جبران خليل جبران
د. الياس ميشال الشويري
عند قراءة مقولة جبران خليل جبران “لكم لبنانكم ولي لبناني“، المنشورة في كتاب “البدائع والطرائف” في مطلع العشرينيات، نجد أنها تحمل في طيّاتها رؤية عميقة وشاملة لمعضلات لبنان السياسية والاجتماعية. من خلال كلمات جبران البليغة، نرى وطنًا ممّزقًا بين تناقضات داخلية وخارجية، بين رؤى الطامحين إلى استقلال حقيقي، وأطماع الساعين للحفاظ على مصالحهم الشخصية والطائفية. هذه المقولة ليست فقط شهادة على مرحلة تاريخية معينة، بل هي أيضًا مرآة تعكس أزمات لبنان الحالية، حيث لا يزال البلد عالقًا في دوامة الصراعات الداخلية والتدخلات الدولية.
في هذا المقال، نستعرض تشخيص جبران لمشاكل لبنان، ونحلّل العلاقة بين رؤيته النقدية وواقع لبنان المعاصر، مع استحضار رؤية ميخائيل نعيمة كامتداد فكري لجبران، في دعوتهما المستمرة لإعادة بناء لبنان الحلم الذي يستحقه شعبه.
1- جبران وخطابه الثوري عن لبنان.
“لكم لبنانكم ولي لبناني” ليست مجرد عبارة رمزية، بل هي صرخة من جبران ضد التشوّهات التي أصابت وطنه. في تلك المقولة، قدّم جبران وصفًا دقيقًا لمشاكل لبنان، قائلاً إنه “مشكلة دوليّة تتقاذفها الليالي” و”حكومة ذات رؤوس لا عداد لها.” كان جبران يصف لبنان كدولة تتأرجح بين مصالح القوى الخارجية وصراعاتها الداخلية.
رؤية جبران لم تكن وليدة اللحظة؛ فقد عاش في زمنٍ كان فيه لبنان جزءًا من صراع إقليمي ودولي كبير. كانت البلاد تخضع لانتداب أجنبي وتحكمها زعامات محلية ذات مصالح متضاربة. من هنا، كانت دعوته واضحة وصريحة: الخروج من هذا الواقع إلى وطن حقيقي يعبّر عن طموحات شعبه بعيدًا عن هيمنة الخارج وفساد الداخل.
2- السياسة الطائفية كمعضلة لبنانية أزلية.
جبران، بوصفه لبنان كـ”حكومة ذات رؤوس لا عداد لها“، أشار إلى مشكلة النظام الطائفي الذي يقسّم السلطة وفقًا للانتماءات الدينية والطائفية، بدلًا من الكفاءة الوطنية. هذا التشخيص لا يزال صالحًا حتى اليوم، حيث يُدار لبنان بمنطق المحاصصة، ممّا يعيق أي تقدّم حقيقي نحو بناء دولة المواطنة.
الطائفية في لبنان ليست مجرّد نظام سياسي، بل هي ثقافة متجذّرة تُسهم في تعزيز الانقسامات الداخلية. جبران كان واعيًا لخطورة هذا النهج، إذ رأى أن نظامًا كهذا يجعل لبنان رهينة للصراعات، داخليًا وخارجيًا. وهو ما نراه اليوم في الأزمات المتكرّرة، بدءًا من الشلل الحكومي والرئاسي، وصولًا إلى الانهيار الاقتصادي، وغيره.
3- ميخائيل نعيمة واستكمال الرسالة الجبرانية.
ميخائيل نعيمة، صديق جبران وشريكه الفكري، أضاف أبعادًا فلسفية وإنسانية إلى هذه الرؤية. حين تحدث عن تجربتهما في نيويورك، أكد على الرسائل الكامنة في كتابات جبران، والتي تضمنت دعوات واضحة لإعادة بناء الهوية اللبنانية. كانت رسائل جبران حول الدين، والسياسة، والإنسانية، تصب في نفس الهدف: رفض الانقسام والسعي لوطن جامع.
نعيمة، بأسلوبه، لم يكتفِ بتشخيص المشكلة، بل سعى لتقديم حلول تعتمد على بناء الإنسان اللبناني الجديد، الإنسان الذي يرفض الانقسامات ويناضل من أجل وطن يحترم كرامته وإنسانيته.
4- لبنان بين الواقع والحلم.
اليوم، وبعد مئة عام تقريبًا من مقولة جبران، لا يزال لبنان يعاني من نفس المعضلات التي وصفها. تدخلات الخارج وصراعات الداخل تستمر في تقويض فرص البلد للنهوض. لكن جبران ونعيمة، من خلال كتاباتهما، يقدّمان خريطة طريق للخروج من هذا المأزق. الخلاص يكمن في رفض “لبنانكم” الذي يمثله النظام الطائفي والسياسات الفاشلة، والسعي لبناء “لبناني” جديد يعبّر عن إرادة الشعب الحقيقية.
5- الخاتمة.
“لكم لبنانكم ولي لبناني” ليست مجرّد مقولة من الماضي، بل هي دعوة مستمرة لإعادة بناء لبنان على أسس وطنية وإنسانية. رؤية جبران الثاقبة لا تزال تُلهم كل من يحلم بلبنان بعيداً عن الفساد والطائفية. وبالرغم من أن الطريق نحو تحقيق هذا الحلم يبدو طويلًا وشاقًا، إلا أن الأمل يظلّ قائمًا في إرادة الشعب اللبناني وفي تلك الأصوات التي تنادي دائمًا بلبنان أفضل، تمامًا كما فعل جبران ونعيمة قبل قرن من الزمن.