بعوضة تفتك ضحيتها
الربيع والصيف هما فصلان تغزو فيهما الحشرات أجواءنا. صحيح أن الأخيرة تبقى “تعمل” طوال العام، ولكنها في هذين الفصليْن تنشط وتتوالد وتجول بحثاً عن “طرائدها البشرية” لتؤذيها و”تمصّ دمها”، كما نقول، بل يؤدي لسعها أحياناً الى الموت المحتّم، أخطرها “النمر الآسيوي”Asian Tiger الشديدة الشراهة والتي تعيش في المدينة والريف معاً اذا ما تهيأت لها البيئة المناسبة للعيش، ناقلة كمثيلاتها من البعوض، جراثيم تتسبّب بافدح الأخطار اذا لم يتقِ الإنسان شرها!
ولكن أضرار لسع الحشرات عامة لاتقتصر على بعوضة “النمر الآسيوي” فقط، بل قد تشترك في ذلك سائر الحشرات أيضاً. فحشرة القِراد، مثلاً، تستطيع على دقة جرمها أن تنقل الى الإنسان جراثيم كثير من الأمراض الخطيرة. ولما كانت أعراض الأمراض التي يحملها البعوض والقراد تختفي مدة طويلة، فإن معالجتها كثيراً ما تأتي متأخرة، والتأخير في ذلك ربما أفضى الى أفدح الأخطار. غير أن هناك وسائل عدة يملكها الإنسان لوقاية نفسه وأعضاء أسرته من شرورها، اذا ما ازداد معرفة بها، واتقن الوسائل اللازمة لدفع شرور لسعها، وادرك كنه الأعراض التي تقتضي سرعة التنبّه للمرض ونشدان العلاج السريع له.
أحدث غزو بعوضي. ما برح البعوض يُخشى منه كحامل كثير من الأمراض الخطيرة كالبرداء (الملاريا) والحمى الصفراء. ومع أن هذين المرضَيْن قد استؤصلا أو كادا في معظم بقاع الأرض، الا أن البعوض لا يزال يُعدّ خطيراً من حيث قدرته على نقل كثير من الأمراض، وبعضها مميت. من ذلك أن وصول النمر الآسيوي يؤدي الى زيادة خطورة المشكلة. ويمتاز شكل هذه البعوضة بوجود خط فضي يتصدّر ظهرها، مع حلقات سود وبيض على أرجلها.
إضافة الى ذلك، فهي شديدة النهم الى درجة الشراسة، وفي تعطّشها لدم ضحيتها، اذ انها اذا لسعت شخصاً لازمته وجدّت في مطاردته أمداً طويلاً.
ان هذا الميل الجنوني للسع يخلق مشكلة تفوق مجرد ظهور بقع جلدية أكلة. فعن طريق اللسع يستطيع ذلك النوع من البعوض نقل أمراض خطيرة مثل حمى الضنك والتهاب الدماغ. وما يزيد من خطورة هذه البعوضة انها قوية صعبة المراس، فبيوضها تستطيع الصمود لزمهرير الشتاء، وعلاوة على ذلك فالبعوضة تتغذّى بدماء كثير من الحيوانات، ما يجعلها عرضة للإصابة بعديد من الأمراض. وبما أن انثى “النمر الآسيوي” قادرة على نقل فيروسات الأمراض الى سلالتها، فإن تلك الفيروسات قابلة للإنتشار الى درجة الأوبئة. وفيما يلي بعض الأمراض التي تستطيع هذه البعوضة حملها، وينبغي الحذر منها:
1-التهاب الدماغ (Encephalitis). ان أنواعاً متعدّدة من البعوض يصل عددها الى أربعين نوعاً، مرتبطة بفيروسات مسبّبة هذا المرض. وأكثر الحالات ظهوراً له، اذا كان البعوض حامله، انما تحدث في نصف الكرة الشمالي بين شهري أيار (مايو) وأيلول (سبتمبر). وتشمل الأعراض الأولى ارتفاعاً مفاجئاً في درجة الحرارة وصداعاً وإقياء ونعاساً، ربما رافقها تصلب العنق والظهر. ان هذه الفيروسات تنتشر عادة بين الأحياء البرية، ولو أنها بين حين وآخر قد تصل الى جسم الإنسان، وهي، بشكل عام، تهاجم “الجيوب” الجغرافية. ان الآثار الجسدية التي تلحق بأولئك الذين تصيبهم العدوى من الناس تتراوح بين ظهور أعراض للزكام، وإصابة بمرض شديد يؤدي الى تلف دماغي. وتكمن الخطورة في ان الجنين الذي ينتقل اليه الفيروس وهو في رحم أمه، قد يصاب بإضطرابات عصبية شديدة بما في ذلك تلف الدماغ.
2-حمى الضنك (Dengue Dever). يسمى فيروس هذا المرض الذي تنقله البعوض أيضاً فيروس “الحمى المحطّمة للعظام”، وذلك لأن هذا البعوض يُسبّب للمصاب آلاماً مفصلية وعضلية مبرحة مصحوبة بارتفاع في درجة الحرارة. ان هذا المرض في حدّ ذاته، يُنذر أن يكون قتّالاً، والأطفال الذين يصابون برجفة ثانية، قد يحدث لهم اضطراب لاحق به يُسمى “حمى الضنك النزفي”، وهو رد فعل تحسسّي يسبّب تداعي الأوعية الدموية ورشح الدم الى الأنسجة المجاورة. ويبدو الأطفال الذين يعانونه وكأنهم مصابون بكدمات وتورّم في الأماكن التي يتراكم فيها الدم وسوائل الجسم. ان تحليل الدم يُمكن عن طريقه الإهتداء الى الأعراض الصحيحة لحمى الضنك، لكنّ هذه الحمى، شأنها شأن التهاب الدماغ الناشئ عن لسع البعوض، ليس لها علاج معروف سوى التحكّم في درجة الحرارة والحيلولة دون التجفاف. وتنتشر حمى الضنك هذه في كثير من الأقطار النامية.
يُذكر أن وقت غزو بعوضة “النمر الآسيوي” يأتي في آونة يقلّ فيها بشكل عام اهتمام الناس بالآفات الحشرية. فقد اكتسب على ما يبدو احساساً بالطمأنينة بسبب استئصال البرداء والحمى الصفراء، وبسبب انتشار استعمال الشبك الواقي على النوافذ. ومما يسبب انتشار هذا المرض، تراكم النفايات والأوعية الفارغة واطر السيارات التالفة. فهذه الأشياء تشكّل مواطن مثالية للبعوض.
3- القراد ايضاً يسبب المشاكل. ليس البعوض هو الحشرة الوحيدة المسبّبة لمرض الإنسان خلال أشهر الربيع والصيف. فالقراد أيضاً ناقل لكثير من الأمراض، بما فيها مرض لايم (Lyme)، وهو خمج بكتيري ينتقل بواسطة الأخير. والإسم مشتق من اسم المدينة الأميركية “لايم” بولاية كونكتيت حيث ظهر المرض لأول مرة عام 1975 لدى مجموعة من الأطفال. ومنذ ذلك العام اكتشف وجود المرض في ثمانية عشر قطراً من أقطار العالم بما في ذلك الصين واستراليا.
وبالنسبة لأعراضه الأولى التي كَشَفَت النقاب عن وجوده، فهي طفح جلدي أحمر كالذي تتركه عضّات أو لسع الحشرات. ثم تعقبه قشعريرة وهبّات حارة وإحساس بالتعب الشديد وتصلّب المفاصل. وأعراضه شبيهة بأعراض الزكام. ولكن اذا ترك وشأنه بدون معالجة صحيحة فقد يسبّب التهاباً مزمناً في المفاصل وآفة قلبية واضطرابات عصبية تتراوح بين الشلل الوجهي والإكتئاب الشديد. ومن أعراضه أيضاً حدوث نوبة صداع مفاجئ وتعرق وغثيان وآلام تنتظم سائر البدن.
قد يخيل للمصاب في اول الأمر أنه مصاب بالزكام، كما رأينا. ولكن بعد انقضاء بضعة أشهر على ذلك قد يحسّ المصاب بآلام حادة في الركبة أو المفاصل الاخرى، وقد يشتبه بورم في العمود الفقري. وقد يعجز المصاب بسبب آلامه عن حمل أخف المواد. ومن حسن الطالع أن هذا المرض قابل للعلاج بشرط أن يشخص تشخيصاً صحيحاً يداوى المصاب فوراً.
يُنشأ مرض “لايم” عن عضة قراد الغزال، وهو قراد دقيق يعيش في الغابات والمستنقعات والأماكن المُعَشوْشَبة. وهذا القراد يُمكن أن يتغذّى أيضاً على دم الفئران والكلاب والخيول والحيوانات الأخرى كذلك الطيور التي يُسهل عليها البكتيريا من منطقة إلى أخرى. ولكن من سوء الطالع أن من الصعب اكتشاف الإصابة بسرعة نظراً لصغر حجم القراد الذي يُسببها. اذ أن حجمه هو من الصغر بحيث أنه لا يتجاوز رأس دبوس.
تتسبب في حدوث مرض لايم عضوية ملثوية (Spirochete) وهي عضوية لولبية وحيدة الخلية تشبه العضوية التي تسبّب مرض الزهري. وينفث القراد هذه العضوية الملتوية في الدورة الدموية لضحيته لدى لسعه اياها، بعدما تكون قد انتقلت اليه من حيوان موبوء كالفأر. تم تنتشر الملتوية في سائر أنحاء الجسم وتستقر في الأعضاء الرئيسية والمفاصل حيث قد يحدث فيها أذى طويل المدى.
وتظهر الأعراض الأولى للمرض عادة خلال مدة تتراوح بين ثلاثة أيام وثلاثين يوماً عقب العدوى. ويكون الطفح الجلدي الأحمر المحيط بمكان العضة شبيهً بالحلقة في اول الأمر ثم يأخذ بالإنتشار. ويكون حاراً حساساً مؤلماً عند لمسه ويكون له مركز صلب أحمر أو أبيض. وربما امتد هذا الطفح الى أجزاء أخرى من الجسم. وقد يظن خطأ في أول الأمر بأنه التهاب جلدي ذو علاقة بالقوباء.
ان من السهل معالجة مرض لايم في مراحله الأولى بإعطاء المصاب أنظومة شفوية من المضادات الحيوية خلال عشرة الى عشرين يوماً. وتكون عادة من التتراسايكلين للكبار والبنسيلين أو الأريثروماسين للأطفال والحوامل. غير أنه كثيراً ما يصعب اكتشاف المرض في وقت مبكر، كما راينا، لأن النذر الدالة على المرض وهي الطفح الجلدي المشار اليه، لا تظهر أبداً، أو لأن الشخص الذي يعضه القراد لا يدرك لصغر حجمه أنه قراد موبوء، بل يظن العضة عضة عنكبوت أو بعوضة. ثم قد تخفي نذر المرض على الطبيب متخفية تحت رداء أمراض أخرى كالحمى الرثوية أو التهاب المفاصل أو المرض القلبي بل التصلب اللويحي العديد.
وهكذا يُساء تفسير الأعراض ويُعطى المصاب أدوية لا تفيده فيستشري المرض ويلحق الأذى الكبير بالجسم. ومعظم الذين لا يلتقون العلاج الصحيح المبكر (قد تصل نسبتهم الى 60%) يتطور فيهم المرض حتى تصير داء مزمناً. وفي هذه الحالة، ينبغي معالجة المريض بإعطائه جرعات قوية من المضادات الحيوية في الوريد. وليس هنالك بعد لقاح يحمي منه. ان بالإمكان انتقال جراثيم مرض لايم من الحامل الى جنينها، وقد يؤدي هذا المرض الى إسقاط الجنين أو موته في بطن أمه أو إصابته بتشوه خلقي. لذلك يُفضل أن تعالج الحامل المصابة بهذا المرض عن طريق حقنها وريدياً لئلا يصل المرض الى جنينها.
4- بيب سيوسيس (BABESIOSIS). ان نفس القرادة الحمّالة لجراثيم مرض لايم، تستطيع أيضاً أن تنتقل جراثيم “بيب سيوسيس” التي تسببه مجموعة من العضويات الوحيدة الخلية أو الحيوانات الأولى (PROTOZOA). وهي شبيهة بالعضويات التي تسبّب البرداء. ان هذا المرض الذي يهاجم الخلايا الحمراء ويسبّب فقر الدم وحرارة قليلة، قد اكتشف لأول مرة في السبعينات، وقد أطلق عليه اسم المرض “الإنتهازي”، لأن أول من يصيبهم هم ضحايا السرطان أو كبار السن الذين ضعفت لديهم المنظومات المناعية. ويتفاقم خطره في الأشخاص الذين استؤصل لديهم الطحال. اما اذا كان الشخص سليماً صحيح الجسم، فلا بأس عليه أبداً من جراثيم هذا المرض، حتى ولو تعرّض لها. وفي مثل هذه الحالة الأخيرة لا ضرورة أبداً للعلاج. اذ يقتصر المعالجة على الحالات التي تشكل تهديداً للحياة.