شهداء المسيحية
د. الياس ميشال الشويري
الشهادة في المسيحية تُعتبر التعبير الأسمى عن الإيمان بالله، حيث يُقدّم المؤمن حياته طوعًا ودون تردّد دفاعًا عن عقيدته، مُظهرًا استعدادًا كاملًا للثبات على مبادئه مهما كانت الظروف. إنها أسمى درجات التضحية، إذ يجسّد الشهداء من خلالها المحبة الكاملة لله، التي تفوق كل خوف أو تهديد. هذه التضحية العظيمة ليست مجرّد فقدان للحياة، بل هي انتصار روحي يتجاوز المظاهر المادية، ويُبرز الأمل المسيحي في الحياة الأبدية.
ومن أبرز الأحداث التي تعكس هذا المفهوم السامي، استشهاد الأخوة المسابكي الثلاثة والرهبان الفرنسيسكان في دمشق عام 1860، في زمن اشتدّت فيه التوترات الطائفية والاضطهادات الدينية. واجه هؤلاء الشهداء، بكل ما للكلمة من معنى، الموت بثبات وشجاعة لا مثيل لهما، رافضين التخلّي عن إيمانهم المسيحي، حتى عندما خُيّروا بين الحياة والكفر. لقد جسّدوا بتضحيتهم معنى الحياة الحقيقية في الاتحاد بالمسيح، مؤكدين أن الموت من أجل الحقّ هو طريق المجد الأبدي.
قصّة هؤلاء الشهداء ليست مجرّد حدث تاريخي عابر، بل هي شهادة خالدة على قوّة الإيمان المسيحي وصموده أمام أقسى العواصف. إنها تذكير دائم بأن محبة الله والتمسّك برسالة المسيح، له المجد، قادران على التغلّب على كل ألم أو خطر، وأن الإيمان الصادق يثمر ثباتًا وشجاعة تُضيئان دروب الأجيال القادمة.
1.الخلفية التاريخية: أجواء الاضطهاد
في القرن التاسع عشر، كانت المنطقة العربية تمّر بمرحلة حساسة من التحولات السياسية والاجتماعية، التي أدّت إلى تصاعد التوترات الطائفية بين مختلف المكونات الدينية. هذه الفترة كانت تتسّم بالصراعات الناتجة عن الانقسامات العميقة، إذ لعبت القوى الإقليمية والدولية دورًا في تغذية هذه الانقسامات لتحقيق مصالحها الخاصة. المسيحيون، الذين كانوا يشكّلون شريحة مهمة من المجتمعات العربية، تعرّضوا لضغوط متزايدة نتيجة هذه الأوضاع المضطربة.
عام 1860، تفاقمت الأوضاع بشكل مأساوي، خصوصًا في جبل لبنان ودمشق. في لبنان، تصاعدت الخلافات بين الدروز والمسيحيين، لتتحوّل إلى مجازر مؤلمة أودت بحياة الآلاف وشرّدت المزيد. أما في دمشق، فقد تفاقمت الكراهية تجاه المسيحيين بفعل التحريض المتواصل من بعض القيادات الدينية والسياسية المتطرّفة من المسلمين، ممّا أدّى إلى موجة عنف دموية اجتاحت أحياء المسيحيين.
في أحياء دمشق، أصبحت الكنائس والأديرة رموزًا للمقاومة الروحية وملاذًا آمنًا للمسيحيين الفارين من بطش الغوغائيين من المسلمين. دير الرهبان الفرنسيسكان كان واحدًا من تلك الملاجئ التي استقبلت المئات من المسيحيين، الذين ظنّوا أن جدران الدير ستوفّر لهم الحماية من الهجمات الوحشية. بين هؤلاء اللاجئين كان الأخوة المسابكي الثلاثة الذين لجأوا إلى الدير مع غيرهم من العائلات المسيحية، حاملين في قلوبهم رجاءً بإيجاد السلام وسط أجواء الرعب.
مع ذلك، لم يكن الحقد الطائفي ليتوقّف عند حدود الدير. فبعد منتصف الليل، اقتحم المهاجمون المبنى مدجّجين بالسلاح، حاصرين اللاجئين بين خيارين: التخلّي عن إيمانهم المسيحي واعتناق الإسلام، أو مواجهة الموت. كان ذلك اختبارًا حقيقيًا للإيمان والثبات، حيث أظهر الأخوة المسابكي ومعهم العديد من المسيحيين الآخرين شجاعة نادرة، مفضلين الموت بشرف على التخلّي عن عقيدتهم.
هذه الأحداث الدامية لم تكن مجرّد نتيجة لصراعات محلية، بل كانت تعكس تعقيدات سياسية واجتماعية أكبر. القوى العثمانية التي كانت تحكم المنطقة آنذاك، وجدت نفسها عاجزة أو غير راغبة في كبح هذه المجازر، ممّا زاد من معاناة المسيحيين وأظهر هشاشة النظام أمام الانقسامات الطائفية. وهكذا، جاءت مأساة عام 1860 لتكون علامة فارقة في تاريخ الكنيسة المشرقية، ولتُبرز قيمة الشهادة كعنصر جوهري في الإيمان المسيحي.

2.شهادة الأخوة المسابكي: إكليل الإيمان
في لحظة من أشد اللحظات ظلمة في تاريخ الكنيسة المشرقية، وقف الأخوة المسابكي الثلاثة: فرنسيس، عبد المعطي، ورفائيل، بثبات لا يتزعزع أمام حشد غاضب مدجّج بالسلاح، متحدّين قوة البطش بعزيمة الإيمان. عندما اقتحم المهاجمون دير الرهبان الفرنسيسكان في دمشق في ليلة وكانت المذبحة الرهيبة ليل 10-11 تموز من عام 1860، كانت نيتهم واضحة: إرغام المسيحيين على التخلّي عن إيمانهم أو مواجهة الموت. في هذا الموقف المصيري، كانت إجابة فرنسيس نيابة عن إخوته وعن كل المسيحيين اللاجئين في الدير: “إننا مسيحيون وعلى دين المسيح نموت.”
كلمات فرنسيس لم تكن مجرّد إعلان للإيمان، بل كانت تعبيرًا عميقًا عن استعداد كامل للتضحية بالنفس من أجل الله. في مواجهة التهديدات والضغوط، لم يرضخ الأخوة المسابكي ولم يُظهروا أي خوف أو تردّد. هذه الشجاعة، المتجذّرة في المحبة الكاملة للمسيح، له المجد، والثقة بوعود الحياة الأبدية، ألهمت كل من كان حاضرًا.
لم يكتفِ فرنسيس بالتعبير عن إيمانه الشخصي، بل التفت إلى أخويه ليعزّز من إيمانهما أيضًا. كلماته كانت بمثابة نور وسط ظلام تلك اللحظة: “تشجعا واثبتا في الإيمان، لأن إكليل الظفر معّد في السماء لمن يثبت إلى المنتهى“. هذه الدعوة لم تكن مجرّد كلمات عابرة، بل كانت إعلانًا عن حقيقة الإيمان المسيحي الذي يرفع الروح فوق الجسد، ويرى في الموت بابًا للاتحاد الأبدي بالله.
بكل شجاعة وثبات، أعلن الأخوة الثلاثة تمسّكهم بالمسيحية قائلين: “إننا مسيحيون ونريد أن نحيا ونموت مسيحيين“. في تلك اللحظة، أدرك المهاجمون أنهم أمام رجال ليسوا كأي رجال، بل أمام شهداء مستعدين لمواجهة كل تهديد بروح منطلقة نحو السماء.
ردًا على هذا الإيمان الصلب، انهال المهاجمون على الأخوة المسابكي بالعصي والخناجر والفؤوس. لم يكن العنف الذي مارسه المعتدون قادرًا على هزيمة الروح التي كانت ترى في الآلام طريقًا للمجد. استشهد الأخوة الثلاثة، مؤثرين الموت على الكفر، وتركوا خلفهم شهادة خالدة للإيمان والتضحية.
هذه اللحظة التاريخية لم تكن مجرّد حادثة استشهاد عابرة، بل كانت نقطة تحوّل في تاريخ الكنيسة، حيث أصبح الأخوة المسابكي رمزًا للشجاعة المسيحية وللثبات على الإيمان في أحلك الظروف. استشهادهم لم يكن نهاية، بل بداية لإرث روحي حيّ، يذكّر الأجيال القادمة بأن الإيمان بالمسيح، له المجد، هو نور لا يمكن أن يُطفأ، حتى في مواجهة أعتى الظلمات. شهادتهم لا تزال حية في ذاكرة الكنيسة، تذكّر المؤمنين بأن الإيمان الذي لا يخشى الموت هو الذي يمنح الحياة الحقيقية.
3.شهادة الرهبان الفرنسيسكان والكاهن الأرثوذكسي: نموذج للتضحية والإيمان
في تلك الليلة المأساوية التي غطّت دمشق بظلال الحقد والتعصّب، كان دير الرهبان الفرنسيسكان بمثابة ملاذ أخير للمسيحيين الهاربين من أهوال العنف. رغم علمهم بالخطر الذي يحيط بهم، اختار الرهبان الفرنسيسكان البقاء داخل الدير (1. Manuel Ruiz Lopez؛ 2. Carmelo Bolta Banuls؛ 3. Engelbert Kolland؛ 4. Nicanor Ascanio de Soria؛ 5. Pedro Soler Méndez؛ 6. Nicolas Maria Alberca Torres؛ 7. Francisco Pinazo Penalver؛ 8. Juan Jocob Fernandez.. نشير إلى أن الطوباويّ Engelbert Kolland نمساوي الجنسيّة، بينما السبعة الباقون فإسبانيّو الجنسيّة. ونشير إلى أنّ الستة الأول رهبان كهنة، والإثنين الأخيرين راهبان غير مرسومين، متمسّكين برسالتهم الروحية وبواجبهم نحو اللاجئين الذين لجأوا إليهم طلبًا للأمان. لم يكن بقاء هؤلاء الرهبان في الدير مجرّد تصرّف عفوي أو خيار عادي، بل كان قرارًا واعيًا نابعًا من إيمان عميق. كانوا يعلمون أن رسالتهم كخدّام للمسيح، له المجد، تدعوهم إلى التضحية في سبيل الآخرين، حتى لو كان الثمن حياتهم. أثناء تلك اللحظات العصيبة، امتلأت الكنيسة بأصوات الصلاة، إذ اجتمع الرهبان مع اللاجئين المسيحيين يدعون الله طلبًا للسلام والقوّة.
لكن الغوغائيين من المسلمين، المدجّجين بالكراهية والأسلحة، لم يتوانوا عن اقتحام الدير في ظلام الليل. ومع كل خطوة داخل الدير، كان الرهبان ثابتين، يقدّمون أرواحهم قربانًا للإيمان. استشهدوا واحدًا تلو الآخر، وهم يتمتمون بصلواتهم، مظهرين شجاعة روحية قلّ نظيرها. شهادتهم لم تكن مجرّد لحظة من العنف، بل كانت شهادة حية على محبّة الله وثبات الإيمان حتى النهاية.
إلى جانب الرهبان الفرنسيسكان، كان هناك أيضًا الكاهن الأرثوذكسي يوسف الحداد، الذي استشهد في تلك الليلة بوحشية قلّ نظيرها. الكاهن يوسف، المعروف بخدمته وتفانيه تجاه مجتمعه، لم يتراجع عن الدفاع عن اللاجئين المسيحيين. كان قلبه مفعمًا بالإيمان والرحمة، حيث لم يسعَ لإنقاذ نفسه، بل كرّس نفسه للدفاع عن أبناء رعيته بكل ما أوتي من قوة. في مشهد يفطر القلوب، قُتل الكاهن يوسف على أيدي المعتدين الذين أبدوا أقصى درجات الوحشية. لم يكتفوا بقتله، بل سحلوا جسده في الشوارع، مربوطًا بحصان، حتى تهشمت أعضاؤه وتناثرت. هذا العمل الوحشي، الذي كان يهدف إلى إهانة الكاهن وتحطيم رمزية إيمانه، لم يفلح إلا في تأكيد مكانته كشاهد حقيقي للمسيح، له المجد.
شهادة الرهبان الفرنسيسكان والكاهن يوسف الحداد ليست مجرّد أحداث تاريخية، بل هي إرث روحي خالد يذكّرنا بأن التضحية في سبيل الله هي قمة الإيمان. لقد جسّدوا المعنى الحقيقي للمحبّة المسيحية الحقّة التي لا تخشى الموت، والتي ترى في الألم طريقًا نحو المجد السماوي. هذه الشهادات تعكس نبل النفوس التي اختارت الموت بإيمان وشجاعة على أن تنكر عقيدتها. إنها دعوة لكل مؤمن، بكل ما للكلمة من معنى، لتأمّل قوة الإيمان في مواجهة المحن، ولتذكّر أن الإكليل السماوي ينتظر كل من يثبت حتى النهاية. شهادتهم تبقى نورًا يهدي المؤمنين في الظلمات، ورسالة أمل بأن الحياة الأبدية هي المكافأة الحقيقية لمن يختار المسيح، له المجد، فوق كل شيء.

4.الشهادة في المسيحية: معنى ودلالة أعمق
الشهادة في المسيحية ليست مجرّد حدث مأساوي يتجسّد في فقدان الحياة، بل هي فعل إيماني عظيم، يمزج بين الحب المطلق لله والاستعداد للتضحية في سبيل الحفاظ على العقيدة. إنها قمة الإيمان التي يتحوّل فيها الألم إلى وسيلة للتقرّب من الله، والضعف الظاهري إلى قوة روحية خارقة.
–الشهادة كتعبير عن الحب الأعظم: في جوهرها، الشهادة هي التعبير الأسمى عن المحبّة. المسيحية ترى أن الحب الذي يدفع المؤمن إلى التضحية بحياته من أجل الآخرين أو من أجل الله هو أرقى أنواع الحب. هذه الفكرة تتجسّد بوضوح في كلمات المسيح، له المجد: “لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه” (يوحنا 13:15). الشهداء، من خلال استشهادهم، يقدّمون أروع الأمثلة على هذا الحب الأعظم. إن استعدادهم لمواجهة الموت ليس بدافع الخوف أو الاضطرار، بل ينبع من محبّة حقيقية لله الذي وهبهم الحياة، وللإنسانية التي يحتاجون إلى أن يكونوا نورًا وإلهامًا لها. هذه المحبة تجعلهم يتجاوزون حدود الجسد والعقل، وينطلقون بروح مليئة بالسلام والثقة في الله.
–الشهادة كتقليد للمسيح: المسيح، له المجد، هو المثال الأسمى للشهادة. لقد قدّم حياته على الصليب من أجل خلاص البشرية، محولًا الموت من نهاية إلى بداية جديدة. الشهداء، باتباعهم خطى المسيح، يحملون صليبهم بثبات، متمثّلين بتعاليمه وسيرته. إنهم يرون في آلامهم مشاركة في آلام المسيح، وفي موتهم ارتباطًا بحبّه الأبدي. الشهداء لا يعتبرون معاناتهم خسارة، بل امتيازًا وفرصة لتقليد معلّمهم ومخلّصهم. كما أن موتهم لا يُنظر إليه كفشل، بل كتصديق حي على إيمانهم. لقد اختاروا الطريق الضيّق الذي يقود إلى الحياة الأبدية، الطريق الذي سار عليه المسيح نفسه.
–الشهادة كإكليل مجد: في المسيحية، الشهادة ليست نهاية مأساوية، بل بداية مجيدة. إنها معركة روحية ينتصر فيها الشهداء، حيث يضع الله على رؤوسهم “إكليل البر“، كما ذكر القديس بولس: “جاهَدتُ جِهادًا حَسَنًا وأَتمَمْتُ شَوطي وحافَظتُ على الإِيمان، وقَد أُعِدَّ لي إِكْليلُ البِرِّ الَّذي يَجْزيني بِه الرَّبُّ الدَّيَّانُ العادِلُ في ذلِكَ اليَوم، لا وَحْدي، بل جَميعَ الَّذينَ اشْتاقوا ظُهورَه” (تيموثاوس 7:4-8). هذا الإكليل ليس مجرّد مكافأة، بل هو تأكيد على أن الله يرى ويكافئ كل من يثبت في الإيمان حتى النهاية. الشهداء يدخلون السماء كمخلّصين منتصرين، حيث ينضمون إلى شركة القديسين، حاملين مجدًا أبديًا لا يفنى.
–الشهادة كمصدر للإلهام: قصص الشهداء تحمل في طياتها أعمق معاني الإلهام. حياتهم وموتهم تصبح شهادة حيّة تقوّي إيمان الآخرين وتحّثهم على الثبات في العقيدة، مهما كانت التحديات. عندما يسمع المؤمنون عن صمود الشهداء أمام الاضطهاد والتعذيب، يدركون أن الإيمان ليس مجرد كلمات، بل حياة تُعاش بكل شجاعة وتضحية. الشهداء يشعلون في قلوب المؤمنين نار الثقة بأن التضحية ليست خسارة، بل استثمار في الحياة الأبدية. حياتهم تشهد على أن الله يعمل حتى في أصعب الظروف، وأنه يمنح القوة لمن يتكل عليه.
–الشهادة كدعوة للثبات في الإيمان: في عالم يواجه فيه الإيمان تحديات متزايدة، تبقى الشهادة تذكيرًا بأن المحبة والحق يمكن أن ينتصرا على الكراهية والباطل. الشهداء يمثّلون صوتًا حيًا يذكر المؤمنين بأن الثبات في الإيمان ليس خيارًا، بل دعوة مستمرة. قصصهم تدعو الجميع للتأمل في قضايا أعمق: ماذا يعني الإيمان بالنسبة لكل فرد؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحيا بشجاعة تضاهي شجاعة الشهداء؟ إن حياة الشهداء وموتهم تضع أمام المؤمنين معيارًا أعلى للحب والتضحية، معيارًا يدعوهم للارتقاء بحياتهم الروحية. الشهادة في المسيحية ليست مجرّد فعل من الماضي، بل هي رسالة أبدية عن قوة الإيمان، وجمال المحبة، وعمق التضحية. إنها دعوة لكل إنسان للنظر إلى ما هو أبعد من الحياة الأرضية، والسعي نحو حياة أبدية مليئة بالمجد والسلام في حضرة الله.
5.إعلان القداسة وتكريم الشهداء: رسالة خالدة للإيمان
إعلان القداسة أو التطويب في الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية هو تعبير عن التقدير العميق للتضحيات التي قدمها الشهداء في سبيل الإيمان بالله. إنه اعتراف رسمي من الكنيسة بأن حياتهم ووفاتهم كانت شهادة فريدة للمسيح، له المجد، تستحق أن تُخلّد في ذاكرة المؤمنين وتُكرّم عبر الأجيال.
–إعلان تطويب الأخوة المسابكي – رمزٌ للشجاعة والإيمان: في عام 1926، أعلن البابا بيوس الحادي عشر تطويب الأخوة المسابكي الثلاثة: فرنسيس، عبد المعطي، ورفائيل، بناءً على طلب المطران بشارة الشمالي. هذا الإعلان لم يكن مجرّد إجراء إداري، بل كان تكريمًا لشجاعتهم وثباتهم في الإيمان. الاعتراف بشهادتهم كقديسين كان بمثابة رسالة موجّهة للعالم المسيحي، تؤكد على أن الإيمان الحقيقي يستحق التضحية، وأن الشهداء الذين يقدمون حياتهم دفاعًا عن العقيدة يُرفعون إلى مقام القداسة، ليصبحوا نموذجًا يُحتذى به. من خلال تطويبهم، وضعت الكنيسة الأخوة المسابكي في مصاف القدّيسين الذين يُصلَّى لهم ويُطلب شفاعتهم، وأصبحت سيرتهم تذكارًا حيًا لكل من يسعى للثبات في الإيمان، حتى في أحلك الظروف. كما أن هذا الاعتراف سلّط الضوء على أهمية التمسّك بالقيم المسيحية في مواجهة الاضطهاد، ممّا جعل الأخوة المسابكي رمزًا للإيمان الراسخ الذي لا تهّزه التحديات.
–إعلان قداسة الكاهن يوسف الحداد – شهادة للتضحية والمحبة: في خطوة مماثلة، أعلن المجمع الأنطاكي المقدس عام 1993 قداسة الكاهن يوسف الحداد، الذي ضحى بحياته دفاعًا عن اللاجئين المسيحيين. هذا الإعلان كان اعترافًا بدوره البطولي في التصدّي للظلم والدفاع عن الضعفاء، حتى وهو يواجه الموت بوحشية. شهادة الكاهن يوسف الحداد تمثّل تجسيدًا حيًا لمبادئ المسيحية، التي تدعو إلى المحبة والخدمة حتى في أصعب الظروف. إعلانه قدّيسًا لم يكن مجرّد تكريم لحياته، بل كان أيضًا رسالة قوية للعالم بأهمية التضحية من أجل الآخرين ومحبّة القريب.
6.معاني الاعتراف الكنسي بشهادتهم
–تعزيز الإيمان المسيحي: إعلان القداسة والتطويب له تأثير عميق في تعزيز الإيمان المسيحي، حيث يقدّم الشهداء كمثال حي على قوّة الإيمان التي تتغلّب على الخوف من الموت. إنهم يُذكّرون المؤمنين بأن الشهادة ليست نهاية بل بداية جديدة في حضرة الله.
–رسالة سلام ومغفرة: الاعتراف بشهادتهم ليس مجرّد تذكار لمآسي الماضي، بل هو دعوة للمصالحة والسلام. من خلال تكريم الشهداء، ترسل الكنيسة رسالة مفادها أن الإيمان بالمسيح، له المجد، يدعو إلى الحب والمغفرة، حتى لأولئك الذين اضطهدوا الكنيسة.
–تجديد الأمل: الاعتراف الرسمي بقداسة الشهداء هو شهادة على أن المعاناة والصبر في سبيل الله لا يضيعان، بل يكافئان بالمجد الأبدي. هذا الاعتراف يجدّد الأمل في قلوب المؤمنين ويشجّعهم على الثبات، مهما كانت التحديات.
–شهادة خالدة للأجيال القادمة: إعلان قداسة وتطويب الشهداء يجعل ذكراهم حيّة في وجدان الكنيسة. يتّم استحضار سيرتهم في الصلوات والقداسات، لتكون مصدر إلهام للأجيال القادمة، وليتعلموا من شجاعتهم وإيمانهم الراسخ.
- الأثر الروحي والاجتماعي لتكريم الشهداء
تطويب الأخوة المسابكي وإعلان قداسة الكاهن يوسف الحداد لم يكن مجرّد حدث كنسي، بل كان له تأثير عميق على المؤمنين في المنطقة العربية والعالم. أصبح هؤلاء الشهداء رمزًا لوحدة الكنيسة في مواجهة التحديات، حيث ألهمت قصصهم مختلف الطوائف المسيحية للوقوف معًا؛ أصبحت سيرتهم جزءًا من الهوية المسيحية المشتركة، تُذكّر المؤمنين بتاريخهم المجيد وإيمانهم الصلب.
إعلان قداسة الأخوة المسابكي والكاهن يوسف الحداد هو أكثر من مجرد تكريم لذكرى استشهادهم. إنه إعلان عن انتصار الإيمان والمحبة على الكراهية والعنف، وتأكيد على أن الشهادة الحقيقية هي مصدر حياة جديدة وأمل دائم. شهادتهم تستمّر في إلهام الملايين، داعية الجميع للثبات في الإيمان والعمل من أجل السلام والمحبة في عالم مليء بالتحديات.

8.الدروس المستفادة: إشراقات إيمانية خالدة
تُجسّد شهادات المسيحيين عبر التاريخ دروسًا عميقة تحمل معاني تتجاوز حدود الزمان والمكان. تلك الدروس لا تتوقّف عند مجرّد التضحيات، بل تنبض بالحياة والإلهام للأجيال، لتصبح منارات تنير طريق الإيمان، والمحبة، والسلام.
من أعظم الدروس المستفادة من شهادة الشهداء المسيحيين هو الإصرار على التمسّك بالإيمان، حتى في مواجهة أصعب الظروف. أظهر الشهداء أن الإيمان بالله أقوى من أي تهديد مادي أو خوف من الموت. لم تكن حياتهم خالية من الألم، لكنهم واجهوا التحديات بثقة في الله، معتمدين على قوله: “لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس، بل خافوا الَّذي يَقدِرُ على أَن يُهلِكَ النَّفْسَ والجَسدَ جَميعاً في جَهنَّم” (متى 28:10). كانت كلمات الشهداء الأخيرة، مثل إعلان الأخوة المسابكي: “إننا مسيحيون، ونريد أن نحيا ونموت مسيحيين“، تعبيرًا عن قوة داخلية تتخطّى حدود الضعف البشري، ملهمة للآخرين للثبات مهما كان الثمن. هذا الثبات في الإيمان يدعو كل مؤمن إلى التمسّك بمعتقداته ومبادئه، حتى عندما يواجه تحديات تهدّد وجوده.
الشهادة المسيحية ليست فقط تضحية بالحياة، بل هي أيضًا دعوة إلى التسامح والمحبة حتى في مواجهة الظلم والعنف. اختار الشهداء أن يواجهوا اضطهادهم بروح المغفرة والمحبة. لم تكن هناك دعوات للانتقام أو الكراهية، بل شهدت أفعالهم وكلماتهم على روح المسيح الذي قال: “يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون” (لوقا 34:23). تسامح الشهداء ليس ضعفًا، بل هو القوّة الحقيقية التي تواجه العنف بالسلام والكراهية بالمحبة، مؤكدين أن الغلبة النهائية هي لمحبة الله. قصص الشهداء تدعو الجميع للعيش في سلام وتسامح، بعيدًا عن دوامات الحقد والانتقام، وتجعل المحبة محور العلاقات الإنسانية.
شهادات الشهداء المسيحيين ليست مجرّد قصص من الماضي، بل هي نور يضيء للأجيال الحاضرة والمستقبلية طريق الإيمان والتحدّي. تظّل قصص الشهداء مثالًا حيًا للشجاعة الروحية والإنسانية، تلهم المؤمنين على مواجهة صعوبات الحياة بثقة في الله وبإيمان راسخ. عندما يواجه المؤمنون أوقاتًا عصيبة، فإن استذكار شهادات الإيمان هذه يشجّعهم على التحلّي بالصبر والثقة بأن الله لن يتركهم وحدهم. حياة الشهداء وموتهم تلهم المؤمنين لتجديد علاقتهم مع الله والسير على درب المحبة والإيمان دون تردّد.
شهادات الشهداء تُظهر أن الشر لن ينتصر، وأن النور الإلهي سيشرق دائمًا حتى في أحلك اللحظات. تؤكد الشهادة أن المعاناة ليست النهاية، بل هي بداية لحياة أبدية مليئة بالفرح في حضرة الله. كما يقول القديس بولس: “وأَرى أَنَّ آلامَ الزَّمَنِ الحاضِرِ لا تُعادِلُ المَجدَ الَّذي سيَتَجَلَّى فينا” (رومية 18:8). قصص الشهداء المسيحيين ليست مجرّد سرد لأحداث تاريخية، بل هي مدرسة للحياة تعلّمنا الثبات، المحبة، والتسامح. إنها رسالة ملهمة لكل إنسان، تدعوه لأن يعيش حياته بإيمان راسخ ومحبة صادقة، مؤكدًا أن قوة الروح أقوى من أي قيد، وأن المجد الحقيقي ينتظر أولئك الذين يثبتون حتى النهاية.
9.الخاتمة
قصة الأخوة المسابكي والرهبان الفرنسيسكان والكاهن يوسف الحداد هي أكثر من مجرّد حادثة مأساوية محفورة في صفحات التاريخ؛ إنها أيقونة حيّة للإيمان المسيحي الذي ينتصر على الموت والعنف. في مواجهة أقسى الظروف، لم يختاروا الخوف أو الإنكار، بل ثبتوا في إيمانهم وواجهوا الموت بشجاعة نابعة من يقينهم في الحياة الأبدية التي وعد بها المسيح، له المجد. شهادتهم تعكس أسمى معاني المحبة المسيحية التي لا تخشى التضحية، بل تتوق إلى التشبّه بالمسيح الذي بذل نفسه من أجل خلاص البشرية. إنها دعوة للتأمل في عمق الإيمان، الذي لا يقاس بالكلام وحده، بل بالفعل والاستعداد للتضحية من أجل الله والآخرين. كما أن استشهادهم يسلّط الضوء على قوة التسامح والمحبة التي تدعو إليها المسيحية. فقد اختاروا السلام بدل الانتقام، والمحبة بدل الكراهية، ليصبحوا نورًا يرشد الأجيال القادمة نحو الطريق الحق. شهادتهم ليست فقط مصدر إلهام للمسيحيين، بل هي درس عالمي حول القوّة الكامنة في الإيمان بالله، والقدرة على مواجهة الظلم بالعزيمة والسلام الداخلي.
بالملخّص، في المسيحية، الشهادة هي أسمى درجات الإيمان، لكنها ليست فعلًا عدائيًا أو وسيلة لإلحاق الأذى بالآخرين، بل هي تجسيد للحب والتضحية في سبيل الحق دون أن تمتد يد الشهيد إلى ظلم أو قتل. الشهادة في المفهوم المسيحي تقوم على مبادئ السلام، الغفران، واحتمال الأذى بصبر، كما علّم السيد المسيح حين قال: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم، لِتَصيروا بني أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار (متى 44:5-45). فالمسيحيون الأوائل، وعلى رأسهم التلاميذ والقديسون، لم يحملوا السيف لفرض إيمانهم، بل واجهوا الاضطهاد بصمت وإيمان راسخ، مقدمين حياتهم شهادةً للحقيقة دون أن يسفكوا دماء الآخرين.
للأسف، في بعض المعتقدات الأخرى إرتبط مفهوم الشهادة بممارسات تنطوي على العنف، حيث يُنظر إلى التضحية بالنفس أحيانًا كوسيلة مشروعة لإلحاق الضرر بالخصوم، حتى وإن كانوا أبرياء. وهنا تكمن المفارقة الجوهرية بين مفهوم الشهادة في المسيحية، التي ترتكز على بذل الذات دون الاعتداء، وبين تلك التصورات التي تبرّر القتل باسم العقيدة أو الإيديولوجيا. إن الشهادة الحقيقية ليست في إزهاق أرواح الآخرين، بل في تقديم الذات فداءً للحب والحق، دون أن تمتّد اليد إلى الظلم. فالشهداء المسيحيون لم يكونوا قتلة، بل حملوا إيمانهم بمحبة حتى النفس الأخير، تاركين وراءهم إرثًا خالدًا من النور والسلام، بدلًا من دوامات الحقد والانتقام.