دويخة المعاملات
د. غالب خلايلي
شجّع “كوفيد التاسعَ عشرَ” التعاملَ عن بُعد بحرارة عالية، ولعب الترهيب من التلاقي دوراً جوهرياً في فرض التحوّل الرقمي وزجّه في حياة الناس، فوجدت مؤسساتٌ كثيرة في ذلك فرصَها المواتية للربح الفاحش، وما هو الذي أهمُّ اليومَ من الجري المحموم إلى الربح في كل مجال؟
***
لكن الأخطر بعد ذلك هو طغيان حالة الاعتياد على الوحدة، واستئناس سواد الناس بها، إلى درجة رفض التلاقي بل النفور منه مع ما يتطلبه ذلك من جهد “التهندم” وكلفته (وأكثره عصريّةً الجينز الممزّق ساحل الخصر مع قميص مجعلك)، وتلميع الشعر أو تشميعه (أو نفخ الشفاه وباقي المتلازمة التنفيخية عند الإناث)، والتعطّر والتنقّل (لا تنسَ مشاكل الزحام وتكاليف النقل)، ما دامت إمكانية الإنجاز قائمةً والموظف في غرفة نومه بـ “البيجامة”، على الريق غير حليق، أو في الحمّام مثلاً، أو يتناول وجبته المفضلة “البرغر مع الكولا” وهو يكبس أزرار الحاسوب أو يتلمّس شاشة الهاتف، وكم رأينا من مشاهد مضحكة لـ (شخصيات عالمية) تتحدّث على الملأ (عبر الشابكة) ونصفها العلوي مهندم رتيب، فيما السفلي تقريباً “ربّ كما خلقتني”.
هذه المقدمة تمهّد لحديثي عن مكاتب لا غنى عنها تدعى مكاتب المعاملات، وهي إذ يحتاجها الناس كل وقت، باتت همزة الوصل (وربما القطع) بين الزبائن والدوائر الخِدْمية، فتصلهم بما يريدون بعد لفّ ودوران حتى (الدّوخان)، أو تقطع بهم حبل البئر وهم في جوفه عندما تقوم بدور الوسيط الغبيّ، أو المتذاكي غير النزيه المتّبع لحيل جهنمية، تُكسب المال، وتكلّف الزبون فوق طاقته ما دام لا يستطيع الوصول إلى النبع، وهو (يبلعط) في كأس عكرٍ من الماء.
لا تستغرب إذن عندما تتعامل مع مكاتب، تلعب بالبيضة والحجر والكشتبان، أن تنتظرَ وتنتظرَ، وتدفعَ وتدفع، لمنشارٍ يأكلُ طالعاً نازلاً، بحججٍ ما أنزل الله بها من سلطان، ما بين تجديدِ (ورقةٍ ما) وتفعيلٍ لها، ثم تنشيطها فتوثيقها، فتأكيد التوثيق، ثم تفعيل التأكيد، فتوثيق التفاعيل، أين منها دوخة عمّنا الخليل بن أحمد في سوق المناحيس (النحّاسين)، وهم يطرقون المواعين!.. وهكذا.. (فعِلنٌ فعِلنٌ فعِلنٌ فعل)، حتى تبدأ مفاعيلك يا صاحبي بالغؤور والاضمحلال، وتبدأ بالكلام مع نفسك، وأنت تبحث عن أُذُنِك عبر أكثر الطرق تعرّجاً، ثم عن بيتك الذي لم تعد تعرف إليه سبيلاً، دون أن تعرف متى تنتهي مشكلتك (العالقة على غرار “علقة” نظام المكاتب بين دقيقة وأخرى System Error)، إلى أن تنزل رحمة الله عليك، ويرزقك بموظف عارف نزيه يفكّ لك السحر، وأنت “تبيّض له الفال” بطيب خاطر وراحة بال.
ومع أن بعض مكاتب الوساطة، حفظكم الرحمن، أشبه بحظيرة غنم أو حتى قنّ دجاج بكل معنى الشكل والرائحة، إلا أن الجلوس بها يا عيني (حميم!)، يتلاصق الناس بعضهم ببعض غير آبهين، لينعموا بروائح التعطّن والتعفّن، ولا أدري هنا لماذا لا يُخشى من العدوى، مع أن الجراثيم معشّشة مستوطنة، والقدرة على البقاء خمس دقائق متواصلة في بعضها أمرٌ أشبه بالمعجزة.
الظريف حقاً أن بعض المستثمرين اللمّاحين الذين يتكاثرون كالفطر اليوم، التقطوها وهي طائرة، فأنشؤوا مكاتب حسنة التهوية، فيها تباعد مقبول، وفيها موظفون كثر من أجل تلبية حاجات المراجعين الملهوفين (وكل شيء بثمنه)، ما دامت المصالح غير راغبة بالعودة إلى مقابلة العملاء وجهاً لوجه، ولو من وراء نِقاب (ما شاع خطأ بالكِمامة) أو حاجز زجاجي ذي كوة منخفضة لا تسمح بمرور فأر، مما يضطرّ المراجع إلى الانحناء الشديد المُخلّ (تخيّل عجوزاً متيبس الظهر والمفاصل منصلباً بوضعية رقم اثنين أو ستة) مبادلاً ما بين أذنه مرةً و(بوزه) مرة أخرى (استقبال ضعيف ثم إرسال)، كل ذلك خوفاً من انتقال الأمراض الفيروسية والنفسية! نعم، فالزبون لا يُستبعد أبداً أن يحمل معه أمراضاً مختلفة أقلّها البخر (رائحة الفم الكريهة) عندما يستيقظ هلِعاً، و”الشمس كسولٌ في خِدر أمها”، فلا يكسر سفرة الفول والبصل (والأدقّ رقبةً إذا كسرها)، وربما لا يقدر على تناول كأس شاي على عَجَل (أو عجلين)، ليركض حاملاً حقائب مستنداته (منذ وُلِدَ جدّه الأول) على كتفيه، وتحت إبطيه.
لكن يا للأسف! فأخونا المنكوب، مع كل حرصه، سوف يقع في مطبات متتالية، كلما انتهى واحد برز آخر، إذ لا يُخبَر عن المطبّات (المتطلّبات) كلّها مرّة واحدة (عمداً، والأغلب تنبلةً)، وإلا فإن اللعبة سوف تنتهي! وكم يفاجأ أخونا – رحمه الله – بطلبٍ لا يخطر على بال إنسي بله جنّيّ، ليسقط في يده (ورجله). أما نفسياً، ويا للعجب، فلا يستبعد أن يكون الزبون معتلّ الأول والوسط والآخر نفسياً كما هو بدنياً (والمؤكد انتهاؤه إلى ذلك)، ومن ثم تنتقلُ كآبتُه إلى الموظّف الكريم، أسعده الله، فمن باب أولى ألا يلتقيا.
ولا بد أن تكون حاذقاً أخي الفاضل، فعندما تسمع بكلمة (لاعب)، يقيناً سوف تفهم أن هناك (لعبة) يلعبها فريق متكامل في ساحةٍ بلا حكم (ضمير)، كُرَتُها الزبون في أي مجال، هندسةً أو تجارةً أو حتى طبّاً، فالطبيب الغشّاش يغلب أن يدور في حلقة تضمّه وكاتب ملفاته ومبرمجها Coder والممرّض والصيدلي والمحاسب والمدير وربما موظّف التأمين أو حتى المريض ذاته إن كان يستفيد من الغش.
هذا ويقتضي فنّ المعاملات الحديث أن تطلب منك موظفةٌ نموذجية (منفوخة الشفاه والوجنات… بلا تعليم ذي بال، تعلك العلكة طيلة الوقت) مستنداتٍ سبق طلبها مرات، مع أن شيئاً لم يتغير بك مع الزمن اللهم سوى بهاء صلعتك وبروز كرشك! لكن لم سوء النية؟ لا بد أنّ للعارفات بفنّ المعاملات وضياع طاسات المصالح (حيث الملفّات ضائعة أو تالفة) حِكَماً بالموضوع، يصعب على أمثالنا العاديين معرفتها، ومعرفة لماذا يتغير المطلوب بين مكتب وآخر! ترى هل لتنوّع الفنون حدود؟!
مرة، طلبتْ مني “غندورة” تنفخ العلكة “بوالين”، إعادة تصديق مستند فقد مصداقيته بالتقادم!. لكن – للطف المقادير- أن المعاملة جرت بيُسر، لا رحنا ولا جئنا: تكتكة لمدة دقيقة على الهاتف، ثم دفع المطلوب (اونلاين)، ثم ملاقاة سائق التوصيل حيث تكون، يستلم المعاملة بكل أدب، ويعنّ بدراجته النارية ويعيدها بعد يومين. بصراحة: روعة، فأين هي المشكلة؟
المشكلة فيّ يا سادتي أنا (المنحوس الإلكتروني) الذي لا تفتح معاملة (أونلاين) في وجهه دون عَنَت، ودون كيلو من الورق، مع ثلاثين مشواراً إلى المكاتب. ولا أخفيكم، أهلَ مستودع السرّ في بئر عميق (مثل أغلبنا)، أنني كنت قلقاً على التأخير، فرُحْتُ أنتظرُ الدرّاجَ في الصباح مضيعاً الوقت ما بين شاي وقهوة وأخبار بائتة: الآن يأتي، أو بعد قليل! حتى فرغ صبري واضطرمت أحشائي فـ.. دخلت الحمّام!
و(اللطيف) في الأمر يا أحباب، وكما تتوقعون تماماً، أنه عندما غطّت رغوة الصابون وجهي وعينيّ، اتصل أخونا الدرّاج، والطاسة بعيدة. وقتها استسلمتُ للقضاء والقدر، وقلت: لم العجلة يا رجل وهي من الشيطان؟ وهل هي مشكلة ترحيل معاملة من شهر إلى شهر أو من عام إلى عام؟
وأنا، أخوكم المنحوس، بعد مرور أشهر، ما زلتُ – عيني عليكم باردة – أبحث عن طاسة الماء لإزالة رغوة الصابون، جلاءً للعيون، فلا أتزحلق إلى طبيب أعصاب أو جرّاح عظام أو اختصاصي كُلى وأكباد، إذ إن الخلاص منهم ومن فواتيرهم ليس بأهون من غندورات المكاتب، خاصة إذا لم يبلغوا أهدافهم المرسومة لهم من قبل الإدارات الشفيفة الشفوقة، ودمتم سالمين.
29 كانون الثاني 2024