (وأعتقد أن الجراحة غيّرت مسار الألم المعهود) وانتهت بعد أيام. أذكر وقت الخروج من المستشفى كيف نبّهني المعالج أن أبتعدَ عن أي سبب للشدة، بل عن كلّ ما يمكن أن يُزعج من حديث، وأن أغلق أي باب للجدل، فكان أن أغلقتُ هاتفي لأنني أعرف أن كثيرين سوف يتصلون ويلحّون، وما كنت جاهزاً حتى للالتفات يمنةً أو يسرةً أو للانحناء أو النوم (بقيت أنام بصعوبة بالغة أكثر من عشرين يوماً حتى بدأ عظم القص بالالتحام والشفاء). وقتها، كنت أنزعج بطنياً من أي حديث طويل أو مكرّر أو غير مرغوب، وما كنت كذلك من قبل، فرحتُ أطلب بأدب تغيير الحديث.

مرت سنة بهدوء نسبي، وانتهى صيف الإجازات الجميل الذي تناسينا فيه مؤقتاً المعكّرات المُقيمة والقادمة، حتى أتى موسم المدارس خريف 2022 الساخن والذي شهد انفتاحاً عالمياً كبيراً بعد إغلاق قارب السنتين، وانتشر (كوكتيل الحميات) و(شوربة الفيروسات) من إنفلونزات مختلفة وكورونات وحُمات تنفسية وعقدية وبلعومية (آر إس في، أدينو، إبشتاين بار، وغيرها)، وجاءني – وأنا في معمعة المعاملات – التهاب بلعومي لم يعنُ لدواء الأزيترومايسين الأصلي ستة أيام، بل تفاقم إلى التهاب جيوب أنفية مدمّى وتعب صادم، اضطررتُ على إثرهما إلى استخدام مضاد حيوي أقوى من زمرة الكينولونات لخمسة أيام هي الأقسى في حياتي إذ قلبتني رأساً على عقب، فهي وإن حسّنت الالتهاب تماماً، إلا أنها (خربطت الدوزان) بانحطاط جسدي وعصبية لا مثيل لهما، وكذا بألم ظهري بطني مشترك يجعل إمكانية النوم مستحيلة من غير مسكّن، فإذا أشرق الصباح وهدأت الحال، ذهبتُ إلى العمل، لكن بتراخٍ، حتى يشتد أزري مع الحماسة والاندفاع إلى علاج من يعانون الألم مثلي. وفي أسابيع ثلاثة تالية لإيقاف ذلك المضاد اللعين، بقيت أعاني أشد المعاناة بين مد ليلي وجزر نهاري، لا يخلو من منغّصات يومية، حيث يشتد الانقباض البطني المضني مع معاملات تتعقّد، أو مرضى لا يبالون، أو سائقي سيارات يندفعون بغرائز بهيمية..)، إذ بدا لي أن أعصاب البدن كلها تركزت في البطن، لا بل انكشفت (تزلّطت) عصبوناتها مثل أشرطة الكهرباء المنزوعة أغلفتها، ناهيك عن تعب من بعض أنواع الطعام التي لا تصبح كلّها سهلة ولا مستساغة ولا سهلة الهضم (وما يرافق ذلك من مغص وغازات)، ليمتد قلقي من تفكيري وقراءاتي (للتشخيص) إلى زملاء كرام ذوي خبرة، لم يقصّروا بالإدلاء بدلائهم الغنية.
ها قد مر شهر ونيف على بدء العدوى، وأسابيع ثلاثة على نهايتها وبداية أعراض الألم التالي، وأنا أتحسّن بحمد الله رويداً رويداً، دليلي خفوتُ شدة الأعراض الهضمية المتعبة، وزوال الارتكاس المروري البغيض تجاه أخطاء الآخرين، فيما عيناي مفتوحتان على ما قرأت من أسباب تدعو للقلق (وتم نفيها بالفحوص)، راجياً الله لي ولكم السلامة (وتجنب مضاد الكينولون Levofloxacin ) في كلّ وقت.
العين، 17 تشرين الثاني 2022