الرأس “اليابس” في مواجهة الرأس المنفتح
د. الياس ميشال الشويري
تعتبر السياسة فن إدارة الشؤون العامة بحكمة ومرونة، إلا أنها في لبنان تحوّلت إلى ساحة من الجدل العقيم الذي يفتقد إلى المنطق والحكمة. هنا تبرز أهمية مقولة “لا تجادل الأحمق فقد يخطئ الناس في التفريق بينكما“، التي تعكس تحذيرًا من الانغماس في نقاشات مع أشخاص يفتقرون إلى التفكير السليم والمنفتح. هذا ينطبق بشدة على الساحة السياسية اللبنانية، حيث تسيطر العقول المتحجّرة التي ترفض النقد وتصّر على آرائها الجامدة، ممّا يؤدي إلى تعطيل أي تقدّم وإدامة الأزمات.
في هذا المقال، نستعرض مفهوم الأحمق والعقول المتحجّرة في السياسة اللبنانية، وكيف أثّرت هذه العقول على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كما نناقش التحديات التي تواجه أي محاولة للحوار مع هذه العقول، مع تقديم استراتيجيات عملية للخروج من هذه الدوامة السياسية التي أثقلت كاهل اللبنانيين.
1- مفهوم الأحمق والعقول المتحجرة.
تعود مقولة “لا تجادل الأحمق” إلى التراث العربي، وهي مقولة مليئة بالحكمة تنبّه إلى مخاطر الدخول في نقاشات مع أشخاص يفتقرون إلى العقلانية. فالأحمق، وفق هذا السياق، ليس فقط من يفتقد إلى المعرفة، بل هو من يرفض المنطق ويصّر على آرائه الخاطئة حتى في وجه الحقائق.
في السياسة، يتجلّى هذا المفهوم في العقول المتحجّرة، التي ترفض أي تطوّر فكري أو عملي. هذه العقول تتشبث بمواقفها القديمة بغض النظر عن التغيرات المحيطة، ما يؤدّي إلى خلق حالة من الجمود السياسي والفكري. في لبنان، نرى هذا واضحًا في سلوك المنظومة الفاسدة الحاكمة التي تستخدم نفس الأساليب السياسية منذ عقود، رغم فشلها المتكرّر في معالجة الأزمات المتراكمة.
العقول المتحجرّة ليست فقط نتاج بيئة سياسية غير صحية، بل هي أيضًا نتيجة لثقافة ترفض النقد والتغيير. فالتربية الاجتماعية التي تعزّز الولاء للطائفة أو الحزب على حساب المصلحة العامة، أسهمت في تكوين هذه العقلية. وبالتالي، أصبح النقاش مع هذه العقول أقرب إلى جدال عقيم يستهلك الوقت والطاقة دون أي جدوى.
2- العقول المتحجرة في السياسة اللبنانية.
السياسة اللبنانية تمثّل ساحة واضحة لتجلّي مفهوم العقول المتحجرة. فمنذ انتهاء الحرب الأهلية وحتى اليوم، تعتمد القيادات السياسية على نفس الخطابات الشعبوية والسياسات الفاشلة التي تزيد من تأزيم الأوضاع بدلًا من حلّها.
على سبيل المثال، في الأزمة الاقتصادية الحالية، بدلاً من أن تتكاتف القوى السياسية لمعالجة المشكلات الجذرية كغياب الشفافية أو تفشّي الفساد، نجدها تنخرط في جدالات لا تنتهي حول المسؤولية، متجاهلة دورها الأساسي في صنع الكارثة. هذا التمسّك بالجدال العقيم أدّى إلى تفاقم الأزمات، حيث انعدمت الثقة بين الشعب والسياسيين، وزادت معدلات الهجرة واليأس بين الشباب.
حتى في القضايا اليومية، مثل توفير الخدمات الأساسية كالكهرباء والتعليم والصحة، نجد أن العقول المتحجرة ترفض الاعتراف بالفشل وتلقي باللوم على أطراف أخرى. هذه العقلية لا تعكس فقط ضعفًا في القيادة، بل تعبّر عن انفصال كامل عن الواقع الذي يعيشه المواطن اللبناني.
3- جدلية الحوار مع الأحمق: تحديات وآفاق.
الحوار مع العقول المتحجرة يواجه تحديات عديدة. أولها هو غياب المنطق والرغبة في الإصلاح. فعندما يكون الهدف من النقاش إثبات الذات بدلاً من حل المشكلة، يصبح الحوار بلا جدوى. ثانيًا، هذه العقول تتعامل مع النقد كتهديد شخصي، ما يجعلها ترفض أي محاولات للتفاهم أو التغيير.
لكن التحدّي الأكبر يكمن في تأثير هذه العقول على الجمهور. فالدخول في جدال معها يعطيها منصة لنشر أفكارها المضلّلة، ممّا يزيد من تعقيد الأمور. لذلك، يجب التفكير في طرق بديلة للتعامل مع هذه الظاهرة، مثل تجاوز هذه العقول والتركيز على توعية الجمهور مباشرة بالحقائق.
على سبيل المثال، يمكن استخدام وسائل الإعلام لنقل صورة واضحة عن الواقع، مع تسليط الضوء على فشل القيادات المتحجرة في إدارة الأزمات. كما يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورًا محوريًا في بناء منصات حوار حقيقية تجمع بين المواطنين والخبراء لإيجاد حلول عملية بعيدًا عن تأثير السياسيين الفاسدين المتحجرين.
4- نحو حوار عقلاني في لبنان.
إعادة بناء الثقة بين الشعب والقيادات السياسية تتطلّب تجاوز العقول المتحجرة نحو عقلية جديدة تعتمد على الشفافية والمساءلة. لتحقيق ذلك، يجب أولاً تعزيز الثقافة النقدية في المجتمع. يمكن تحقيق ذلك من خلال المناهج التعليمية التي تركّز على التفكير النقدي بدلاً من الحفظ، وتنظيم حملات توعية تهدف إلى تعزيز الحوار البناء.
دور المجتمع المدني في هذا الإطار لا يقّل أهمية. فهو قادر على تنظيم مبادرات تهدف إلى تجاوز الانقسامات الطائفية، وجمع اللبنانيين حول قضايا مشتركة كالصحة والتعليم والبيئة. كما يمكن أن يعمل كجسر بين المواطنين والقيادات الجديدة التي قد تظهر من رحم الأزمات.
أخيرًا، يجب التركيز على الشباب كأداة للتغيير. فالشباب اللبناني، الذي أظهر وعيًا سياسيًا كبيرًا خلال السنوات الأخيرة، قادر على قيادة نقاشات عقلانية تهدف إلى إصلاح النظام من الداخل. لكن لتحقيق ذلك، يجب تمكينهم من الأدوات والمعرفة التي يحتاجونها، مع حمايتهم من تأثيرات العقول المتحجرة التي تسعى لإبقائهم على الهامش.
5- الخاتمة.
تشير مقولة “لا تجادل الأحمق فقد يخطئ الناس في التفريق بينكما” إلى حكمة عميقة حول طبيعة النقاشات غير المثمرة، حيث يؤدي الجدل مع من يفتقرون إلى المنطق أو يرفضون تقبّل الحقيقة إلى نتائج عكسية. الأحمق، وفق هذا السياق، ليس من يفتقر إلى الذكاء فقط، بل هو من يتشبّث بآرائه مهما كانت خاطئة، ويرى في الجدل وسيلة لإثبات ذاته لا لاستكشاف الحقيقة أو الوصول إلى حلول. هذا النوع من الأفراد، عندما ينخرط في النقاش، يجر الآخرين إلى مستواه، ممّا يجعل من الصعب التمييز بين الحكمة والجهل في أعين المراقبين.
في السياسة، تصبح هذه الإشكالية أكثر تعقيدًا، حيث يؤدّي وجود العقول المتحجرة – التي ترفض النقد والتغيير – إلى حالة من الجمود الفكري والسياسي. هذه العقول لا تعبّر فقط عن آراء جامدة، بل تعكس أيضًا ثقافة تكرّس الارتباط بالماضي ورفض الانفتاح على الجديد. في لبنان، يتجلّى هذا بوضوح في السياسات الطائفية التي تكرّر نفسها منذ عقود، حيث يستخدم السياسيون الخطابات التقليدية كذريعة لتعطيل أي تطوّر حقيقي. هذا الجمود لا يعطّل فقط الحوار، بل يضعف ثقة الشعب بالقيادات السياسية، ويحوّل النقاش السياسي إلى استعراض عقيم يخدم المصالح الشخصية على حساب المصلحة الوطنية.