الملك سلمان بن عبد العزيز والأمير محمد بن سلمان
د. الياس ميشال الشويري
منذ استقلال الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ولبنان، شهدت كلّ من هذه الدول مسارات قيادية مختلفة قادت إلى نتائج متباينة من حيث التنمية الاقتصادية والاجتماعية والاستقرار السياسي. الإمارات والسعودية استطاعتا بفضل القيادة الحكيمة والمستدامة منذ الاستقلال وحتى اليوم، تحويل مواردهما وثرواتهما إلى محركات تنمية مستدامة عبر استثمارها في التعليم، التكنولوجيا، البنية التحتية، والابتكار. في المقابل، شهد لبنان تدهورًا تدريجيًا بعد فترات وجيزة من القيادة الحكيمة في الخمسينيات والستينيات، ليصبح مع الزمن رهينة للصراعات السياسية الداخلية والخارجية، والفساد المستشري الذي أعاق تقدّمه.
هذا المقال يستعرض مسيرة القيادة الحكيمة في الإمارات والسعودية منذ استقلالهما، ويقارنها مع حالة القيادة العقيمة التي أدّت إلى تدهور لبنان بعد استقلاله، وخاصة منذ التسعينات، ليوضح كيف تؤثر نوعية القيادة على مصير الدول واستقرارها.
- القيادة الحكيمة في الإمارات: من التأسيس إلى الريادة العالمية
منذ تأسيس دولة الإمارات في 2 كانون الأول 1971، برزت القيادة الحكيمة للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كرائد في تحقيق وحدة الإمارات السبع وبناء دولة متماسكة. الشيخ زايد لم يكن مجرد قائد سياسي، بل كان صاحب رؤية استراتيجية، حيث أدرك منذ البداية أهمية استثمار الثروة النفطية ليس فقط كمصدر للثروة، بل كأداة لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة. ركزت سياساته على بناء بنية تحتية قويّة تشمل شبكات الطرق، والمطارات، والموانئ، وتطوير قطاعات التعليم والرعاية الصحية، ممّا أدّى إلى تحسين جودة الحياة للمواطنين وتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
كان الشيخ زايد أيضًا من أوائل القادة في المنطقة الذين أدركوا أهمية الاستدامة، حيث وضع خططًا طويلة الأمد للحفاظ على البيئة واستخدام الموارد بشكل مسؤول. ولم يكن النفط إلا نقطة انطلاق لتأسيس اقتصاد متنوّع يعتمد على الابتكار والتكنولوجيا، وهو ما ظهر لاحقًا في سياسات الدولة.
مع تولي الشيخ خليفة بن زايد والشيخ محمد بن زايد قيادة البلاد، استمّر نهج الابتكار والتطوير. أصبحت الإمارات نموذجًا عالميًا في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، حيث شهدت تطورًا ملحوظًا في مجالات مثل الفضاء والطاقة المتجدّدة. إطلاق “مسبار الأمل” إلى المرّيخ في عام 2020 كان واحدًا من الإنجازات البارزة التي أكدت التزام الإمارات بتطوير العلوم والتكنولوجيا. كما أظهرت الدولة التزامًا بتطوير مشاريع الطاقة المتجدّدة مثل مجمّع محمد بن راشد للطاقة الشمسية، الذي يعد من أكبر المشاريع على مستوى العالم.
سياسات تنويع الاقتصاد كانت أيضًا جزءًا أساسيًا من رؤية القيادة الإماراتية، حيث تمّ تقليل الاعتماد على النفط بشكل تدريجي وتوجيه الاستثمارات نحو قطاعات مثل السياحة، التجارة، التكنولوجيا، والابتكار. اليوم، تحتل الإمارات مكانة بارزة كمركز عالمي للأعمال، السياحة، والابتكار بفضل قيادتها التي لم تتوقف عن استشراف المستقبل والاستثمار في التكنولوجيا والإنسان.
بهذا النهج المتكامل، أصبحت الإمارات نموذجًا يُحتذى به في القدرة على الموازنة بين الحفاظ على التراث والتقاليد من جهة، واحتضان التحديث والابتكار من جهة أخرى.
- القيادة الحكيمة في السعودية: التحديث والإصلاح في ظل رؤية 2030
منذ توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك عبدالعزيز آل سعود عام 1932، أصبحت السعودية قوة إقليمية ودولية مؤثرة، مستفيدة من القيادة الحكيمة والتوجهات الاستراتيجية التي وضعتها القيادة منذ تأسيس الدولة. الملك عبدالعزيز، المعروف ببعد نظره وحكمته، ركّز على توحيد القبائل والمناطق المختلفة تحت راية الدولة السعودية الحديثة، ما أسس لاستقرار سياسي وازدهار اقتصادي استمر حتى يومنا هذا.
في العقود التي تلت توحيد المملكة، شهدت السعودية تطورًا شاملًا في البنية التحتية والخدمات العامة، خاصة في مجالات التعليم والصحة. تم إنشاء شبكات من المدارس والجامعات، إلى جانب مؤسسات صحية حديثة، مما أدّى إلى تحسين نوعية الحياة في البلاد. هذا التطوّر لم يقتصر على المدن الكبرى فحسب، بل شمل المناطق الريفية والنائية أيضًا، حيث حرصت القيادة على تحقيق تنمية شاملة ومتوازنة.
مع تولّي أبناء الملك عبدالعزيز القيادة، استمرّت المملكة في طريق التطوّر. فكانت الاستثمارات في قطاع النفط محركًا رئيسيًا للاقتصاد، إذ أصبحت السعودية واحدة من أكبر منتجي النفط في العالم. ومع ذلك، لم تقف القيادة عند حدود الاعتماد على النفط فقط، بل عملت على استثمار الثروة النفطية لتطوير البنية التحتية الضخمة، بما في ذلك المطارات والموانئ والطرق السريعة التي ربطت البلاد وعزّزت التجارة والتنقل.
ومع تولي الملك سلمان بن عبدالعزيز الحكم في عام 2015، وظهور ولي العهد الأمير محمد بن سلمان كلاعب رئيسي في المشهد السياسي والاقتصادي، شهدت السعودية تحوّلًا استراتيجيًا من خلال “رؤية 2030“. هذه الرؤية كانت بمثابة نقلة نوعية في مسار التنمية، حيث تهدف إلى تنويع الاقتصاد السعودي بعيدًا عن الاعتماد الكلّي على النفط. واحدة من أبرز ملامح هذه الرؤية هي الاستثمار الكبير في مجالات التكنولوجيا والابتكار، وهو ما يُترجم عمليًا من خلال تطوير المدن الذكية والمشروعات التقنية الكبرى.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى “رؤية 2030” إلى تعزيز السياحة باعتبارها ركيزة أساسية للتنويع الاقتصادي. تم إطلاق مشاريع ضخمة مثل “نيوم” و”مشروع البحر الأحمر“، التي تهدف إلى جعل السعودية وجهة سياحية عالمية تجمع بين التكنولوجيا المتقدّمة والطبيعة الفريدة. إلى جانب ذلك، تأتي استثمارات واسعة في قطاع الطاقة المتجددة، حيث تسعى المملكة لأن تصبح رائدة في إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح كجزء من التزامها بالاستدامة البيئية.
هذه الخطة الطموحة لا تركّز فقط على الجانب الاقتصادي، بل تمتّد إلى تعزيز دور السعودية على الساحة العالمية من خلال الإصلاحات الاجتماعية والسياسية. فقد شهدت المملكة إصلاحات اجتماعية ملحوظة، مثل تمكين المرأة وتوسيع حرياتها، وكذلك فتح المجال أمام الفعّاليات الثقافية والترفيهية التي كانت مقيّدة سابقًا.
في الختام، تعدّ “رؤية 2030” مثالًا على قدرة القيادة السعودية على استشراف المستقبل والتعامل مع التحديات الاقتصادية العالمية. بقيادة الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تعزّز المملكة من مكانتها كقوة اقتصادية عالمية، مع التركيز على تحقيق استدامة اقتصادية وتكنولوجية واجتماعية تلبّي تطلعات الشعب السعودي وتواكب التحوّلات العالمية.
- لبنان: القيادة الحكيمة في الخمسينيات والستينيات
على الرغم من التحديات التي يواجهها لبنان اليوم، لا يمكن إنكار أن البلاد قد شهدت فترات من القيادة الحكيمة والإدارة الرشيدة، خصوصًا خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. في تلك الفترة، برزت شخصيتان قياديتان مهمتان هما الرئيس كميل نمر شمعون والرئيس فؤاد شهاب، اللذان تركا بصماتهما على مسار لبنان السياسي والاقتصادي.
1-فترة الرئيس كميل شمعون (1958-1952). يعتبر الرئيس كميل شمعون واحدًا من أبرز الزعماء اللبنانيين الذين ساهموا في وضع لبنان على خريطة الاقتصاد العالمي. خلال فترة حكمه، تبنّى الرئيس شمعون سياسة اقتصادية مفتوحة، وكان تركيزه منصبًا على تحديث البنية التحتية وجذب الاستثمارات الأجنبية. فشهد لبنان خلال هذه الفترة ازدهارًا اقتصاديًا غير مسبوق، حيث تمّ تشييد العديد من المشاريع الكبرى مثل الطرق والمطارات، وتعزيز قطاع السياحة والخدمات المالية. بفضل هذه الجهود، أطلق على لبنان لقب “سويسرا الشرق الأوسط“، حيث أصبح مركزًا ماليًا وتجاريًا إقليميًا يجذب رؤوس الأموال من جميع أنحاء العالم.
الرئيس شمعون عمل أيضًا على تعزيز العلاقات الخارجية للبنان، خاصة مع الدول الغربية. وقد كانت سياساته التحديثية محل إعجاب إقليمي ودولي، حيث أرسى دعائم لاقتصاد حديث يتمتّع بالحرية والانفتاح على الأسواق العالمية.
2-فترة الرئيس فؤاد شهاب (1964-1958) . بعد انتهاء فترة الرئيس شمعون التي تخللتها اضطرابات سياسية، جاء الرئيس فؤاد شهاب ليبدأ مرحلة جديدة من الحكم قائمة على إصلاحات إدارية وتنموية. الرئيس شهاب كان يؤمن بأن تحقيق الاستقرار في لبنان لا يعتمد فقط على النمو الاقتصادي، بل أيضًا على بناء مؤسسات قوية ومتينة قادرة على خدمة المواطنين بفعالية. في هذا الإطار، ركز على تعزيز مؤسسات الدولة مثل الجيش والقضاء، وطور قطاع الخدمات العامة والاجتماعية، بما في ذلك التعليم والصحة.
تعتبر “الشهابية” مرحلة ذهبية في تاريخ لبنان لأنها قامت على أساس مبدأ الدولة المؤسساتية، حيث سعى الرئيس شهاب إلى الحد من النفوذ السياسي الطائفي والمناطقي في الدولة، وتعزيز مبدأ المواطنة المتساوية. قام بإنشاء العديد من المؤسسات التي لا تزال تعمل حتى اليوم، مثل مجلس الخدمة المدنية، الذي يعنى بتعيين الكفاءات في الوظائف الحكومية، وكذلك إصلاح قطاع الأمن لتعزيز الاستقرار الداخلي.
3-الاستقرار والتنمية. كان الرئيس شهاب يؤمن بأن التنمية الاجتماعية هي مفتاح الاستقرار على المدى الطويل. لذلك، ركز على تحسين الخدمات الاجتماعية مثل توفير الرعاية الصحية والتعليم المجاني، مما ساعد على تحسين جودة الحياة للمواطنين. كما أن إصلاحاته الإدارية ساهمت في بناء بنية إدارية صلبة تساعد على استدامة مؤسسات الدولة. خلال فترة حكمه، شهد لبنان نموًا اقتصاديًا متوازنًا، حيث تم التركيز على تقليص الفوارق الاجتماعية وتحقيق العدالة بين المناطق المختلفة.
4-المقارنة بين الرئيسين شمعون وشهاب. بينما كان الرئيس شمعون أكثر ميلاً إلى الاقتصاد الحر والسياسات الخارجية المتحالفة مع الغرب، كان الرئيس شهاب أكثر تركيزًا على بناء الدولة من الداخل وتعزيز المؤسسات. ومع ذلك، كلا الزعيمين نجحا في وضع لبنان على طريق التطوّر والازدهار. الرئيس شمعون نجح في جذب الاستثمارات وتحديث البنية التحتية، بينما الرئيس شهاب بنى الأسس المتينة للمؤسسات الحكومية وساهم في تحسين الخدمات الاجتماعية.
5-القيادة الحكيمة في تلك الفترة. القيادة الحكيمة التي قدمها الرئيسين شمعون وشهاب شكّلت نموذجًا فريدًا من التعاون بين الجهود الاقتصادية والتنموية من جهة، والإصلاحات الإدارية والمؤسساتية من جهة أخرى. هذه الفترة الذهبية من الحكم اللبناني تُظهر كيف يمكن لقيادة رشيدة أن توازن بين النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، وتؤسّس لبلد يتمتّع بالاستقرار والتطوّر.
- انحدار القيادة في لبنان بعد الستينيات: من الرؤية إلى الفشل
مع نهاية عهد الرئيس فؤاد شهاب في عام 1964، بدأ لبنان يشهد تراجعًا ملحوظًا في القيادة الحكيمة التي كانت تسعى لبناء دولة قوية ومستدامة. فشلت القيادات السياسية التي تلت الرئيس شهاب في الحفاظ على استمرارية الإصلاحات التي وضعها أو تنفيذ رؤيته في تعزيز مؤسسات الدولة. بدلاً من تبنّي نموذج التنمية المستدامة الذي يوازن بين الاقتصاد والسياسة الاجتماعية، تفاقمت النزاعات الطائفية والسياسية، ممّا أدّى إلى توتّر الأوضاع الداخلية.
-فشل القيادات اللاحقة واستمرار الصراعات. بعد انتهاء فترة حكم الرئيس شهاب، اتجهت البلاد نحو مسار من الانقسامات الطائفية والتوترات السياسية. الزعماء الذين جاؤوا بعده لم يمتلكوا الرؤية الشاملة التي تميز بها الرئيس شهاب، ولم ينجحوا في التعامل مع التحديات الداخلية التي كانت تتزايد بشكل سريع. بدلاً من التركيز على تعزيز المؤسسات وتحقيق الاستقرار، أصبحت الزبائنية والمحاصصة الطائفية السمات المميزة للحكم، وهو ما قاد إلى تفاقم الأزمات الداخلية.
-تفاقم النزاعات الطائفية والسياسية. مع تزايد التوترات الطائفية والسياسية، أصبحت الدولة ضعيفة أمام التدخلات الخارجية التي استغلّت هذا الانقسام لتحقيق مصالحها. الصراعات الإقليمية والدولية باتت تلعب دورًا أساسيًا في تحديد مستقبل لبنان، ممّا جعل البلاد ساحة لصراعات لا علاقة لها بأوضاعها الداخلية. وبدلاً من مواجهة هذه التحديات عبر تعزيز الوحدة الوطنية، انقسمت القيادات اللبنانية على أسس طائفية، ممّا أدّى إلى شلل في مؤسسات الدولة.
-الحرب الأهلية اللبنانية (1990-1975) . بلغت هذه الأزمات ذروتها مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975، والتي استمرت حتى عام 1990. الحرب الأهلية كانت نتاج عقود من الانقسامات والتوترات التي لم تُحّل، وأدّت إلى تدمير الاقتصاد اللبناني بشكل شبه كامل، ودمّرت العديد من مؤسسات الدولة. البنية التحتية تمزقت، والبلاد غرقت في حالة من الفوضى السياسية والاجتماعية. هذه الحرب لم تقتصر على الصراع الداخلي فقط، بل كانت ساحة لتدخلات خارجية متعدّدة، ممّا جعل إعادة بناء الدولة أكثر تعقيدًا.
-الفساد وسوء الإدارة بعد الحرب. مع نهاية الحرب الأهلية، كانت هناك آمال كبيرة بإعادة بناء لبنان واستعادة مؤسساته، لكن الواقع كان مختلفًا. استمرت الأزمات السياسية بسبب تفشّي الفساد وسوء الإدارة، حيث استمرت المحاصصة الطائفية في التحكّم بمفاصل الدولة. النظام السياسي لم يكن قادرًا على تحقيق إصلاحات جذرية أو معالجة مشاكل الفقر والبطالة التي كانت تتزايد بشكل مستمر. هذا الواقع ساهم في تدهور الثقة بين المواطنين والدولة، ممّا جعل البلاد تعاني من انعدام الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
-أمل قصير مع انتخاب بشير الجميل. في عام 1982، بزغ أمل جديد مع انتخاب بشير الجميل رئيسًا للجمهورية. بشير كان يُنظر إليه على أنه قائد يمتلك رؤية لاستعادة السيادة وبناء دولة قوية ومتماسكة. كان يملك الشجاعة والقيادة اللازمة لتوحيد اللبنانيين حول مشروع وطني يعيد الأمور إلى نصابها، وكان بإمكانه كسر حلقة الفساد والمحاصصة. ومع ذلك، لم يدم هذا الأمل طويلًا، حيث تم اغتيال الرئيس المنتخب بشير بعد فترة وجيزة من انتخابه. اغتياله شكّل صدمة كبيرة للبنانيين، ودمّر الأحلام بعودة لبنان إلى الاستقرار.
-تداعيات ما بعد اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميّل. بعد اغتيال بشير الجميّل، دخل لبنان في مرحلة أكثر تعقيدًا من الفوضى السياسية. فشل القادة السياسيون الذين تبعوه في تحقيق رؤيته الإصلاحية، واستمّر الفساد في السيطرة على مؤسسات الدولة. الانقسامات الطائفية تعمّقت، وبات لبنان عاجزًا عن تحقيق استقرار سياسي أو اقتصادي مستدام. ظلت البلاد تعاني من الصراعات الداخلية والخارجية، مما أدّى إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية وتدهور البنية التحتية.
- استثمار الإمارات والسعودية في الإنسان والتكنولوجيا مقابل تراجع لبنان
بينما استثمرت الإمارات والسعودية في بناء المواطن كأولوية لتحقيق التنمية المستدامة، شهد لبنان تدهورًا كبيرًا في هذا المجال نتيجة الأزمات السياسية والاقتصادية. في الإمارات، أدركت القيادة منذ البداية أن التعليم هو المفتاح لبناء دولة حديثة وقوية. تمّ تعزيز النظام التعليمي بشكل كبير من خلال شراكات مع جامعات عالمية مثل جامعة نيويورك أبوظبي وجامعة السوربون أبوظبي، ممّا مكّن الطلاب الإماراتيين من الحصول على تعليم عالمي المستوى داخل بلادهم. كما ركّزت الدولة على تأهيل الشباب لمواجهة متطلبات المستقبل من خلال برامج متخصّصة في مجالات التكنولوجيا والابتكار، مثل الذكاء الاصطناعي، والذي أصبح ركيزة أساسية في رؤية الإمارات للمستقبل.
على الجانب الآخر، سعت السعودية إلى تحقيق تحوّل شامل عبر رؤية 2030 التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. تم وضع الاستثمار في المواطن السعودي في قلب هذه الرؤية من خلال برامج تطوير المهارات والتعليم. السعودية ركزت على تمكين الشباب والشابات السعوديين من خلال إطلاق برامج تدريبية متخصّصة في التكنولوجيا وريادة الأعمال، بالإضافة إلى مشاريع تهدف إلى تطوير المهارات العملية والفنية. مشاريع مثل “نيوم” و”القدية” ليست مجرّد بنى تحتية ضخمة، بل تمثّل توجهًا نحو بناء اقتصاد متنوع ومستدام يعتمد على المعرفة والإبداع.
في المقابل، يعاني لبنان من انحدار مستمر في مجال التعليم والتنمية البشرية، حيث أدّى غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي إلى إضعاف النظام التعليمي وخدمات الرعاية الاجتماعية. على الرغم من أن لبنان كان يُعتبر في السابق مركزًا للتعليم العالي في المنطقة، حيث اشتهرت جامعاته مثل الجامعة الأمريكية في بيروت والجامعة اللبنانية بتخريج كفاءات عالية، إلا أن الأزمات المستمرة شلّت هذا القطاع الحيوي. عدم قدرة الدولة على تقديم الدعم اللازم للمؤسسات التعليمية أدّى إلى هجرة العقول والكفاءات الوطنية، حيث لجأ الكثير من الشباب اللبناني إلى الخارج بحثًا عن فرص عمل ومستقبل أفضل.
نزيف العقول الذي يشهده لبنان يمثّل خسارة كبيرة للقدرات الوطنية، وهو نتيجة لسنوات من الفساد وسوء الإدارة. في حين أن الإمارات والسعودية استفادتا من استثمارها في المواطن لتعزيز الابتكار والتنمية المستدامة، فإن لبنان يعاني من هجرة شبابه الذين كان من الممكن أن يلعبوا دورًا كبيرًا في إعادة بناء البلد. غياب بيئة ملائمة للتعليم والتطوير المهني داخل لبنان، مقرونًا بالأزمات السياسية، جعل البلاد غير قادرة على الحفاظ على كفاءاتها، ممّا أدّى إلى فجوة كبيرة في الموارد البشرية اللازمة لتحقيق النمو والتنمية.
على الصعيد الاقتصادي، يُظهر النموذج الإماراتي والسعودي كيف يمكن أن يكون الاستثمار في المواطن محركًا رئيسيًا لتحقيق التقدّم. في الإمارات، الاستثمار في مجالات الابتكار والذكاء الاصطناعي قاد إلى تحوّل الدولة إلى مركز عالمي للتكنولوجيا والأعمال. السعودية بدورها اتخذت خطوات جادة في تنويع اقتصادها عبر مشاريع عملاقة تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط، مع توفير فرص عمل جديدة لمواطنيها في قطاعات المستقبل. في المقابل، لبنان لم يتمكّن من تحقيق أي تقدّم في هذا الاتجاه بسبب الأزمات السياسية المزمنة والفساد المستشري، ممّا جعله في موقف متأخّر مقارنة بجيرانه.
إجمالاً، يظهر التباين الواضح بين الإمارات والسعودية من جهة ولبنان من جهة أخرى في كيفية تعامل القيادات مع التنمية البشرية كعنصر أساسي لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة. الإمارات والسعودية أدركتا أهمية بناء المواطن كركيزة للتقدّم، بينما تراجع لبنان في هذا الجانب، ممّا أدّى إلى استمرار نزيف العقول وتعثر التنمية.
- التنمية الاقتصادية: من تنويع الاقتصاد إلى الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية
الإمارات والسعودية قدمتا نموذجًا رائدًا في تحقيق التنوّع الاقتصادي من خلال تطوير قطاعات استراتيجية تعتمد على الابتكار والتكنولوجيا، بعيدًا عن الاعتماد الكلي على النفط. في الإمارات، نجحت دبي في التحوّل إلى مركز عالمي للتجارة والسياحة، حيث استقطبت الاستثمارات الدولية بفضل بنيتها التحتية المتقدّمة والبيئة التنظيمية المشجعة. دبي أصبحت وجهة رائدة للشركات العالمية والمشاريع الضخمة، مثل برج خليفة ودبي مول، اللذين يجذبان ملايين الزوار سنويًا. بالإضافة إلى ذلك، قطعت أبو ظبي خطوات كبيرة في قطاع الطاقة المتجددة من خلال مشروع مدينة مصدر، الذي يهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة عبر استخدام الطاقة النظيفة والتكنولوجيا البيئية. هذا التحوّل لم يعزّز الاقتصاد الإماراتي فحسب، بل جعل الدولة نموذجًا عالميًا في مجال الاستدامة والابتكار.
السعودية أيضًا اتخذت خطوات جريئة نحو تحقيق تنوّع اقتصادي ضمن رؤية 2030، التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط. مشروع “نيوم” يعتبر رمزًا لهذا التحوّل، حيث تسعى السعودية إلى بناء مدينة ذكية تعتمد على أحدث التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة. نيوم ليست مجرّد مشروع عمراني ضخم، بل تمثّل رؤية مستقبلية لاقتصاد مبني على الابتكار والذكاء الصناعي، مع تقديم فرص هائلة للاستثمار الدولي. كذلك، قطاع السياحة أصبح محركًا أساسيًا للتنمية الاقتصادية، حيث تستهدف السعودية زيادة عدد السياح من خلال تطوير مشاريع مثل مشروع البحر الأحمر والقدية، ممّا يساهم في خلق فرص عمل جديدة وتنويع مصادر الدخل.
على النقيض من هذه الرؤية الاستراتيجية، استمّر لبنان في الاعتماد على المساعدات الخارجية والقروض الدولية كوسيلة لدعم اقتصاده المتعثر. بدلاً من تطوير استراتيجيات اقتصادية مستدامة لتنويع مصادر الدخل، ظلّ لبنان رهينًا للأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد. الفساد وسوء الإدارة أدّى إلى استنزاف الموارد وإفشال محاولات الإصلاح. الأزمة الاقتصادية التي تفجّرت في 2020 كانت نتيجة طبيعية لهذا النمط، حيث انهار القطاع المالي بشكل كارثي، وتراجعت قيمة الليرة اللبنانية إلى مستويات غير مسبوقة، ممّا أدّى إلى ارتفاع كبير في نسبة الفقر والبطالة، وتدهور مستوى المعيشة بشكل عام.
الأزمة الاقتصادية في لبنان جاءت نتيجة تراكم سنوات من السياسات الاقتصادية الفاشلة التي لم تركّز على التنمية المستدامة. غياب البنية التحتية الكافية، والاعتماد الزائد على القطاع المصرفي، والتوتّرات السياسية الداخلية والخارجية أسهمت جميعها في تعميق الأزمة. لم يستطع لبنان بناء اقتصاد متنوّع قادر على مواجهة الأزمات أو التعامل مع التحديات العالمية مثلما فعلت الإمارات والسعودية. هذا التراجع جعل لبنان في موقف صعب، حيث أصبح الاقتصاد هشًا وعرضة للصدمات الخارجية، بينما ظلّ قطاع السياحة والخدمات، الذي كان في السابق أحد أهم مصادر الدخل، يتدهور بشكل مستمر بسبب الاضطرابات السياسية والأمنية.
في المقابل، عزّزت الإمارات والسعودية موقعهما الاقتصادي من خلال استراتيجيات استباقية ورؤى مستقبلية تهدف إلى بناء اقتصاد متكامل يعتمد على المعرفة والابتكار. هذه الرؤية بعيدة المدى مكّنت الدولتين من الاستعداد لمواجهة تحديات العصر، مثل التحوّل إلى الطاقة المتجدّدة والتكنولوجيا، بينما ظل لبنان متخلفًا عن الركب، غير قادر على استثمار موارده البشرية والطبيعية بشكل يحقّق له الاستقرار والتنمية المستدامة.
إجمالاً، بينما خطت الإمارات والسعودية خطوات واسعة نحو التحوّل إلى اقتصادات متنوعة ومستدامة، يواجه لبنان تحديات كبيرة في إعادة بناء اقتصاده واستعادة مكانته السابقة. الاختلاف في القيادة والرؤية الاستراتيجية بين هذه الدول الثلاث هو ما صنع الفارق في تحقيق التنمية والازدهار.
- السياسة الخارجية: دور فاعل للإمارات والسعودية مقابل الجمود اللبناني
على الصعيد الدولي، تبنّت الإمارات والسعودية سياسة خارجية متوازنة وفعّالة، ساهمت في تعزيز دورهما الإقليمي والدولي. الإمارات برزت كدولة تنتهج دبلوماسية هادئة وذكية، حيث لعبت دورًا مهمًا في تعزيز السلام والاستقرار في الشرق الأوسط عبر مبادرات وساطة وحلول دبلوماسية للأزمات الإقليمية. هذا النهج جعل الإمارات شريكًا موثوقًا على الساحة الدولية، حيث أقامت شراكات استراتيجية مع قوى عالمية مثل الولايات المتحدة، الصين، والاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى ذلك، ركّزت الإمارات على تطوير علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع الدول الأفريقية والآسيوية، مستفيدة من موقعها الجغرافي كمركز للتجارة العالمية وميناء للاستثمارات. المبادرات الإنسانية التي أطلقتها الإمارات في مناطق الصراع، مثل اليمن وأفغانستان، عزّزت من مكانتها كقوة إقليمية تعمل على تحقيق التنمية والاستقرار.
السعودية أيضًا لعبت دورًا محوريًا في تعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي، حيث تبوأت موقعًا قياديًا في قضايا المنطقة وخاصة في العالم الإسلامي. السياسة الخارجية السعودية في عهد الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان شهدت تحوّلًا نحو الانفتاح الاقتصادي والدبلوماسي، مع التركيز على بناء تحالفات استراتيجية مع الدول الكبرى والمؤثرة. في هذا السياق، استطاعت المملكة أن تعزّز علاقتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، وتطوّر علاقات مهمة مع الصين وروسيا. رؤية السعودية 2030 ليست فقط خطة للتنمية الاقتصادية الداخلية، بل تمثّل أيضًا جزءًا من سياسة خارجية متقدّمة تهدف إلى تحويل المملكة إلى قوة اقتصادية ودبلوماسية على المستوى العالمي. قضايا الطاقة، ومكافحة الإرهاب، واستقرار الأسواق النفطية أصبحت محور اهتمام السياسة الخارجية السعودية، ممّا ساهم في تعزيز دورها كلاعب رئيسي في النظام الدولي.
على النقيض من ذلك، عانى لبنان من غياب سياسة خارجية فعّالة ومستقّرة منذ انتهاء حقبة الرؤساء الكبار مثل كميل شمعون وفؤاد شهاب. بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، دخلت السياسة اللبنانية في دوامة من الانقسامات الداخلية والاختلافات الطائفية، ممّا جعل البلاد غير قادرة على تبنّي موقف موحّد في السياسة الخارجية. انقسم لبنان سياسيًا بين قوى متحالفة مع أطراف إقليمية ودولية مختلفة، ممّا أضعف قدرته على التأثير في الساحة الإقليمية والدولية. التدخّلات الإقليمية في الشأن اللبناني، وخاصة من قبل إيران وسوريا، زادت من تعقيد الوضع السياسي الداخلي، ممّا جعل لبنان ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية، بدلاً من أن يكون طرفًا فاعلًا ومستقلًا في صنع القرار.
هذا الانقسام السياسي الداخلي كان له أثر كبير على مكانة لبنان الدولية. بدلاً من استثمار علاقاته التاريخية مع الدول الكبرى أو الاعتماد على دبلوماسية نشطة لتحقيق مصالحه، أصبح لبنان معتمدًا على المساعدات الخارجية والاتفاقيات المؤقتة. عدم الاستقرار الداخلي والفساد السياسي أدّى إلى تآكل سمعة لبنان الدولية، ممّا أفقده الكثير من الدعم الذي كان يتمتّع به سابقًا. العلاقات الدبلوماسية تراجعت، والمجتمع الدولي أصبح أكثر تحفظًا في التعامل مع لبنان، بسبب عدم قدرته على تقديم رؤية واضحة أو استراتيجية وطنية شاملة.
في المقابل، استطاعت الإمارات والسعودية تحقيق توازن في سياستهما الخارجية عبر التركيز على الاستقرار الإقليمي والتحالفات الاستراتيجية التي تخدم أهدافهما الاقتصادية والسياسية. الإمارات ركّزت على تعزيز مكانتها كدولة تسعى للسلام والتنمية، بينما استثمرت السعودية في بناء قوة دبلوماسية واقتصادية تتماشى مع رؤيتها الطموحة للمستقبل. لبنان، مع أنه يملك إمكانيات هائلة وقدرة على لعب دور محوري، فشل في استخدام هذه الإمكانيات بسبب النزاعات الداخلية وغياب القيادة الفاعلة.
باختصار، نجاح الإمارات والسعودية في الساحة الدولية يُعزى إلى تبنّيهما لسياسات خارجية متوازنة وفعّالة، مستندة إلى أهداف واضحة ومصالح وطنية. بينما عانى لبنان من تراجع كبير في سياسته الخارجية بسبب الانقسامات السياسية الداخلية والتدخلات الخارجية، ممّا أفقده دوره كفاعل إقليمي، وجعله يعتمد على الآخرين بدلاً من أن يكون قوة مستقلة وصانعة للقرار.
الخاتمة
القيادة الحكيمة في الإمارات والسعودية منذ استقلالهما توضح بشكل جلي كيف أن الرؤية الاستراتيجية والتخطيط السليم يمكن أن يحدثا تحولًا جذريًا في مسار الدول. في الإمارات، جسّد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان هذه الحكمة بقيادته التي نجحت في تحويل اتحاد الإمارات السبع إلى دولة متماسكة ومتطورة. عمل الشيخ زايد وخلفاؤه على استثمار الثروة النفطية بحكمة في مشاريع بنية تحتية متقدّمة، وركزوا على تطوير التعليم والرعاية الصحية، جنبًا إلى جنب مع تبنّي الابتكار والتكنولوجيا كعنصرين أساسيين في دفع عجلة التنمية. أدركت القيادة الإماراتية مبكرًا أهمية بناء الإنسان والاستثمار في المستقبل من خلال التعليم والشراكات العالمية في مجالات التكنولوجيا وريادة الأعمال، ما جعل الإمارات نموذجًا رائدًا في العالم العربي.
في السعودية، جاء الملك عبد العزيز آل سعود برؤية تاريخية لتوحيد المملكة وبناء دولة قوية. تواصلت هذه الرؤية مع أبنائه، وخاصة في عهد الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، اللذين أطلقا “رؤية 2030“، وهي خطة جريئة تهدف إلى تحويل اقتصاد المملكة بعيدًا عن الاعتماد على النفط عبر تنويع مصادر الدخل من خلال تطوير قطاعات مثل السياحة، التكنولوجيا، والطاقة المتجدّدة. هذه الخطة الطموحة تُعد مثالًا على القيادة القادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية وإحداث تغيير طويل الأمد في بنية الاقتصاد الوطني، ممّا يُسهم في تعزيز مكانة السعودية إقليميًا وعالميًا.
على النقيض من ذلك، يُعد لبنان مثالًا واضحًا على كيف يمكن أن يؤدي غياب القيادة الحكيمة إلى تدهور دولة كانت في يوم من الأيام نموذجًا للاستقرار والازدهار. خلال فترة الخمسينيات والستينيات، قاد الرئيس كميل شمعون والرئيس فؤاد شهاب لبنان نحو ازدهار اقتصادي واستقرار سياسي، حيث شهدت البلاد طفرة في البنية التحتية والخدمات العامة وتقدّمًا في النظام التعليمي والإداري. تلك الحقبة كانت توصف بـ”سويسرا الشرق الأوسط“؛ حيث كان لبنان مركزًا اقتصاديًا وثقافيًا بارزًا في المنطقة.
لكن بعد رحيل الرئيسين شمعون وشهاب، تراجعت القيادة السياسية في لبنان إلى مستوى من العقم السياسي، حيث سادت النزاعات الطائفية والفساد، ممّا أدّى إلى تدهور البلاد على كل المستويات. غابت الرؤية الاستراتيجية، وبرزت الانقسامات السياسية والطائفية كعائق أساسي أمام أي تقدّم. أضعفت هذه الانقسامات قدرة الدولة على تطبيق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الضرورية، ممّا جعل لبنان يعتمد بشكل شبه كامل على المساعدات والقروض الخارجية لمواجهة أزماته الاقتصادية والاجتماعية. بلغت هذه الأزمات ذروتها مع انهيار القطاع المالي في 2020، وهو ما أدّى إلى تدهور كبير في مستوى المعيشة وفقدان الثقة في النظام السياسي اللبناني.
كان هناك بصيص من الأمل في عودة لبنان إلى مسار الإصلاح مع انتخاب بشير الجميل رئيسًا للجمهورية عام 1982. بشير الجميل كان يحمل مشروعًا وطنيًا يهدف إلى إعادة بناء الدولة وتقوية مؤسساتها، وتجاوز الخلافات الطائفية التي أنهكت البلاد. رؤيته كانت تستند إلى إعادة النظام والقانون وبناء دولة قادرة على تحقيق الاستقرار الداخلي والازدهار الاقتصادي. كان بشير يمثل الأمل للبنانيين في فترة حالكة من تاريخ البلاد، حيث كان يخطّط لتوحيد الصفوف وتحقيق السيادة الوطنية بعيدًا عن التدخّلات الخارجية التي كانت تغرق البلاد في الصراعات الإقليمية.
إلا أن اغتيال الشيخ بشير الجميل في أيلول 1982 دمّر هذا الأمل، وأعاد لبنان إلى دائرة الأزمات المستمرة. وفقد لبنان حينها فرصة نادرة لاستعادة دوره كدولة مستقلة ومستقرة، ودخل مرة أخرى في دوامة من الصراعات الداخلية والخارجية. هذا الاغتيال كان نقطة تحوّل كارثية، حيث ضاعت الفرصة لتصحيح مسار البلاد وإصلاح مؤسسات الدولة، ممّا جعل لبنان أكثر هشاشة في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية.
توضح هذه المقارنة بين الإمارات والسعودية من جهة ولبنان من جهة أخرى أن القيادة ليست مجرد إدارة يومية للدولة، بل هي رؤية بعيدة المدى تهدف إلى تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فبينما نجحت الإمارات والسعودية في استثمار قدراتهما في التعليم والتكنولوجيا والابتكار لبناء اقتصاديات قوية ومستدامة، فشل لبنان في استغلال موارده البشرية والطبيعية، ما أدّى إلى تفاقم أزماته الداخلية والخارجية.
في النهاية، يتضّح أن القيادة الحكيمة هي مفتاح الاستقرار والتنمية المستدامة. الإمارات والسعودية أصبحتا نموذجين للدول التي استطاعت تحويل الرؤى الاستراتيجية إلى واقع ملموس، حيث وفرتا لمواطنيهما فرصًا للتطوّر والازدهار. أما لبنان، فقد ظلّ يعاني من عواقب القيادات الفاسدة والعقيمة التي أهملت التنمية، ونهبت المال العام والخاص، وتسبّبت في تدمير مقدرات البلاد، وجعلت مستقبله أكثر غموضًا وضبابية. النمو الاقتصادي، الاستقرار الاجتماعي، والأمن هي عوامل ترتبط بشكل مباشر بقدرة القيادة على اتخاذ قرارات حاسمة وخطط استراتيجية تعود بالنفع على الأجيال القادمة.
في ظل القيادة الحالية في لبنان، التي يغلب عليها الفساد منذ التسعينيات، أصبح من الصعب التعويل على أي فرص جدّية للتطوّر والازدهار. فقد نُهبت موارد الدولة، وتم استغلال السلطة لتحقيق مصالح شخصية وفئوية على حساب مصلحة الوطن. هذا الفساد الممنهج لم يؤدِ فقط إلى تدهور الاقتصاد اللبناني بشكل كارثي، بل أثر أيضًا على ثقة الشعب في مؤسسات الدولة، وأضعف البنية التحتية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
مع استمرار تزايد الدين العام، وانهيار العملة، وتفكّك مؤسسات الدولة، بات لبنان يواجه واحدة من أصعب الأزمات في تاريخه الحديث. القيادة التي كان من المفترض أن تقود البلاد نحو الإصلاح والتنمية تحولت إلى عبء يعيق أي تقدّم حقيقي. نهب المال العام والخاص، المحسوبيات، والمحاصصة الطائفية، وعدم القدرة على تطبيق إصلاحات حقيقية جعلت أي أمل في تحقيق تطوّر أو ازدهار بعيد المنال في المدى القريب.