عمليات التجميل لا تترك مكانًا في الوجه إلّ وتغرز فيه الإبر
قديما قيل: “حمرة الخجل لون الفضيلة”، و”من لا تزينه عروقُه لا
تزينه خروقه”، فأين نحن من هذا اليوم؟
في المراكز (التجميلية) المتكاثرة كالفطور، يلاحقّنَ حتى الصبايا وهن في ميعة الصبا وفورة الجمال: لماذا لا تكنّ أجمل؟ لماذا لا تُعَوِّدْن جلودكن على حُقَن الجَمال (بفتح الجيم لا كسرها) قبل أن يشيخ، فتفقدن فرصة ذهبية؟ لماذا لا تعدّلن شكل أسنانكن فتصبح كالنيونات، أو مثل ضوء القمر؟
ويا له من تخريب ما بعده تخريب، وتشويه لا سابق له سوى الحروق في الحروب مثلا، والجروح في الزلازل. فمنذ نحو عقد ونيف من الزمان، ونحن نلاحظ التغيّرات السلبية في أشكال بعض البشر، وكأنّ طفرةً مشوّهةً طرأت فجأة على مورّثاتهم (الجسمية والعقلية)، خصّتهم وحدهم، ولم تعرفها الأجيال السابقة، وجاء ذلك كله نتيجة التفاخر المادي (وأي فخر؟) والاندفاع (المتهوّر) وراء التداخل الطبي غير الحكيم، المندفع صاروخياً وراء المادة، ووراء هياج وسائط التواصل بالصور الدعائية، ويشمل ذلك التداخل على الأنف (حتى الجميل)، أو الجلد (حتى من غير ثنيات أو تغضن) والشفتَيْن (ولو كانتا نضرتَيْن ممتلئَتَيْن)، أو الأسنان (ولو كانت مثل صفّ اللؤلؤ)، أو المناطق الشبقة الحسّاسة في الجسم (وهذه وحدها قصة)، أو كلّ ذلك دفعة واحدة.
وللأسف، يتأثر كثيرون بالمشاهير لاسيما العارضون والعارضات والفنانون والفنانات، مع أنهم يعرضون ما هو غير دقيق، عبر استخدام الفلاتر المتعددة والفوتشوب، ويخفون العيوب وحالات الفشل والتشوّه. المؤسف أيضاَ أن بعض الأطباء غدَوْا تجاريّين جداً، فما عاد يقنعهم دخل محترم، فصاروا يرون المريض آلة سحب للنقود، حتى أصبحت الوجوه كأنها الدمى المتشابهة، جامدة الملامح، خالية التعابير، مع ما في ذلك من تباهٍ يعادل حمل حقيبة ذات ماركة عالمية!.
مضحك أيضاً أن بعض الأطباء اليوم يقيّم عمله بحسب عدد متابعيه في مواقع التواصل، وأن اللعب بخلقة الله أصبح «موضة» بل حاجة ضرورية من وجهة نظر شريحة كبيرة من المجتمع، ذكوراً وإناثاً، ويؤثّر في جوانب الحياة، مثل الزواج والعمل.
في مجال الأسنان، حدثت تداخلات “تجميلية” كثيرة عليها، لكن فحوى كثير منها تخريب لواجهة الإنسان، وإساءة إلى الجمال الربّاني (بغير داعٍ طبي حقيقي)، فبتنا نرى اللون المضيء للأسنان حتى في عتمة الليل، مما لا يتناسب ولون البشرة ولا أي لون، ناهيك عن أن يضاهي أصل السن، أو الأسنان التي تسمّكت فصارت شبيهة بالواقي الذي يضعه الملاكمون لحماية أسنانهم، يحسبها بعضهم جمالاً و”أكابرية”، ناسين صعوبة تنظيفها وما تخلفه من روائح، والقواعد الصارمة في تناول الطعام، التي تحرم قضم الجزر والتفاح أو أكل المكسّرات والبذور.
وبين التقويم والتجميل فرق كبير: فتقويم الأسنان هو المعالجة الطبية لإصلاح العيوب الوظيفية مثل سوء إطباق الفكين أو تقدّم أحد الفكين أو تراجعه، أو ازدحام الأسنان وسوء ارتصافها. أما تجميل الأسنان فهو تغيير مظهرها العام، لرغبة الشخص بـ (تحسين) مظهره، ومن ثم زيادة ثقته بنفسه في عمله أو أمام الناس، ويشمل ذلك: تبييض الأسنان، وتركيب الأسطح التجميلية (الابتسامة الثلجية أو ابتسامة هوليوود).
إن تبييض الأسنان أمر بسيط نسبياً، وقليل الضرر، ويمكن أن يتمّ في المنزل خلال أسبوع، أو تسريعه في جلسة واحدة في العيادة. أما تركيب الأسطح التجميلية فيحمل في طياته الخطر أو الشّوه حسب درجاته:
– وأخفّها العدسات اللاصقة Lumineers حيث يلصق التعويض التجميلي الرقيق جداً على سطح السن دون إزالة أي طبقة منه.
– ثم اللصاقة التجميلية الجزئية Partial Veneers التي تتطلب تدخلاً أصغرياً على النسج السنية، الأمر الذي يتطلب عملاً دقيقاً جداً من قبل الطبيب وفني الأسنان.
– ثم اللصاقة التجميلية الكاملة Veneers وتتطلب إزالة أجزاء من الميللي متر من السطح الخارجي للسن.
– أما الحالة الأشد فهي تركيب التيجان الخزفية الكاملة، وتتطلب تصغير كامل السن لتغطيته لاحقاً بالتعويض التجميلي.
لا بد هنا أن نذكّر بالمخاطر في حال كان التجميل بغير مكانه، أو تم بأيدٍ عابثة مستعجلة غير خبيرة، كما نذكّر بمسؤولية الطبيب عن إعلام زبائنه بالتداعيات كافة، ومنها:
أن تبييض الأسنان قد يسبب حساسية لها لمدة قصيرة تتلو الجلسة وتدوم أياماً، أو أن النتيجة لن تدوم طويلاً إن لم يمتنع المريض عن التدخين أو شرب القهوة والشاي ومماثلاتها بكميات كبيرة.
وأن التجميل باستخدام التعويضات الخزفية إجراء غير ردود، أي لا مجال للتراجع عنه بعد إكماله، فالأسنان قد نُحتت، وطبقة الميناء قد أزيلت لاستقبال هذه التعويضات.
وأن التحضير الزائد للأسنان بسبب ميلانها الشديد مثلاً أو قلة خبرة الطبيب قد يؤدي إلى ضرورة معالجة جذور الأسنان (سحب العصب)، تجنباً للآلام التالية، وهذا يجعل السن ضعيفاً مع الوقت، مع ملاحظة أن الأضرار الكبيرة صعبة العلاج.
إن معيار الجمال نسبي يختلف من شخص لآخر، ومن المهم ألا نجاري رغبات الناس غير المتزنين أو هوسهم المؤذي، ولو أتوا طائعين، طالبين تعديل مظهر أسنانهم بغير سبب مقنع، لأنهم سوف يكتشفون لاحقاً حجم الأذى الذي طاولهم، والنتيجة غير السارة لهم، ربما إلى الأبد.
ويبقى واجب الطبيب هو لفت نظر (الزبون) إلى الخيارات الأقل عدائية تجاه أسنانه، بغض النظر عن الثمن المقابل، ولكن هذا الواجب لا يؤدّى في كثير من الأحيان، بل كثيراً ما يلاحق (المريض) هاتفياً إلى سرير غرفة نومه كي يأتي في الشهر التالي من أجل (تجميل) آخر، بالتقسيط الشهري إن كان لا يستطيع دفع المبلغ كاملا، أو يغرى كل يوم بدعايات الإنستغرام (وعدائله) التي تعمل من الحبّة قبة، وتفتح على الزبيبة خمّارة.
بالنسبة للأمور غير السنية، فإن موضة تنفيخ الشفاه بطريقة مبالغ فيها، وكذا المقاسات الكبيرة الأخرى في الجسم، خفّت في بعض الأماكن، لتبدأ موضة جديدة تتمثل بـ: (تعريض الفك، ورسم حدود الشفاه، والنمش الصناعي، ورفع المؤخرة، وتصغير الخصر والصدر)، ناهيك عما لا يستحب ذكره مما قد يملأ قاموسا، لا ندعي معرفته، وتمكن ملاحظته في الدعايات والمواقع. المهم، أن بعض النسوة يركضن خلفها دون وعي بما يناسبهن، لتتشوّه ملامحهن ويفقدن الجمال الطبيعي (أياً تكن درجته)، ويؤذين صحتهن في كثير من الأحيان إن لجأن لأطباء لا يملكون الضمير الحيّ ولا المهنية الحقة في العمل.
إن إدمان عمليات التجميل مرض نفسي، وتلك الفئات من الرجال والنساء تبني ثقتها بذاتها بالجمال الصناعي، وهو نوع من الخلل النفسي، وله انعكاس خطِر على المجتمع، ذلك أن إجراء العمليات يبدأ في الأغلب بتجربة وينتهي بهَوَس، ومعظم السيدات اللاتي يضعن مصيرهن في أيدي جراحي التجميل لا يعانين مشكلة، بل يجارين موضة، فيبدأن بالشفتَيْن وينتقلن إلى الأعين والأنوف، ومن ثم إلى الجسد (تكبير الثديَيْن بشكل لا تحتمله بنية المرأة أو تصغيرهما أو شدّ عضلات البطن فوق ما يحتمله التنفس والطعام…) إلى أن يتشوّه الجمال الطبيعي، ناهيك عن المخاطر الصحية التي تترتب على ذلك، والتشوّهات التي تلازمهن مدى الحياة.
ثمة أساليب يعتمدها بعض المراكز، بما نشبّهه بالتعبير العامي (جر الرِّجل، أو رشّ القنبز)، وذلك عبر البدء بإبر النضارة، لكسر حاجز الخوف من عمليات التجميل، وفتح شهية المرأة على العمليات، وتبدأ بعدها بتشجيعها على الإبر الأخرى، حتى تصل للعمليات التجميلية، فالإدمان، فيما تعتمد مراكز أخرى فكرة العرض الخاص بتشجيع زميلة أو قريبة على التجميل، وعمل خصم لها. تلك السلوكيات هي نتيجة عدم الثقة بالنفس، أو وجود مشاكل زوجية أو عائلية، ورؤية أشياء غير واقعية، ورؤية السيدة لنفسها بعيون غير حقيقية، الأمر الذي يجعلها تلجأ لعمليات التجميل، وتلك الفئة قد يساعدها طبيب بنصحها وعدم خضوعها لتجميل ليست بحاجة له، فيما يستغل طبيب آخر زعزعة ثقتها بنفسها بإجراء أكثر من تجميل بدافع الربح.
قبل عامي كوفيد التاسع عشر، ذكرت الصحف أن حجم الإنفاق على العمليات والعلاجات التجميلية ومستحضرات التجميل في دولة خليجية بلغ نحو 6 مليار دولار، وتصدر البوتوكس والفيلر القائمة، تلاهما الليزر، ثم شفط الدهون، وزراعة الشعر. كما تزايد الإنفاق بنسبة تتراوح بين 15% إلى 17% سنوياً. وشكلت الأمور غير الجراحية 73% من سوق التجميل، ولا ندري الحال في الوقت الراهن.
في مقال لافت يؤكد ما ذهبنا إليه، كتبت الصحفية الفنية مارلين سلوم في صحيفة الخليج (1 أيار 2020)، مقالا بعنوان: (البوتوكس بطــل الشاشة)، قالت فيه: “قبل سنوات، كنّا نتأمل بطلات المسلسلات، وتبدُّل مظهر كلّ واحدة منهن وفق الشخصية. وحين هبّت رياح «البوتوكس والنفخ والابتسامة الهوليودية» ضاعت الملامح، ولم يعد للشخصية الدرامية شكل مميّز. كل عام تستفحل الظاهرة أكثر من العام السابق، وهذا الموسم وجدنا «البوتوكس» بطل الموسم الرمضاني، وقد احتل، ومعه الأسنان المرصوصة والساطعة ببياضها، الشاشة؛ كأننا أمام استعراض وتنافس بين أطباء التجميل. نبيلة عبيد، نادية الجندي، حلا شيحة، …… نماذج نذكرها، فليس للأمر علاقة بالعمر، والتجاعيد، فالشابات، كما الكبيرات سناً وخبرة، تتقدم وجوههن شفاه غليظة منتفخة بشكل مقزز، وبعضهن وصلن إلى مرحلة العجز الواضح واستحالة تحريك الفم بشكل طبيعي. لماذا؟ بشاعة ما بعدها بشاعة. التمثيل يعتمد أولاً وأخيراً على ملامح وجه الممثل، وتقاسيمه، وتجاعيده…. وهي حرية شخصية، لكن أن تتحول إلى ظاهرة على الشاشة تجري خلفها حتى الحسناوات، والشابات، لنفاجأ بهن وقد غاب سحرهن وجمالهن «الخاص»، والطبيعي، فهو ما نستغربه، وما أصبح مستفزاً، ومبالغاً فيه”.
إن لكل مرحلة عمرية جمالها، ومن ثم يجب التصالح مع أنفسنا عندما تتغير أشكالنا، فلا نلجأ إلى ما هو مؤذ. ويكفي أن نذكر أنه في الماضي القريب تمتعت الأمهات والجدات بأوجه صافية جميلة، وبوسائل طبيعية بسيطة. كما افتخر الآباء والأجداد بعلامات نضجهم. لهذا نقول لكل المعنيين: صحتكم، وصحة الناس أمانة في أعناقكم، فحذارِ، حذارِ، قبل أن نقول (في الصيف ضيعتم اللبن)!