د. غالب خلايلي
في دراستنا الأكاديمية للطب في جامعة دمشق العريقة (تأسّست 1903)، حظينا بمنهاج غنيّ تصعب مقارنته بما يدرسه عديد من طلاب العالم، إذ يبدو في بعض الأماكن أقرب إلى الملخّصات أو (البرشامات) منه إلى المادة الدسمة، وحتى الامتحانات تصعب مقارنتها، حيث اعتمدتْ الطريقة الفرنسية الصعبة التي قوامها: (تكلّم على، تحدّث عن، أكتب ما تعرفه) ومن ثم لا ينجح سوى طويل العمر، خلافاً للطريقة الأميركية ذات الخيارات المتعددة، والتي إذا أدرك الطالب آلياتها فقد ينجح حتى دون دراسة، ولا أقلّل هنا من شأن العلم في أي بلد.
المشكلة أو القصور أيها الأحباء أننا لم ندرس في تسع سنوات كل شيء، فالطب هو علم الحياة أيضاً، ويبقى الطبيب النابه يتعلّم ويستخلص العبر، من مرضاه على الخصوص، وكم يكتشف من علل غير مكتوبة في العقاقير، كما يتعلم من المحيط ومما يقرأ ويسمع، لا سيما في المؤتمرات الطبية، وغايتها الأسمى نقل الخبرات وتعلم المهارات، لا السياحة واستعراض العضلات.
والذي تعلّمته في الحياة الكثير مما كنت أتمنى تعلّمه في الكلّية، ومنه ما سأذكره عن خالتي والقرنفل.
لا أحد ينسى داء العصر كوفيد 19 الذي شلّ العالم عام 2020، وما زال الحديث عنه متجدّداً. في ذلك الوقت انتشرت حكايات لا حصر لها، تؤكد كل منها فاعلية شيء ما. ومن قائمة المواد المفيدة ذُكر اليانسون (مشروباً دافئا) والكركم والبصل والثوم والليمون…. والقرنفل، بيت القصيد.
والحق أنني لم أهتم كثيراً بالقرنفل، لغياب الخبرة المناسبة، حتى أصبتُ بالتهاب شديد قبل نحو سنة، وكان أن نصحتني خالتي بمضغ عودَي قرنفل على مهلٍ في الصباح على الريق، النصيحة التي سوف تصنع فرقاً واضحاً في المستقبل.
أما لماذا أخذتُ بنصيحتها على محمل الجد، فبسبب كلمات قليلة قالتها تلخص تجربتها في مقاومة الالتهاب والتحسّس الربوي، إذ ذكرت أنها، بعد القرنفل، ارتاحت نهائياً من الأدوية والكورتيزون. ولأنني أعزّ خالتي الوحيدة (التي تكبرني بقليل، وتذكّرني دائماً بأنني أوّل من جعلها خالة)، وأعرفُ نباهتها الشبيهة بفطنة والدتي رحمها الله، كان لا بدّ أن آخذَ ملاحظتها ذات الدلالة بعين “الاعتبار”، خاصة وأنني من الذين يعالجون مرض الربو عند الأطفال والشباب لعقود، وأعرف مدى صعوبة الأمر وتكاليفه.
ولم أكذّب خبراً؛ وباتت عبوة القرنفل على منضدتي (قبل أن أنزل في الصباح إلى المطبخ)، وإذا سافرتُ حملتُ معي زوّادتي منها، لم أهمل أمرها إلا ما ندر من الأيام، وآخرها عقب عودتي الأحدث من السفر حيث انشغلتُ بمشاغل لا حصر لها، وما كان يجب عليّ أن أنسى، فكان المرض، دون أن أعزوَه إلى إهمال القرنفل.
وطبيعي أن خالتي العزيزة في حلب الشهباء سمعتْ بمرضي من المقال الذي كتبتُه وأنا في أوج المرض (مستعجلاً نشرَه للتنبيه على جائحة، ولم تكن مصيبتا الزلزال المغربي ولا الفيضان الليبي، فوق الجاثم من المصائب، قد حدثتا)، وعلّقت الخالة تعليقاً طريفاً، تعقيباً على كلام الأستاذ فضلو هدايا عن البصل، أضحكني من قلبي: كُل البصل وانسَ الذي حصل، وأضافت: لا تنسَ القرنفل. وهنا اكتشفتُ أيضاً (عقب دردشة) مع الأستاذ هدايا في بيروت أنه ليس خبيراً بشؤون الصحافة والطبّ والسياسة فحسب، بل خبيرٌ أيضاً بالقرنفل (والبصل)، الذي ربما لم يبقَ غيره وأشباهه في بلدان تكابد الهم وضيق ذات اليد إلى أقصى حد.
ولأنني من محبّي البصل (والثوم)، وأشعر أحياناً بحالة توق (خَرَم) تجاهه (لاسيما مع الفول)، فقد جاءت نصيحة الأستاذ فضلو في مكانِها، وأنا ما زلتُ أعاني التهابَ الجيوب، فكان أن أبليتُ برأسٍ كبير منها بلاء حسناً مع الغداء ثم مع العشاء، ونمتُ في العسل، عصراً وليلاً، وما عرفتُ كيف أستيقظ.
في معرض بحثي عن القرنفل، ورغم معرفتي الطويلة به في الطبخ والبهارات، فوجئت أن أكباش القرنفل (أو مساميرها إذ يشبه واحدها المسمار) غير آتية من الزهرة المعروفة ذات الرائحة الشذية، بل من شجرة دائمة الخضرة تعمر نحو عشر سنوات، ارتفاعها 10 – 20 مترا، تنمو عليها أكباش الزهر الحُمر التي تسمى “زهرة الحب” أو “زهرة الآلهة”، وأنها يونانية الأصل من شعبة البراعم ثنائية الفلقة (وبعضهم يقول إن موطنها الأصلي هو منطقة مولوكاس شرق اندونيسيا ومنها انتقلت إلى الصين في عهد أسرة هان الملكية في القرن الثالث قبل الميلاد)، اسمها العلمي Carnation، استخدمها الإغريق والرومان أول مرة في باقات الزهور، كما أضيفت لاحقاً إلى التوابل التي يتفنن أهل الذوق بتقدير نسبتها فيها، فيما يكاد لا يجهلها طاهٍ (ولا طاهية) في سلق اللحوم والدجاج وتتبيلها، إذ كانت التوابل وما تزال تساوي وزنها ذهباً، ولم يكن القرنفل استثناءً، إذ يضيف العمق والنكهة إلى مجموعة واسعة من الأطعمة في الكاري، واللحوم المتبلة، والمخبوزات، والشاي …
والقرنفل مصدر رائع للبيتا كاروتين (طليعة فيتامين أ) الذي يعطيه لونه البني الجميل وخواصه المهمة المضادة للأكسدة وفي الحفاظ على صحة العينين. كما أنه مضاد التهاب رائع لا سيما بزيته المسمى (الأوجينول) الذي يقلل خطر أمراض كثيرة مثل التهاب المفاصل والقصبات والربو، ويحارب الجذور الحرة التي تدمّر الخلايا، ويقلل خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري وبعض أنواع السرطان، زد على ذلك أنه يقي من القرحة، إذ يزيد سماكةَ الطبقة المخاطية المعدية، ويحسّن وظائف الكبد، ويقلل علامات تليف الكبد وتشحّمه، وينشط الجنس لزيادة التروية الدموية، ناهيك عن غناه بالفيتامين ك (مضاد تخثر)، والمنغنيز الذي ينشّط خمائر الجسم التي تساعد في إصلاح العظام وصنع الهرمونات. أما الاستعمال الطبي الأكثر معرفة بين الناس فهو علاج آلام الأسنان وتآكلها لكون زيت القرنفل مخدّرا قويا، وقد وثق استخدام زيت القرنفل لعلاج وجع الأسنان أول مرة في عام 1649 في فرنسا، علماً أن العرب عرفوه قبل ذلك، وقد وجدت دراسات أن الأوجينول موضعيا قد يعكس أو يقلل من آثار تآكل الأسنان. هذا وتستخدم بعض مستحضرات التجميل والشامبوهات الأوجينول لخصائصه المضادة للجراثيم والفطور والفيروسات.
عند العرب، وصل القرنفل إلى دول حوض البحر المتوسط في القرن الرابع الميلادي، وقد أكثر العرب من استعماله في التداوي وعلاج كثير من الأمراض، فذكره ابن البيطار (1197 ملقة الأندلس- 1248 دمشق) في كتابه (الجامع الكبير) وفي كتابه (المغني في الأدوية المفردة)، كما ذكره داوود الأنطاكي (1543 أنطاكية – 1599 مكة) في كتابه (بغية المحتاج في المجرب من العلاج)، وذكره في العديد من المواضع كأحد الأدوية المستخدمة في علاج أمراض العين والربو وطرد البلغم وانتفاخ المعدة وأمراض الفم والأنف والرأس، وفي علاج الصداع والقيء عند الأطفال، وعلاج آلام الأسنان وأورام الكبد والبواسير وسلس البول والبثور، وأكد الأنطاكي مرارا على فوائده الطبية في تقوية المعدة والمثانة وقال: يمنع الإسقاط ويدر الطمث وينفع المرضعة ويقوي القلب ويجفف رطوبات المعدة.
ومع ذلك يجب الحذر من تفاعله مع الأدوية: إذ يتفاعل الأوجينول مع الوارفارين المميع للدم، مما يقتضي الانتباه لذلك والتقليل من استخدامه، كما قد يؤدي إلى نقص سكر الدم، وذلك مفيد في الداء السكري، لكنه مزعج بالكميات الكبيرة لغير السكريين، كما أن زيته المركز سام يسبب الدوار وربما الغيبوبة، وقد يلحق الضرر بالكبد إذا أعطي بجرعات عالية، ليحدث اليرقان بعد نصف يوم أو أكثر من تناوله، وقد يتلف الكبد عند صغار الأطفال، إضافة إلى إمكانية التحسّس منه، مثل أي مادة أخرى.
يفقد القرنفل فعاليته بسرعة بمجرّد طحنه، لذا يحفظ دون طحن في عبوات محكمة الإغلاق، تطحن عند اللزوم، وتضاف إلى التوابل أو الأغذية (فطيرة اليقطين، شاي، مخلل، اللحوم) أو تستخدم طبيباً بطريقة خالتي (مضغا بطيئا) للحصول على أقصى قدر من النضارة والفائدة.
وصحة وعافية في خريف قريب.
العين 15 أيلول 2023
من دروس الحياة..
خالتي وزهرة الحُب:ّ القرنفل!