نشْل الحقائب عادة يومياً
د. الياس ميشال الشويري
لبنان، الذي لطالما اعتُبر منارة للتعددية والتعايش بين الطوائف والديانات في منطقة تعج بالصراعات، يشهد اليوم انهيارًا حادًا على كافة المستويات السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية. كان لبنان مثالاً للنهوض بعد الحروب، لكن الأزمات المتلاحقة التي بدأت منذ سنوات عدة وصلت إلى ذروتها في الآونة الأخيرة، مما دفع العديد من اللبنانيين إلى الشعور بالخذلان واليأس. عبارة “لبنان أضحى وطناً للوحوش فقط” هي تعبير مجازي عن حالة الانهيار الأخلاقي والقيمي التي باتت تتحكم في مفاصل الحياة اللبنانية. يُمكن اعتبار هذه العبارة استجابة عاطفية للمواطن اللبناني الذي يراقب وطنه ينهار تحت وطأة الفساد، الطائفية، والمحسوبيات.
هذا المقال يهدف إلى تحليل معمق للأبعاد المختلفة التي أدت إلى تكوين هذا الشعور العام، بدءًا من الأزمة السياسية، مرورًا بالانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وصولًا إلى دور الإعلام والثقافة في تكريس هذه الصورة. كما سنناقش البُعد الأخلاقي والإنساني للأزمة، ونختتم بالنظر في الدور المحتمل للمجتمع الدولي والتدخلات الخارجية في تعقيد الوضع اللبناني.
1- الأبعاد السياسية للأزمة.
الأزمة السياسية في لبنان هي نتيجة تراكمات طويلة من السياسات الفاشلة والأنظمة الطائفية التي وضعت مصالح الزعماء فوق مصالح الشعب. النظام الطائفي، الذي يوزع المناصب السياسية بناءً على الانتماء الطائفي والديني، جعل من الصعب تحقيق أي تقدم سياسي حقيقي. كل زعيم طائفي يرى نفسه حاميًا لطائفته قبل أن يكون ممثلاً للوطن بأكمله، مما يؤدي إلى حالة من الاستقطاب السياسي الدائم.
الفساد المستشري في جميع مستويات الحكم يزيد الطين بلة، حيث أن مؤسسات الدولة أصبحت رهينة لمصالح النخب السياسية والاقتصادية. إن المحاصصة الطائفية والتناحر بين الزعماء جعلت من لبنان بيئة غير مستقرة سياسياً، وبالتالي، عرقلت كل محاولات الإصلاح. ورغم محاولات عدة من الشعب اللبناني للخروج من هذا الوضع، كما حدث خلال “ثورة 17 تشرين“، فإن السلطة الحاكمة استطاعت امتصاص هذه الحركات الاحتجاجية دون تقديم أي تنازلات جذرية.
في هذا السياق، تشكل عبارة “وطن للوحوش” إشارة مباشرة إلى هؤلاء الزعماء الذين يستخدمون قوتهم السياسية لحماية مصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة. التحالفات السياسية القائمة على المصالح الشخصية تُحوِّل النظام الديمقراطي المفترض في لبنان إلى نظام شبه إقطاعي، حيث يتم تقاسم “غنائم” السلطة بين القادة، في حين يعاني المواطنون من نقص الخدمات الأساسية، وانعدام العدالة الاجتماعية.
2- الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية.
الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بلبنان تُعتبر واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم وفقًا لتقديرات البنك الدولي. الانهيار الاقتصادي بدأ يتفاقم منذ عام 2019، حيث فقدت العملة الوطنية، الليرة اللبنانية، قيمتها بشكل كبير مقابل الدولار الأمريكي، مما أدى إلى ارتفاع التضخم بشكل غير مسبوق. المؤسسات المصرفية التي كانت تعتبر عصب الاقتصاد اللبناني تخلت عن ثقة المودعين، حيث حُجزت ودائع المواطنين بدون أي إمكانية لاسترجاعها. هذا الواقع الاقتصادي أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية للبنانيين، مع ارتفاع معدلات البطالة والفقر بشكل حاد.
الانهيار الاقتصادي لم يؤثر فقط على الأفراد والمؤسسات الصغيرة، بل امتد ليطال كامل البنية الاجتماعية. في ظل هذه الظروف، باتت العلاقات الإنسانية تتأثر بشدة؛ الأنانية أصبحت السمة الطاغية، والجشع أصبح وسيلة للنجاة في مجتمع يعاني من انهيار شبه كامل في الخدمات الأساسية مثل الكهرباء، المياه، والرعاية الصحية.
الفقر والانقسام الاجتماعي أدى إلى تفكك نسيج المجتمع اللبناني، وأصبح كل فرد أو جماعة تحاول النجاة بنفسها، مما يعمق فكرة أن لبنان “أضحى وطناً للوحوش” حيث يغيب التضامن الاجتماعي وتحل محله نزعات البقاء الفردي.
3- الثقافة الإعلامية والتلاعب بالمجتمع.
الإعلام اللبناني، الذي كان في فترة معينة يُعتبر منبرًا للحريات والتعددية، أصبح اليوم جزءًا من المشكلة وليس الحل. تتحكم في معظم وسائل الإعلام قوى سياسية أو اقتصادية، مما أدى إلى تحول هذا الإعلام من كونه صوتًا للشعب إلى أداة لتلميع صورة السياسيين الفاسدين والدفاع عن مصالحهم. الإعلانات والمحتوى المُوجّه يُستخدمان للتلاعب بالرأي العام، ويُعزز ذلك من حالة الفوضى والانقسام.
الإعلام الموجّه يسهم في ترسيخ الصورة السلبية للوضع اللبناني، حيث يتم التلاعب بالمعلومات لتوجيه الأنظار بعيدًا عن القضايا الأساسية. بدلاً من تسليط الضوء على الفساد ومحاربته، يعمل الإعلام على تشتيت الانتباه بتغطية قضايا هامشية أو ترويج لخطابات الكراهية بين الطوائف المختلفة. في هذا السياق، يُصبح الإعلام جزءاً من أدوات “الوحوش” التي تتلاعب بالمجتمع وتستخدمه لتحقيق مصالحها.
الإعلام يتحمل جزءًا كبيرًا من مسؤولية انتشار ثقافة الخوف والعدمية بين اللبنانيين، حيث يعمق الإحساس بعدم وجود أي أمل في التغيير، ويعمل على إبقاء الناس في حالة من الارتباك والضياع، وهو ما يسهم في ترسيخ فكرة أن لبنان قد أصبح “وطناً للوحوش“.
4- الأبعاد الأخلاقية والإنسانية.
مع تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية، انهارت المعايير الأخلاقية والإنسانية في المجتمع اللبناني. القيم التي كانت تُعتبر جزءًا لا يتجزأ من الثقافة اللبنانية، مثل النزاهة، التضامن، والعدالة، بدأت تتلاشى تحت ضغط الظروف القاسية. أصبحت الأنانية وسيلة للبقاء، وأصبح الكذب والغش أدوات لتحقيق المصالح الشخصية.
الفساد لم يعد محصورًا في النخبة السياسية، بل انتشر ليصبح جزءًا من الحياة اليومية. في هذا السياق، يمكن القول إن “الوحوش” التي تتحدث عنها العبارة هي ليست فقط الطبقة الحاكمة، بل كل من يساهم في ترسيخ هذا الفساد أو يستفيد منه، سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو المؤسسة.
الجانب الإنساني للأزمة يظهر بشكل واضح في تدهور الرعاية الصحية، وغياب العدالة الاجتماعية، والتفكك الأسري الذي سببه الانهيار الاقتصادي. بينما يُحاول البعض التمسك بالقيم الأخلاقية، يجد آخرون أنفسهم مضطرين للتخلي عنها من أجل البقاء.
5- دور المجتمع الدولي والتدخل الخارجي.
لطالما كان لبنان محط أنظار القوى الدولية والإقليمية بسبب موقعه الاستراتيجي وتعدد طوائفه. التدخلات الخارجية ليست جديدة على لبنان، فقد شهدت البلاد على مر العقود تدخلات من قوى إقليمية ودولية دعمت أطرافًا داخلية مختلفة. هذه التدخلات أسهمت في تعقيد الأزمة اللبنانية، حيث أصبحت الصراعات المحلية مرتبطة بشكل وثيق بالمصالح الإقليمية والدولية.
من جهة أخرى، المجتمع الدولي يجد نفسه عاجزًا في كثير من الأحيان عن تقديم المساعدة الفعالة للبنان بسبب الفساد الداخلي. على الرغم من محاولات بعض الدول والمنظمات الدولية تقديم مساعدات إنسانية أو مالية، إلا أن هذه المساعدات غالباً ما تتعرض للنهب أو الاستغلال من قبل الفئات الحاكمة، مما يزيد من تعميق الأزمة.
التدخل الخارجي يُعزز من مفهوم “الوحوش“، حيث تُستغل هذه القوى لتعزيز نفوذها السياسي على حساب استقرار البلاد وازدهاره. بدلاً من أن يكون لبنان دولة ذات سيادة حقيقية، يبدو أنه أصبح ملعبًا للقوى الدولية التي تستخدمه لتحقيق مصالحها.
6- الخاتمة: أمل أم واقع مظلم؟
بعد هذا التحليل للأبعاد المختلفة التي أدت إلى شعور الكثيرين بأن لبنان “أضحى وطناً للوحوش فقط“، يظهر السؤال الأكبر: هل هناك أمل في التغيير؟ على الرغم من الصورة القاتمة التي تبدو مسيطرة على الوضع الراهن، إلا أن الأمل لا يزال موجوداً. لبنان، على مر تاريخه، شهد العديد من الأزمات، لكنه دائماً كان ينهض مجددًا.
المستقبل يعتمد بشكل كبير على قدرة اللبنانيين على توحيد صفوفهم والوقوف في وجه الفساد والظلم. الحل لا يأتي فقط من المجتمع الدولي، بل من الداخل اللبناني نفسه. الشعب اللبناني أظهر مراراً وتكراراً أنه قادر على الصمود في وجه الأزمات، لكن التحدي الأكبر الآن هو تحويل هذا الصمود إلى حركة تغيير حقيقية يمكنها استعادة لبنان من “الوحوش” وتحويله مجددًا إلى وطن للعدالة والكرامة.