جولدا مائير
د. الياس ميشال الشويري مقولة جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل السابقة،”إذا تخلّى العرب عن أسلحتهم’ فلن يكون هناك قتال،
وإذا تخلت إسرائيل عن عناصر القوة، فلن تكون هناك إسرائيل!“، تتضمّن رسائل قويّة ومثيرة للجدل حول طبيعة الصراع العر الإسرائيلي. هذه المقولة ليست مجرّد تصريح عابر، بل تعكس الفكر السياسي الإسرائيلي في واحدة من أكثر فترات الصراع دموية في تاريخ الشرق الأوسط. لفهم أبعاد المقولة بشكل عميق، لابد من النظر إلى السياق التاريخي والسياسي، الدلالات العسكرية، وفهم العلاقة بين الوجود الإسرائيلي والتهديدات العربية كما تُعبّر عنها هذه المقولة.
1- السياق التاريخي والجغرافي.
تتجذّر المقولة في السياق التاريخي المعقّد للصراع العربي الإسرائيلي الذي بدأ بعد إعلان قيام دولة إسرائيل في عام 1948. مع إعلان قيام إسرائيل، بدأ النزاع مع الدول العربية المجاورة والفلسطينيين الذين رفضوا فكرة إقامة دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية. منذ ذلك الحين، تعرضت إسرائيل لعدة حروب، أبرزها حرب الاستقلال (1948)، حرب العدوان الثلاثي (1956)، حرب الأيام الستة (1967)، وحرب أكتوبر (1973). في هذه الحروب، كان الجيش الإسرائيلي يتعامل مع تهديدات مباشرة من الجيوش العربية التي كانت ترفض وجود إسرائيل وتعتبره احتلالًا.
في هذا السياق، تعكس مقولة جولدا مائير القلق الأمني الدائم الذي كان يعيشه المجتمع الإسرائيلي في ظل التهديدات المستمرة من الدول العربية. هذه البيئة المحيطة أضفت على إسرائيل حاجة ملحّة لتعزيز قوتها العسكرية بكل الوسائل الممكنة، لا سيما في ظل الدعم الغربي، خاصة من الولايات المتحدة، وغياب دعم عربي حقيقي في المسار السياسي لتحقيق سلام شامل.
2- التهديدات الأمنية وحق الدفاع.
تُصوّر جولدا مائير في مقولتها أن وجود إسرائيل مرتبط ارتباطًا مباشرًا بـ قوتها العسكرية. إذا تخلّى العرب عن أسلحتهم، كما تقول، فإن القتال بين الطرفين سيتوقّف؛ وهذا يشير إلى استمرار الصراع الفلسطيني والعربي ضد إسرائيل في سياق مقاومة الاحتلال، حيث أن إسرائيل كانت ترى في نفسها، دولة محاطة بالأعداء، إذ كان هناك تهديد دائم لأمنها القومي في أي لحظة، ممّا يجعلها بحاجة لتطوير قدراتها العسكرية لضمان الردع ضد أي هجوم خارجي أو تصعيد عسكري.
من وجهة نظر جولدا مائير، فإن إسرائيل يجب أن تحتفظ بتفوّق عسكري مستمّر لضمان وجودها. المقولة تعكس إيمانها بأن التخلي عن القوة العسكرية من قبل إسرائيل ليس خيارًا، لأن ذلك سيؤدي إلى زوالها. ومن هنا، يترسّخ مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي في عقلية قيادات الدولة، حيث القوة العسكرية تُعتبر العامل الرئيس للحفاظ على الوجود في المنطقة. في هذا السياق، يمكن فهم المقولة باعتبارها تعبيرًا عن القلق الوجودي الذي كان يسيطر (ولا يزال) على السياسيين الإسرائيليين.
3- الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية.
في العمق، تعكس المقولة أيضًا استراتيجية الردع التي تبنتها إسرائيل عبر عقود. بالنسبة للمسؤولين الإسرائيليين في ذلك الوقت، الحفاظ على الأمن لم يكن مجرّد مسألة أمنية، بل كان أمرًا وجوديًا. القوة العسكرية كانت بمثابة الدرع الذي يحمي إسرائيل من الهجمات المحتملة من جيرانها. وبالنظر إلى حجم الصراعات التي خاضتها إسرائيل مع جيرانها العرب، من حرب 1948 إلى حرب 1967، يمكن القول إن المقولة كانت تمثّل جزءًا من الفكر الاستراتيجي الذي يعتقد بأن إسرائيل لا يمكنها الاستغناء عن القوة العسكرية كجزء من هويتها الأمنية.
إسرائيل طورت قوة ردع عسكرية تضم الأسلحة التقليدية والنووية، إضافة إلى أنظمة دفاعية مثل القبة الحديدية، لضمان التفوّق العسكري في أي مواجهة مع الدول العربية. وبهذا المعنى، فإن المقولة تعبّر عن حاجة ماسة في الفكر العسكري الإسرائيلي للحفاظ على الهيبة العسكرية والتفوّق على خصومها العرب لضمان الاستقرار الداخلي والسيطرة على الأراضي المحتلة.
4- الخطاب الإسرائيلي في مواجهة السلام.
مقولة جولدا مائير تكشف عن رؤية إسرائيلية خاصة للسلام، والتي ترى أن السلام مع العرب يمكن أن يتحقّق فقط إذا توقف العرب عن محاربة إسرائيل. هذا التفسير يركّز على الجانب العسكري، بينما يغفل الجانب السياسي والاجتماعي للصراع، والذي يراه العرب في المقابل مسألة حقوقية وإنسانية لا يمكن تجاوزها. في المقابل، تعتبر إسرائيل أن العرب إذا كانوا مستعدين للتخلّي عن الصراع العسكري، فهذا يعني أنهم سيقبلون الوجود الإسرائيلي، وهو الشرط الأساسي من منظور إسرائيل لتحقيق السلام.
هذا يضعنا أمام إشكالية حقيقية في المفاوضات السياسية. في حين ترى إسرائيل أن الطريق للسلام يكمن في وقف المقاومة، ترى الأطراف العربية أن السلام لن يتحقّق إلا إذا كان التنازل عن الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية أمرًا لا يمكن التراجع عنه. ومن ثم، فإن خطاب جولدا مائير يعكس رؤية قاصرة عن الحق الفلسطيني، فهو يربط السلام بتنازل الفلسطينيين والعرب عن حقهم في المقاومة.
5- دلالات المقولة على العلاقات العربية-الإسرائيلية.
المقولة تعد بمثابة إعلان عن الرؤية الإسرائيلية للصراع، والتي تمثّل العلاقة بين إسرائيل وجيرانها العرب في سياق قوة التفوّق العسكري. تعكس المقولة في جانبها العميق الفهم الإسرائيلي للصراع، الذي لا يعترف بشرعية أي من مطالب العرب سوى التهدئة العسكرية. في هذا السياق، يُنظر إلى السلام كحل يُعنى فقط بوقف القتال، بينما التوازن العسكري هو الذي سيحدّد الاستقرار.
النقد العربي للمقولة يكمن في أنها تهمل الحقوق الفلسطينية والأرض التي تم احتلالها. فالمقولة لا تشير إلى أي استعداد إسرائيلي للاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية أو تغيير واقع الاحتلال، بل تقتصر على فرض الشروط العسكرية كحجر الزاوية لأي نوع من السلام.
6- إشكالية المقولة في السياق العربي.
عند النظر إلى المقولة من الزاوية العربية، نجد أنها تمثّل رؤية استعمارية تحاول تبرير الاحتلال الإسرائيلي، حيث ترى أن أمن إسرائيل يعتمد فقط على قوتها العسكرية، بينما يتم تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني. العرب يعتبرون أن هذه المقولة تتجاهل الحقيقة القائلة بأن فلسطين هي القضية الجوهرية، وأن الاستعمار الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية لا يمكن قبوله تحت أي ظرف من الظروف.
7- الآراء النقدية للمقولة.
المقولة تعرض رؤية مبسطة وغير شاملة للصراع، حيث لا تعترف بالمطالب الشرعية للشعوب في الحرية والاستقلال. النقد الرئيس لهذا الطرح هو أنه يضع عبئ السلام على العرب في حين أن الاحتلال الإسرائيلي هو الذي يخلق الاضطراب والصراع في المنطقة. بناءً على هذه المقولة، فإن العرب يجب أن يتوقفوا عن القتال، بينما على إسرائيل أن تحتفظ بالقوة لتحقيق استقرارها. هذا يتجاهل الحقوق الإنسانية والقانونية في الأرض الفلسطينية.
8- الخاتمة.
مقولة جولدا مائير، التي تنطوي على بعد عسكري بحت، تعتبر انعكاسًا واضحًا لفكر سياسي إسرائيلي يركّز بشكل كبير على الأمن العسكري كشرط أساسي لبقاء الدولة. في هذه المقولة، يتجلّى القلق الوجودي الذي يسود التفكير الإسرائيلي حول وجودها في منطقة تتمتّع بتاريخ طويل من الصراعات والهجمات. التوجّس من فقدان التفوّق العسكري يعكس إيمانًا عميقًا لدى قادة إسرائيل بأن بقائها في المنطقة يعتمد على قدرتها العسكرية وقدرتها على ردع أو إضعاف أي تهديدات محتملة.
ولكن، في الوقت نفسه، تكشف هذه المقولة عن إشكالية حقيقية في فهم السلام في منطقة الشرق الأوسط. السلام من منظور جولدا مائير لا يعني العدالة أو المصالحة بين الطرفين، بل يبدو أنه سلام مفروض عن طريق القوة العسكرية. إذا نظرنا إلى الفكرة الجوهرية في المقولة، نجد أن السلام لا يمكن أن يتحقّق إلا بتخلّي العرب عن أسلحتهم، أي بتسليمهم لأمن إسرائيل على حساب أمنهم الوطني. هذه الرؤية تغفل تمامًا الحقوق الفلسطينية في التحرّر والعيش بكرامة وحرية على أرضهم، ممّا يجعل مفهوم “السلام” في هذه المقولة ذا طابع أحادي الجانب.
في الختام، يمكن القول إن مقولة جولدا مائير تكشف عن إشكالية حقيقية في المقاربة الإسرائيلية للصراع. فبدلاً من السعي لتحقيق سلام عادل وشامل يعترف بحقوق جميع الأطراف، يبدو أن الرؤية الإسرائيلية لا تزال محدودة في إطار التفوّق العسكري والأمن الذاتي، ممّا يؤدي إلى تجاهل القضايا الجوهرية التي تؤثّر على الفلسطينيين. هذا التوجّه لا يُفضي إلى سلام مستدام بل إلى نزاع دائم، حيث تظل جذور الصراع دون معالجة، ويظل السلام مجرد وهم يُبنى على أسس هشة!