زبالة وجائعان
د. غالب خلايلي
في زيارتي الأحدث إلى الشام، جلستُ مع صديقٍ في بيته الأرضي، في ذات حارة عتيقة، فإذا بما نسمع فجأة صوت ارتطام في مُتنفّس البيت، حديقتِه الصغيرة المتواضعة التي يلعب بها الأولاد. ولما سألته عمّا سمعت، قال بأسىً: “الجيران. هو أمرٌ معتاد أن يرمُوا زبالتهم إلى بيتنا”! وهنا طلبتُ منه أن نخرج لنرى، فإذا بكيس متوسّط الحجم مليء بالمخلّفات المختلفة، فعلمتُ أن هناك – بحمد الله – تطوّراً في عاداتنا، إذ كان المألوف من زمان أن تسقطَ لعبةٌ بالخطأ، أو قطعةٌ من الملابس المغسولة، أو مقصّ أو صحن أو كيس (رقائق بطاطا) فارغ طار بالهواء، أما أن يُرمى كيسُ زبالةٍ بقضّه وقضيضه عمداً، فهذا “تطوّر نوعي”.
ومع إدراكي أن كثيراً منا ليسوا قوم نظافة، لا أنكر مفاجأتي بالأمر، راجياً هنا من قارئي المتسرع ألا يستنفر، لأنني سأسوق إليه الأدلة من عصرنا ثم من حقبة سبقتنا، هذا مع معرفة الصغير والكبير للحديث الضعيف “النظافة من الإيمان“، و“أنّ من شُعب الإيمان إماطة الأذى عن الطريق“، وأن “الطهورَ شطرُ الإيمان“، لن نتوسع أكثر، فالمعنى واضح.
والحقيقة أنني عانيتُ أذى الجيران على مدى عقود في زياراتي القصيرة حتى إلى المناطق الراقية، فكم وجدنا في (فُسحة المَنْوَر) نفاياتٍ مختلفة، وكم فاضت (الحمّامات) لأن الجيران في الأعالي أهملوا مِمسحةً أو حذاء في (التواليت) فسحبتهما المياه، وانسطمت المجاري، ولا تنس – رعاك الله – مسألة عويصة في معظم البنايات تسمى “شطف الدرج“!. وكم عانينا أيضاً زئيرَ (أحبابنا) إذا سالت عليهم نقاط من سقاية المزروعات عندما سكنّا في طابق أعلى، أو أكلَ حقنا في مكان صفّ السيارة (الباركنغ) إذا استأجرنا سيارة أو نقلنا سيّارتنا بالبرّ (التجربة كثيرة المواجع)، فالجيران استأنسوا لغيابنا، ونسُوا أن لدينا حقوقاً، وبعضهم “تناسى” أكثر وتمدّد، فعمّر غرفةً أو بنى جسراً أو سرق حديقة، على أساس أن (الغايب ما لو نايب، والنايم غطّ وجهه).
أما خلال التنقّل بين المدن، فقد عانينا كثيراً من الغش التجاري في استراحات (البولمانات)، ناهيك عن قذارة الحمّامات، فلا يحميك تشمير البنطال، ولا تقيك كمّامة، إذ إن رائحة البولة القوية والنشادر تفوحان إلى البعيد البعيد (لعلّها تنبه الوعي!)، والمؤذي هو وجود جُباة على أبواب الحمامات، يفرضون ألفاً أو أكثر على كل داخل! وفي الحدائق المفترض أنها رئات المدينة، رأينا العجب من انتشار المدخّنين والمؤرجلين، يسمّمون الأجواء بما ينفثونه، وليست لهم سوى (فضيلة) واحدة (عدا خدمة الأطباء) هي إنارة المكان عندما تنقطع الكهرباء.
ولما صادف وجودنا عيد الأضحى شممنا رائحة بقايا الذبائح (في الحاويات) تملأ الطرقات، فيما أخبرني صديق أن دم الخرفان يسيل من علٍ في حارات مدينته.
ولعلّ قائلا يقول: إن الدولة لا تقوم بواجبها في التنظيف! والحقيقة هي عكس ذلك، ولا يوجد دليل أفضل من الذهاب في الصباح المبكّر كي ترى أن الأمكنة نظيفة تماماً، ثم ترى بعد ذلك شبّاناً (راقين) وشابات (راقيات) في الظهيرة والمساء يرمون أوراق السندويش وصحون الطعام والبوظة كيفما اتفق، دون تأنيب ضمير أو حتى تفكير. ولعل قائلا آخر يتّهمنا بجلد أنفسنا، فأقول له: أبداً، فبلادٌ عربية أخرى تعاني ما نعانيه، أذكر مثلا أننا في أثناء زيارة إلى لبنان صيف 2019، رأينا القمامة تملأ الطرقات، وكانت رائحة الشاطئ نتنةً، والمبكي أن الناس ملؤوا كراسي (الكورنيش) المؤجرة كلَّها بحيث لا تجد مدخلا إلى الشاطئ الرملي (الذي لا أنصح أبداً بالمشي فيه)، وجلسوا بـ (أراجيلهم) يقرقرون، و(يستمتعون) بصيف رطب خانق.
وفي إقامتنا الخليجية نألف أحياناً أطفالاً وشباناً يرمون زجاجاتِ الشراب لتنكسرَ وتملأ شظاياها الشارع، أو يرمون عبوات الماء وأكياس الطعام من نافذة السيارة، أو خادماتٍ يرمين الخبز والأرز واللحم أو الدجاج قرب الحاوية، على أساس أنها غذاء للقطط (مع أنه يجب ألا يخشى أحد على القطط، فهي بارعة في نبش أكياس القمامة حتى داخل الحاوية، والمؤسف أن البشر راحوا ينافسونها على ذلك)، كما ألفنا الحدائق الجميلة جداً، فإذا بها تمتلئ بالنفايات في آخر العطلة، علماً أن السلل والحاويات متوافرة وقريبة، وأن معظم الذين يزورون تلك الحدائق من الأغراب، والأمثلة أكثر من أن تحصى إذا استرسلنا باستعراض البلدان، مثلما حدث في زيارة تهنئة إلى صديق عاد مؤخراً من الأراضي المقدسة، وراح ضيف ثقيلٌ يتّهم أقواماً بالقذارة، لينطبق عليه المثل (رمتني بدائها وانسلّت)، أو القول (الجمل لا يرى حردبّته) (الحردبة: السّنام).
وقبل الاسترسال بإعطاء أمثلة من أزمنة أقدم، أذكر قصّتين لهما دلالات اجتماعية مهمّة في نظري:
–الأولى، عندما كنا في دائرة رسمية، وأردتُ عمل توكيل يحتاج شاهدين، وكم كان صاعقاً لي رفضُ كل من سألت تقريباً، وبطريقة عنيفة (مثل من يهرب من الجذام).
–الثانية، عندما عدنا بالحافلة (التي قيل إنها فاخرة) من حلب إلى دمشق، كانت أول مفاجأة تدّل على (الفخر) أنها عند قدومها، نزل المعاون منها حاملاً مهملات رحلة سابقة، ورماها على الرصيف!. وعندما وصلت الحافلة قام الناس قومة رجل واحد قبل استقرارها (وهذه عادة معروفة)، ولما كنت أهمّ بالنزول في آخر المطاف، إذا بسيدة تريد أن تنزلَ في الوقت نفسه، وبجانبها زوجها، فتوقّفت فاسحاً لهما الفرصة، وهنا توقف الرجل وقال لي ما أثار عجبي تماماً: ما زالت الدنيا بخير، وما زال فيها (ناس كويسة).
والآن أعود إلى نصوص تتحدث عن زمنَيْن بعيدَيْن نسبياً، بين خسينيات وتسعينيات القرن الماضي، حتى لا يتهم أحد حقبة معينة:
الأول، كتاب “قطوف من الحياة“ للأستاذ الدكتور سامي القباني (1937 – 7201) رحمه الله، والصادر عن دار العلم للملايين عام 2012، وقد تحدث الأستاذ في مقال (حتى يتكامل ضميرنا الاجتماعي) عن عادات سيئة منتشرة في المجتمع مثل: صوت المذياع العالي، رمي الأوساخ أمام الجيران، تنخّع بعض الرجال أو بصقهم على مرأى الناس، هجوم المنتظرين على باب الحافلة، سير السيارات دون مراعاة لأبسط قواعد المرور، وفي كل هذه المواضع يُلاحظ غيابُ ضميرنا الاجتماعي أو ضعفه، وقد يكون الوصول إليه أصعب من محاربة الأمية والفقر. وفي مقال “لا تهدر وقتك“ يقول الكاتب: يؤلمني منظر الشباب يتسكّعون في الطرقات وأمكنة اللهو، وتضايقني رؤية الموظّفين يحتسون كؤوس الشاي، ويُمضون الجزء الأكبر من دوامهم في مقابلات شخصية، ويحزُّ في نفسي منظر من يؤمُّون المقهى كل يوم لا يخرجون إلا ورئاتهم مشبعة بدخان السيجارة والغليون والشيشة!. وفي مقال “العمل والإتقان“ نرى أننا كثيراً ما نفتقد للإتقان في عملنا، والأمثلة أكثر من أن تُحصى، فهل حدث أن اقتنيت خزانةً للثياب تُفتح دروجُها بيسرٍ وتغلق أبوابها بدقة، أو عمل لك أحدهم عملاً وأتقنه؟
الثاني، كتاب “مقالات طبية اجتماعية“ للأستاذ الدكتور إبراهيم حقي، الصادر عن دار الفكر 2023، وهو مقالات من حقبة الخمسينيات من القرن العشرين. ويتحدث الأستاذ في مقال “الصحة طيبة والحمد لله“ عن مناطق قريبة من العاصمة دمشق باتجاه حوران (ص 35 ) وأنها ذات “مستنقعات قذرة ترى فيها غاية الألفة بين الإنسان والحيوان”، حيث يغتسل الطرفان فيها، وتُحمل المياه القذرة نفسها من أجل الطبخ والشرب. وحتى في لبّ المدينة، في المرجة والسنجقدار وسوق العتيق ترى المأكولات “يكسوها الغبار والوسخ”. وفي مقال “أمراض العيد“ (ص 40-42) يتحدث الكاتب عن بيع المآكل الملوثة في الشوارع وفي صحون قذرة.
وهنا لا بد لي من ملاحظتين:
الأولى، هي أن هناك تناقضاً عجيباً بين حرص بعض الناس على نظافة بيوتهم أو سياراتهم، فيما لا يحرصون على النظافة العامة خارجها، فيرمون نفاياتهم كيفما اتفق، أو على مدخل بناية حتى تفوح رائحتها في الصيف ومن ثم تنشر المرض، مع أن الحاوية قريبة.
الثانية، هي أن حديثنا اقتصر على النظافة السطحية أو الظاهرية، دون البحث بمسألة النظافة العميقة أو التعقيم، فأنت، إن كنت دقيق الملاحظة، تألف أسطحاً تحتاج إلى تنظيف بعد التنظيف، أو أخرى لم تمسسها فوطة المسح (تحت الكراسي، فوق الخزانة…)، ودع عنك أمر التعقيم الآن (خاصة للمستشفيات)، هذا موضوع بالغ التعقيد والتخصص.
ح
أما وأننا طرحنا المشكلة، فالسؤال هنا: ما هو الحل؟
وللإجابة أقول: لما كانت مسألة القذارة هي هي عبر عقود، بل أسوأ، فهذا يعني أن الانضباط الذاتي والأخلاقي والشعور الوطني معدوم أو شبه غائب، ولا يبقى (بعد العمل المخلص على الوعي وإظهار القدوة الحسنة سوى أن تفرض الدول رقابة صارمة على تصرّفات البشر، مع عقوبات قاسية) تبدأ بفرض تنظيف الطريق أو البقع المتسخة وغرامات مادية قاسية، وهذا، برأيي، هو الحل الأسرع والأجدى عند أناسٍ يناورون بألف طريقة وطريقة لتبرير أخطائهم والتهرّب من كل ما هو مفروض عليهم.
العين في 13 تموز 2023