د. الياس ميشال الشويري
في عالمٍ يتّجه نحو التسييس الناعم والزعامة المتردّدة، خرج الرئيس دونالد ترامب من قلب المؤسسة الأميركية كقائد يقتحم لا يُساير، يواجه لا يُجامل، ويقلب الطاولات على كل الثوابت السياسية التي اعتادها الغرب لعقود. فبينما بدا العديد من قادة أوروبا مجرّد إداريين بلا لون، يغرقون في بيروقراطية العقوبات الذاتية ويتحرّكون كظلٍّ خافت خلف رغبات المؤسسات العميقة، اختار ترامب طريقًا آخر: المواجهة باسم السيادة، والانحياز الصريح لمصالح بلاده، ولو على حساب قواعد “اللعبة الدولية“.
ترامب ليس مجرّد رئيس أميركي مثير للجدل، بل ظاهرة سياسية عكست أزمة الزعامة في الغرب، وجعلت من المقارنة بينه وبين القادة الأوروبيين أشبه بمقارنة بين من يملك قرارًا، ومن يُملى عليه القرار. لقد طرح رؤيته بشكلٍ مباشر وصادم، فرفض التماهي مع خطاب “العولمة الرحيمة“، وخاض معارك مكشوفة مع الإعلام والمؤسسات، ورفض الخضوع لإملاءات القوى فوق الوطنية.
هذا المقال يعاين شخصية ترامب كرئيس من طراز خاص، ويقارنها – بمنهج نقدي تحليلي – بما آلت إليه الزعامة في أوروبا من ضعف وتردّد. فهل كان ترامب ضرورة تاريخية؟ وهل تعكس حدّته مطلبًا عالميًا لقادة لا يخافون من الحقيقة؟
- الزعامة في زمن التفكك – ترامب كرجل مرحلة
برز الرئيس دونالد ترامب على المسرح العالمي بشخصية صاخبة، رافضة للأعراف الدبلوماسية التقليدية. بدا أشبه بـ”رئيس من خارج الصندوق“، يتكلم بلغة الشارع الأميركي، ويتعاطى مع الملفات السياسية بعين رجل الأعمال لا السياسي التقليدي. وبينما ترددت قيادات أوروبا في التعامل مع ملفات الهجرة أو التهديدات الأمنية، اختار ترامب المواجهة بلا مواربة. هذا النهج أزعج النخب، لكنه نال إعجاب الملايين ممن رأوا فيه صورة الزعيم القوي القادر على اتخاذ القرار دون خوف من الإعلام أو المؤسسات “العميقة“.
بينما غرق القادة الأوروبيون في المماطلة والتردد، خصوصًا في مواجهة تصاعد الشعبوية والهجرة غير الشرعية، قدّم ترامب مقاربة مباشرة: الجدار الحدودي، تقييد السفر من دول تعتبر “مصدراً للإرهاب”، والانسحاب من الاتفاقيات التي يعتبرها غير مفيدة. قراراته قد تكون مثيرة للجدل، لكنها عكست إرادة سياسية واضحة. ففي حين تآكلت صورة القادة الأوروبيين داخل بلدانهم، بدا ترامب في نظر مؤيديه كبطل شعبوي لا يخاف من المواجهة، ولا يقدّم اعتذارات مجانية على مواقفه.
ترامب … لم يكن يومًا موظفًا بيروقراطيًا كالعديد من رؤساء أوروبا. شخصيته الجريئة عكست فارقًا جوهريًا: فهو لا يسعى لإرضاء الجميع، بل لتنفيذ وعوده، حتى وإن واجه احتجاجات النخب. أما القادة الأوروبيون، فكثيرًا ما بدوا عاجزين عن إرضاء شعوبهم أو حمايتهم من التحولات السريعة التي تضرب الهويات الوطنية. هذه المفارقة تعكس أزمة زعامة عالمية، حيث باتت بعض الدول بحاجة إلى شخصيات قوية بدل النماذج الرمادية.

- السيادة الوطنية في مواجهة العولمة الهشة
في خطاب الرئيس ترامب السياسي، حضر شعار “أميركا أولاً” ليس كشعار عنصري، بل كعودة إلى مبدأ السيادة الوطنية في مواجهة عولمة مسيّسة. في حين تماهت بعض الحكومات الأوروبية مع منطق التنازل للاتحاد الأوروبي على حساب المصلحة القومية، كان ترامب يعيد تعريف دور الدولة كفاعل مستقل. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عكس هذا الاتجاه أيضًا، لكن دون حزم قيادة كما فعل ترامب، الذي انسحب من “اتفاق باريس” و”الصفقة النووية الإيرانية“، رافعًا شعار استقلال القرار الأميركي.
اعتمد ترامب رؤية اقتصادية تضع العامل الأميركي أولاً، ففرض ضرائب على المنتجات الصينية، وأعاد التفاوض على الاتفاقيات التجارية الكبرى مثل “نافتا“، وهدد الشركات التي تنقل مصانعها إلى الخارج. في أوروبا، كانت السياسات الاقتصادية تتبع إملاءات البنوك المركزية وصناديق النقد الدولية، مما أدى إلى تفشي البطالة في جنوب القارة. أما ترامب، فربط بين الكرامة القومية والاستقلال الاقتصادي، واستثمر خطابه في إعادة هيبة الصناعة الأميركية، حتى لو كلّفه ذلك مواجهات حادة.
في وقتٍ اختارت فيه أوروبا فتح أبوابها أمام موجات لجوء غير مدروسة، أدت لاحقًا إلى مشاكل اجتماعية وأمنية وثقافية، رفض ترامب هذا المسار، وأصر على تنظيم الهجرة وفق مصالح بلاده. لم تكن المسألة عنصرية بقدر ما كانت دفاعًا عن النموذج الأميركي الذي خشي ترامب من انهياره تحت وطأة التعدد الفوضوي. أوروبا دفعت ثمن تراخيها: توترات عرقية، تصاعد اليمين المتطرف، واهتزاز الهويات الوطنية. أما ترامب، ففضل أن يتهم بالقسوة على أن يُذكر كقائد مفرّط.
- الإعلام والسلطة العميقة – المواجهة لا الخضوع
الرئيس ترامب من القادة القلائل الذين تحدّوا علنًا هيمنة الإعلام الليبرالي. وصفه بـ”عدو الشعب” لم يكن مجرد رد فعل عاطفي، بل كان إعلان مواجهة مع منظومة إعلامية متحالفة مع المؤسسات العميقة. في المقابل، غرق قادة أوروبا في نفاق إعلامي، يُرضي النخب ويهمّش الناس. ترامب فضّل خسارة الإعلام وربح قاعدته الشعبية، وأثبت أن الزعيم ليس مضطرًا للخضوع لنفوذ القنوات الكبرى ليحكم.
خاض ترامب صراعًا عنيفًا مع البيروقراطية العميقة في واشنطن، من الاستخبارات إلى القضاء، محاولًا كسر الحلقة المغلقة بين السياسيين واللوبيات. في المقابل، يظهر القادة الأوروبيون كموظفين خاضعين لمنظومة متشابكة من المصالح، لا يملكون قرارًا حقيقيًا. ترامب واجه حملات محاكمة وعزل، لكنه تمسك بخطابه ولم يتراجع. قوته لم تكن في المؤسسات، بل في قدرته على تحديها إن تعارضت مع مبادئه.
بخلاف سياسيي أوروبا الذين يخشون الحديث عن الإسلام السياسي، أو عن فشل الاندماج، أو حتى عن الفساد داخل المنظمات الدولية، لم يكن لترامب “تابوهات”. هاجم الأمم المتحدة، وانتقد الناتو، ورفض السكوت عن دعم بعض الأنظمة للإرهاب. هذا السلوك خلق له أعداء كثراً، لكنه أعطاه مصداقية عند من سئموا من لغة “التوازنات الكاذبة“. ترامب مثّل نموذج الزعيم الذي لا يخاف أن يُسمى الأشياء بأسمائها، خلافًا للكثير من القادة الأوروبيين.

- شعبوية مسؤولة أم تهريج سلطوي؟
اتهم ترامب بالشعبوية، وهذا صحيح. لكنه مارسها ضمن رؤية، لا لغاية الخطابة فقط. كان خطابه موجهًا لفئات مهمشة، لكنها حيوية: العمال، المحافظون، الطبقة الوسطى البيضاء. أما في أوروبا، فالشعبوية غالبًا ما تحولت إلى نبرة متطرفة بلا مشروع: كراهية للاجئين، تهجم على الإسلام، دون برنامج اقتصادي أو إصلاحي واضح. ترامب جمع بين التعبئة والتخطيط، وهو ما يميزه عن الشعبويين الفارغين في أوروبا.
قد يختلف كثيرون مع ترامب، لكن لا يمكن اتهامه بالكذب على مناصريه. نفّذ وعوده: انسحب من الاتفاقيات، عيّن قضاة محافظين، ضغط على الصين، حارب الإعلام، وبنى الجدار. أما القادة الأوروبيون، فكثيرًا ما أطلقوا وعودًا شعبوية ثم رضخوا لضغوط النخبة. ترامب كان على الأقل صادقًا في تمثيله لقيمه، حتى وإن بدت فظة، ما منح قاعدته ثقة بأنه لا يخونها كما تفعل النخب في القارة العجوز.
يُعرَف القائد الحقيقي من كاريزمته. في أوروبا، يُنتخب رؤساء من خلفية إدارية أو تكنوقراطية، لا يملكون حضورًا شعبيًا، ولا قدرة على التأثير الخطابي أو الرمزي. أما ترامب، فإنه يملك القدرة على تعبئة الحشود، وبناء حالة سياسية متجاوزة لحزبه. إنه الزعيم الذي يصنع الحالة لا الذي يخضع لها. وفي زمن الارتباك العالمي، تُعد هذه القدرة عملة نادرة.
- الخاتمة: حين يفتقد العالم الزعامة الجريئة
الرئيس دونالد ترامب مثّل تجربة سياسية فريدة في عصر من التردد والضعف العالمي. بالمقارنة مع قادة أوروبيين فقدوا زمام المبادرة، وغرقوا في لغة الاعتذارات، قدّم ترامب زعامة هجومية، واضحة، لا تخشى الصدام، ولا ترضى بأن تُحكم من خلف الستار. إن مستقبل الشعوب، لا سيما في الغرب، يتوقف على نوع القادة الذين تفرزهم الصناديق: هل هم إداريون محافظون على الوضع الراهن؟ أم أصحاب رؤية يزعجون النظام ليعيدوا تشكيله؟ في هذا السياق، يبقى الرئيس دونالد ترامب تجسيدًا نادرًا للزعيم الذي يقرّر، لا يُقرَّر له.