مظاهرة ضد الدولة البوليسية القمعية
د. الياس ميشال الشويري
في عالم اليوم، حيث تتزايد التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تظهر أهمية السياسة البناءة كأحد المفاتيح الأساسية لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة. تعتمد السياسة البناءة على الحوار والتعاون بين مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية، وتعزيز مؤسسات الدولة من خلال الشفافية والمساءلة. على النقيض، تظهر السياسات القائمة على التهديد والوعيد كأدوات مدمرة تؤدي إلى تفاقم الأزمات، إذ تُرسّخ الانقسام الداخلي، وتعيق التقدّم الاقتصادي والاجتماعي.
يتناول هذا المقال مفهوم السياسة البناءة، وأهميتها في تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي، مع تسليط الضوء على دور المؤسسات القوية والقيادة الحكيمة. كما سيتّم استعراض السياسات القمعية والتوعدية وتأثيرها السلبي على الأوطان من خلال أمثلة حية، مثل الوضع في لبنان، الذي يُظهر بوضوح الأضرار الناجمة عن غياب الحوار السياسي البنّاء. في النهاية، سنستعرض التحديات التي تواجه تطبيق السياسة البناءة في العالم المعاصر والحلول الممكنة لتحقيق مستقبل أكثر إشراقًا واستقرارًا للأمم.
1. الأسس الفكرية للسياسة البناءة
السياسة البناءة ليست مجرد فكرة بل هي فلسفة قائمة على المبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية التي تسعى إلى بناء مجتمع مستقّر ومتوازن. تعتمد السياسة البناءة على:
- التسامح والمصالحة الوطنية: التصالح بين الفئات المتنازعة داخل الدولة وعدم اللجوء للعنف كوسيلة لحل النزاعات. إن التسامح يُعزّز من فرص العيش المشترك ويمنع تقسيم المجتمع إلى فئات متصارعة.
- احترام حقوق الإنسان: السياسة البناءة ترتكز على احترام حقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق التعبير عن الرأي وحرية الصحافة وحقوق الأقليات. هذه الحقوق هي ضمانة لاستقرار المجتمعات لأنها تسمح لكل فرد بالمشاركة الفعالة في الحياة العامة.
- إدارة التنوع: تنوّع الثقافات، الديانات، والآراء داخل الدولة يجب أن يُعتبر ثراءً وليس عبئًا. السياسة البناءة تقوم على استغلال هذا التنوّع لصالح الوطن، ممّا يعزّز من الابتكار والتنوع الفكري.
2. عوامل نجاح السياسة البناءة: دور المؤسسات والحوكمة الجيدة
أحد أهم العوامل التي تساهم في نجاح السياسة البناءة هو الحوكمة الرشيدة، وهي التي تعتمد على الشفافية، المساءلة، وتوزيع السلطات بشكل عادل بين مؤسسات الدولة. من أبرز عناصر الحوكمة الرشيدة:
- فصل السلطات: ضمان استقلالية القضاء، التشريع، والتنفيذ. يمنع هذا الفصل أي محاولة لاستغلال السلطة ويساهم في تعزيز ثقة المواطنين في الدولة.
- المساءلة والشفافية: تكون المؤسسات ملزمة بتوضيح أفعالها وتقديم تقارير دورية عن أعمالها ومصاريفها. هذا يحفّز المواطنين على المشاركة الفعالة ويقلّل من الفساد.
- اللامركزية: تتطلّب السياسة البناءة إشراك الأطراف المحلية في اتخاذ القرارات. اللامركزية تساعد في توزيع الموارد بشكل عادل وتجنّب تمركز السلطة في العاصمة أو بين طبقة معينة.
3. السياسة البناءة في مواجهة السياسات القائمة على التهديد والوعيد: آلياتها وأضرارها
السياسة القائمة على التهديد والوعيد تستند إلى أدوات الترهيب والقمع التي تهدف إلى فرض سيطرة مجموعة أو جهة معينة على المجتمع. من أبرز آليات هذه السياسة:
- القمع السياسي: يتّم إقصاء المعارضة وقمع أي رأي مخالف للسلطة. في الأنظمة التي تعتمد على هذه السياسات، يُمنع الإعلام من نقد السلطة، ويُعتقل الناشطون السياسيون والمدافعون عن حقوق الإنسان.
- الاستغلال الأمني والعسكري: تُستخدم الأجهزة الأمنية والعسكرية كأداة للترهيب والسيطرة على المواطنين. تعتمد هذه السياسة على فرض الطوارئ وقوانين الحرب لقمع الاحتجاجات والسيطرة على الشارع.
- التلاعب الطائفي والعرقي: تستخدم الأنظمة التي تعتمد على هذه السياسات أحيانًا التفرقة الطائفية أو العرقية لزرع الشقاق بين الفئات المختلفة من المواطنين. ينتج عن هذا تزايد الفتن والصراعات الداخلية.
وأمّا الأضرار طويلة المدى للسياسات القائمة على التهديد والوعيد، فتتمثّل بـ:
- انهيار الثقة بين المواطنين والدولة: عندما يشعر المواطنون بأنهم محكومون بالقوة، يبدأ الإحساس بالاغتراب عن الدولة والسلطة. تفقد الدولة مصداقيتها ويبدأ الناس في البحث عن بدائل، سواء من خلال اللجوء إلى القوى الخارجية أو النزاعات المسلحة.
- انتشار الفساد: في الدول التي تعتمد على القمع والتهديد، يُصبح الفساد جزءًا أساسيًا من النظام. لأن المناصب تُمنح بناءً على الولاءات وليس الكفاءة، ينتشر سوء الإدارة ويؤدّي إلى تدهور الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة.
- الفقر والانهيار الاقتصادي: الدول التي تعتمد على السياسات القمعية غالبًا ما تعاني من تدهور اقتصادي. السياسات الأمنية تُهدر موارد الدولة، والاستثمارات الأجنبية تتهرّب من الدول غير المستقرة.
- الهجرة واللجوء: مع تزايد القمع، يضطّر العديد من المواطنين إلى الفرار من بلادهم بحثًا عن الأمان أو فرصة أفضل للحياة، ممّا يؤدّي إلى فقدان العقول والمهارات الضرورية للتنمية.
4. مثلان عمليان على نجاح وفشل السياسات البناءة والسياسات القمعية: جنوب أفريقيا ولبنان.
بالنسبة لجنوب إفريقيا، فإنها تُعدّ مثالاً ناجحًا على السياسة البناءة بعد انتهاء نظام الفصل العنصري. تمكنّت الدولة من تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي من خلال:
- الحوار الوطني: بعد سقوط نظام الأبارتهايد، قاد نيلسون مانديلا حوارًا وطنيًا لتحقيق المصالحة بين البيض والسود. تم إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة التي سمحت بعرض الجرائم الماضية دون اللجوء إلى الانتقام.
- إصلاح المؤسسات: تم إصلاح المؤسسات الحكومية لضمان تمثيل كافة شرائح المجتمع، وهو ما عزّز من الثقة المتبادلة وخلق دولة قائمة على سيادة القانون.
بالإنتقال الى لبنان، فهو يعاني من عدم الاستقرار السياسي منذ عقود، وذلك نتيجة للصراعات الطائفية وتداخل السياسات الإقليمية في شؤونه. اعتمد بعض الأطراف السياسية على سياسة التهديد والوعيد لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل، ممّا ساهم في:
- إضعاف المؤسسات: التدخلات السياسية المستمرة في القضاء والجيش أضعفت دور هذه المؤسسات وزادت من هشاشتها.
- الانقسام الطائفي: السياسات التي تعتمد على التخويف والتهديد أدّت إلى تفاقم الانقسام الطائفي، ممّا جعل من الصعب تحقيق توافق سياسي.
- الشلل الحكومي: النظام السياسي القائم على التوازن الطائفي أدّى إلى حالة من الجمود السياسي، حيث يُمنع اتخاذ أي قرار دون موافقة كل الأطراف، ممّا يُعطّل الإصلاحات الضرورية.
5. التحديات المعاصرة أمام تطبيق السياسة البناءة
حتى مع وضوح فوائد السياسة البناءة، هناك العديد من التحديات التي تعيق تطبيقها في العالم المعاصر، منها:
- الأطماع الخارجية: العديد من الدول تواجه تدخلات خارجية تعيق استقرارها السياسي. التدخلات العسكرية والاقتصادية من القوى الخارجية تُعقّد الوضع وتزيد من احتمالية الصراع الداخلي.
- الفساد المؤسسي: في الدول التي تعاني من مستويات عالية من الفساد، يكون من الصعب تطبيق السياسة البناءة، لأن النظام السياسي بأكمله مبني على المصالح الضيقة والمحسوبية.
- ضعف الثقافة السياسية: غياب الوعي السياسي بين المواطنين يُعتبر من أهم التحديات. السياسة البناءة تتطلّب مجتمعًا مثقفًا وقادرًا على المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات.
خاتمة
في النهاية، السياسة البناءة هي الأداة المثلى لتحقيق التنمية والاستقرار في أي دولة. بناء الأوطان يتطلّب رؤى سياسية شاملة تتجاوز المصالح الشخصية أو الفئوية، وتهدف إلى وضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. وفي المقابل، السياسات التي تعتمد على التهديد والوعيد قد تحقّق مكاسب مؤقتة لكنها لا تبني دولًا مستدامة وقوية.
من المهم أن تضع الحكومات والشعوب نصب أعينهم أن المستقبل السياسي المستدام يتطلّب جهودًا مشتركة قائمة على الحوار والتعاون، والاستثمار في المؤسسات التي تُعزّز من العدالة والشفافية. في النهاية، النجاح السياسي والاقتصادي هو نتيجة مباشرة للإرادة السياسية والشعبية نحو التغيير البنّاء.