ساحة البرج أيام زمان
د. الياس ميشال الشويري
لبنان، الذي يُعتبر واحدًا من أكثر البلدان ثراءً بتاريخه وثقافته وتنوّعه الطائفي، يعيش اليوم أسوأ مراحله الاقتصادية والاجتماعية بسبب فساد الطبقة الحاكمة. هذا البلد، الذي كان رمزًا للثقافة والحضارة في الشرق الأوسط، أصبح اليوم مثقلًا بالديون، منتهكًا من قبل قلّة من المسؤولين الذين استغلوا موارد البلاد ونهبوا ثروات الشعب.
على مدى العقود الماضية، شهد لبنان تحوّلًا ملحوظًا من دولة ذات اقتصاد مزدهر إلى واحدة من الدول الأكثر فقراً في العالم. فبعد الحرب الأهلية التي دامت لأكثر من 15 عامًا، كانت هناك آمال كبيرة في إعادة الإعمار والتنمية. لكن سرعان ما اتضح أن هذه الآمال قد سُرقت أيضًا من خلال سياسات اقتصادية فاشلة وفساد متجذر. أدت السياسات المالية المتهوّرة إلى تراكم الديون العامة، حيث قفز الدين العام إلى مستويات قياسية، مما ألقى بعبء ثقيل على كاهل المواطن اللبناني.
في ظلّ هذه الظروف الصعبة، يُطرح السؤال الجوهري نفسه: هل من المنطقي أن يستمر الإنسان في التضحية من أجل وطن خذله حكامه وسرقوا مدخراته؟ يتساءل الكثير من اللبنانيين عن جدوى التضحيات التي يقدّمونها في ظلّ حكم فاسد لا يأبه بمعاناتهم. فعندما يُنظر إلى الوطن كمكان يسيطر عليه الفاسدون، ويتحكّم فيه قلّة من المسؤولين بمصير الملايين، يبرز الشعور بالخيبة والإحباط.
يجب أن تكون التضحيات موجّهة نحو تغيير حقيقي، وليس مجرد الاستمرار في دعم نظام يفتقر إلى الكفاءة والنزاهة. لقد آن الأوان أن يعي المواطنون اللبنانيون أن الوطنية الحقيقية لا تكمن في تقديم المزيد من التضحيات للحفاظ على نظام فاسد، بل في النضال من أجل وطن جديد يحترم كرامتهم ويضمن لهم مستقبلًا أفضل. إن الاستمرار في التضحية دون تغيير حقيقي لن يؤدي إلا إلى تعزيز الفساد وإطالة أمد المعاناة.
1- الانتماء والوطنية في زمن الانهيار.
الوطنية والانتماء إلى الوطن هما مشاعر عميقة ومتجذّرة في قلب كل فرد. يتربّى الناس على حبّ أوطانهم والدفاع عنها في كل الظروف، بغض النظر عن التحديات والصعوبات. لبنان، بموقعه الجغرافي وتاريخه الطويل من الصراعات والحروب، عرف الكثير من التضحيات من أبنائه الذين قدموا أرواحهم من أجل الدفاع عنه وحمايته من التهديدات الداخلية والخارجية. لكن، ومع تغيّر الزمن وتغيّر طبيعة الأزمات التي يواجهها لبنان، بات من الضروري إعادة النظر في مفهوم التضحية.
في الأزمات التي يمّر بها لبنان اليوم، لم يعد العدو خارجيًا فقط بل أصبح داخليًا أيضاً. الطبقة الحاكمة التي تمثل النظام السياسي الطائفي القائم، أصبحت هي العائق الأكبر أمام تقدّم البلاد واستقراره. هؤلاء الحكام لا ينظرون إلى الشعب كمواطنين يستحقون الحماية والخدمات، بل يرونهم أدوات لتعزيز نفوذهم وتحقيق مصالحهم الشخصية.
2- فساد الحكام ونهب مدخرات المواطنين.
الأزمة المالية التي تمر بلبنان اليوم ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة لعقود من الفساد وسوء الإدارة من قبل المسؤولين. المصارف التي كانت في يوم من الأيام ملاذًا آمنًا للمودعين أصبحت اليوم تُعتبر شريكة في جريمة نهب مدخرات الشعب. تهاوت الليرة اللبنانية وفَقَدَ المواطنون قدرتهم الشرائية، بينما الطبقة الحاكمة ما زالت تعيش في رفاهية، محصنة بثرواتها المخبأة في الخارج.
الفساد في لبنان لم يقتصر على سرقة الأموال فحسب، بل امتد ليشمل تعطيل مؤسسات الدولة، وتوزيع المناصب بناءً على الولاءات السياسية والطائفية، بدلاً من الكفاءة والخبرة. هذا الفساد الشامل أدى إلى انهيار البنى التحتية والخدمات العامة، حيث باتت الكهرباء والماء وحتى الرعاية الصحية رفاهية لا يتمتّع بها سوى القليلون.
3- التضحية والغباء: عندما يصبح النضال بلا أفق.
في ظلّ هذه الظروف، يُصبح من الصعب على المواطن العادي أن يبرّر التضحية في سبيل وطن ينهب حكامه خيراته. مفهوم التضحية الوطنية يقوم على فكرة أن الوطن يستحق من أبنائه الدفاع عنه والعمل من أجل رفعته وتقدمه. ولكن كيف يمكن للفرد أن يضحي من أجل وطن يُدار من قبل حكام لا يملكون أي شعور بالمسؤولية تجاهه؟ التضحية في هذه الحالة تبدو وكأنها ضرب من الغباء؛ لأنها لا تعود بالنفع على الوطن ولا على المواطن، بل تصّب في مصلحة الفاسدين الذين يستغلون هذا النضال للحفاظ على مواقعهم.
إن الإنسان الذي يضحّي بنفسه من أجل لبنان اليوم، في ظل هذه الأوضاع، قد يجد نفسه مجرّد أداة في يد هؤلاء الفاسدين. التضحية هنا لم تعد تعني الدفاع عن وطن يسعى لتحقيق العدالة والحرية لشعبه، بل قد تعني الدفاع عن نظام فاشل ومسؤولين غير أكفاء، أضروا بمصالح البلاد وأفقروا شعبه.
4- الفرق بين الوطن والنظام: إعادة تعريف التضحية.
من الضروري التفريق بين الوطن ككيان يمتد عبر التاريخ والثقافة والانتماء، وبين النظام السياسي القائم الذي يمثّل الطبقة الحاكمة. الوطن هو كل ما يربط الفرد بجذوره، هو الأرض والتاريخ واللغة والهوية. أما النظام السياسي فهو عبارة عن مجموعة من المؤسسات والأفراد الذين يتّم اختيارهم (أو فرضهم) لإدارة شؤون البلاد.
اللبنانيون الذين يرون أن التضحية من أجل وطنهم ما زالت واجبًا، عليهم أن يعيدوا النظر في توجهاتهم. التضحية في هذه المرحلة يجب الاّ تكون دفاعًا عن النظام السياسي الفاسد، بل أن تكون نضالاً من أجل إصلاح هذا النظام وتطهيره من الفاسدين. المواطنون الذين يريدون مستقبلًا أفضل لأبنائهم يجب أن يعملوا على إسقاط الطبقة الحاكمة الفاسدة واستبدالها بنظام عادل وشفاف، نظام يخدم مصلحة الجميع وليس مصلحة الفئة الحاكمة فقط.
5- الأمل في التغيير: المقاومة الحقيقية تبدأ من الداخل.
رغم كل هذه الصعوبات، يبقى الأمل في التغيير موجودًا. لبنان لا يزال بلدًا غنيًا بشعبه المثقّف والواعي، الذي يدرك أن الحلول لا تأتي من الخارج فقط، بل تبدأ من الداخل. المقاومة الحقيقية ليست فقط في حمل السلاح أو التضحية بالنفس في معارك خاسرة، بل هي في مواجهة الفساد والجشع الذي أفسد الدولة اللبنانية.
إن لبنان بحاجة إلى ثورة فكرية واجتماعية، تهدف إلى إعادة بناء الوطن على أسس من العدالة والمساواة. هذه الثورة يجب أن تبدأ بإعادة صياغة العلاقة بين المواطن والوطن، والتركيز على بناء مؤسسات قوية تحمي حقوق المواطنين وتضمن توزيعًا عادلًا للموارد. يجب على اللبنانيين أن يدركوا أن الحل لا يكمن في استمرار التضحية العمياء، بل في التحرك الجماعي لإسقاط الفاسدين وتأسيس نظام سياسي جديد يقوم على الشفافية والمحاسبة.
6- الخاتمة.
إن التضحية من أجل وطن مسلوب تحكمه طبقة فاسدة قد تبدو في ظاهرها نوعًا من الوطنية، لكنها في الواقع قد تكون نوعًا من الاستسلام للظلم والفساد. إن استمرار اللبنانيين في تقديم التضحيات دون مراجعة جدية لما يعنيه الانتماء في ظل الظروف الحالية يمكن أن يؤدي إلى تعزيز النظام الفاسد بدلاً من تغييره. يجب على اللبنانيين أن يدركوا أن التضحية لا تعني فقط الوقوف في وجه التحديات، بل تتطلب أيضًا نقدًا داخليًا لممارساتهم والتوجّه نحو الفعل الفعال الذي يقود إلى تغيير حقيقي.
إعادة التفكير في مفهوم التضحية والانتماء يعتبر أمرًا ضروريًا في هذا السياق. يجب أن يتجاوز هذا التفكير الشعارات الوطنية الجوفاء والممارسات التقليدية التي لم تعد تجدي نفعًا. بدلًا من الانخراط في حروب وهمية للدفاع عن نظام سياسي عفا عليه الزمن، ينبغي التركيز على النضال من أجل الإصلاح الحقيقي. يتطلّب ذلك تحفيز العقول وإشراك المواطنين في حوار مفتوح حول مستقبل البلاد، بعيدًا عن الخلافات الطائفية والسياسية التي أضرّت بالمجتمع اللبناني على مر العقود.
التضحية الحقيقية تكمن في العمل على بناء وطن يحترم مواطنيه ويوفر لهم الحياة الكريمة التي يستحقونها. يجب أن ينصب الجهد على تعزيز الديمقراطية الحقيقية، ومكافحة الفساد، وبناء مؤسسات قوية قادرة على خدمة المواطنين بفعالية. وهذا يتطلب تغييرات جذرية في النظام، ليس فقط من خلال التظاهر أو الخطابات الرنّانة الفارغة من محتواها (الخطابات الرنّانة هي تلك العبارات أو التصريحات التي تثير الحماسة وتعبّر عن مشاعر وطنية قوية، لكنها تفتقر إلى مضمون فعلي أو إلى خطة عمل واضحة. وغالبًا ما تستخدم لتلميع صورة سياسيين أو أحزاب دون تقديم خطوات ملموسة لتحقيق الوعود المطروحة)، بل عبر المشاركة الفعالة في العملية السياسية، والمساهمة في بناء مجتمع مدني قوي يمكنه الدفاع عن حقوق الأفراد والمطالبة بالعدالة والمساواة.
يجب أن تتجه جهود اللبنانيين نحو تحقيق المصالحة بين مكونات المجتمع، وتعزيز الشعور بالمسؤولية الجماعية. إن النضال من أجل الإصلاح ليس مجرد مسألة سياسية، بل هو عملية ثقافية تتطلّب تغيير المفاهيم المتأصلة عن الولاء والانتماء. يجب أن يعي كل لبناني أن الوطن ليس مجرد حدود جغرافية، بل هو مجتمع متكامل يتطلب التضامن والتعاون من أجل النجاح.
في النهاية، من الضروري أن يتبنّى اللبنانيون مفهومًا جديدًا للتضحية، يعتمد على بناء وطن أكثر عدلاً وكرامة، حيث يُمكن لكل فرد أن يسهم في صنع القرار ويتشارك في بناء مستقبلٍ يُعبّر عن تطلعاتهم وآمالهم. إن التغيير ليس مستحيلاً، ولكن يتطلب إرادة جماعية وصادقة للتحرّر من قيود الفساد والظلم، والسعي نحو وطن يستحّق كل تضحياتهم.
******
“الكاف دي روا” Les Caves Du Roy هو أحد أشهر الملاهي الليلية في عين المريسة في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية (1975-1990) منذ كانت بيروت جوهرة المنطقة والعرب وكانت تُسمى بـ “سويسرا الشرق”. أسس هذا الملهى prosper Gay-Pera في فندق اكسيلسيور الذي كان يملكه، ويملك، كذلك، فندق البالم بيتش في منطقة عين المريسة، وكان يُعرف بـ “كهف الملوك” اذ أن مشاهير العالم كانت تزوره بمن فيهم رجال سياسة وفن وسينما وغيرهم، كما سيرى القراء من خلال هذا الفيديو المرفق، مع الإشارة، هنا الى أن مقتنيات هذا الملهى بعدما تعرّض للدمار خلال الحرب اللبنانية، قد جُمعت وعرضت في مبنى بركات في منطقة السوديكو..