سويسرا النموذج البارز للحياد الفاعل
فكرة حياد لبنان وتحوّله دولة تُشبه سويسرا أو السويد أو النمسا أو كوستاريكا أو فنلندا، وأن يكون له حياد خاص به مصمّم على قياسه، لا يزال موضوع أخذ وردّ وشجار وحتى تخوين منذ تطرف البطريرك الراعي الى ما أسماه اعتماد “لبنان الحياد الإيجابي الناشط” أو “الحياد الفاعل”. ولأن هذا الموضوع يستحق التوقف عنده لمعرفة إيجابياته وسلبياته، فقد خصّص الباحث والكاتب والأستاذ الجامعي د. الياس ميشال الشويري بحثاً إيجابياً عن هذا الحياد بالتفاصيل، على أمل أن يأتينا ردّ مفصّل ممّن يخالفون هذه الفكرة ويعتبرون اعتماد الحياد في لبنان هو خطوة سلبية مع تعديد الأسباب…
د. الياس ميشال الشويري
في غير مناسبة، تطرّق غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى فكرة “الحياد الإيجابي الناشط” أو “التحييد الفاعل”، مشدّداً على أن لا خلاص للبنان إلا بإعلان “نظام الحياد الفاعل والإيجابي الملتزم”، وأن الخطر على لبنان، ملتقى الديانات والمذاهب، يكمن بسبب “الإنحراف عن الواقع اللبناني والدستور والميثاق الوطني واتفاق الطائف، وهيمنة محور معيّن على الحكومة وعلى السياسة اللبنانية”، مّا خلق أزمة سياسيّة كبيرة، وأزمة اقتصادية ومالية ومعيشية حادة للغاية يعيشها اللبنانيون، خاصة الذين آمنوا بوطن إسمه لبنان ولم ينهبوه، كما فعل الآخرون!
فكرة الحياد الإيجابي الناشط أو التحييد الفاعل، التي خُوّن من أجلها غبطة البطريرك واتهم بالعمالة من قبل فريق من اللبنانيين، تعني أن يكون لبنان فاعلاً وملتزمًا في الدفاع عن قضايا السلام والاستقرار في المنطقة، وعن قضية الشعوب، وعن القضية الفلسطينية، وعن قضايا العرب، من دون أن يدخل في أحلافٍ سياسيّة أو عسكريّة، وبالتالي يلعب دوره التاريخي كجسرٍ ثقافي وتجاري بين الشرق والغرب، كما كان الى حدّ ما، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
وعلى عكس الحياد التقليدي الذي ينطوي على عدم الانحياز لأي طرف في النزاعات الدولية، يهدف الحياد الفاعل والإيجابي، إلى التفاعل الإيجابي مع المجتمع الدولي من خلال الوساطة، وتعزيز حقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية، والمشاركة في المنظمات الدولية. هذا النظام يتطلب من الدول التي تتبنّاه اتخاذ خطوات دقيقة ومدروسة للحفاظ على استقلالها وسيادتها، مع العمل على تعزيز السلام والاستقرار الدوليين. الدول التي تتبّع هذا النهج غالباً ما تُعرف بدبلوماسيتها المرنة وقدرتها على تقديم مساهمات إيجابية في حل النزاعات العالمية.
فما أهمية الحياد الفاعل والإيجابي؟ سؤال سنجيب عنه في الأسطر التالية من خلال 3 نقاط هي:
1-تحقيق السلام والاستقرار. ففي عالم مليء بالصراعات والتوترات الدولية، يلعب الحياد الفاعل والإيجابي دوراً حيوياً في تعزيز السلام والاستقرار. الدول المحايدة بشكل فعّال يمكن أن تكون بمثابة جسور للتواصل بين الأطراف المتنازعة، وتقديم منصّات للحوار والمفاوضات، مما يقلّل من احتمالات التصعيد ويعزّز فرص الحلول السلمية.
2-دعم حقوق الإنسان والتنمية. من خلال تبنّي سياسات تركّز على حقوق الإنسان والتنمية المستدامة، تسهم الدول التي تتبع هذا النظام في خلق بيئة دولية أكثر عدالة وإنسانية. الدعم المقدّم في شكل مساعدات إنسانية وتنموية يساعد في تحسين الظروف المعيشية في الدول النامية والمتضررة من النزاعات والكوارث.
3-تعزيز السيادة الوطني. الحفاظ على السيادة الوطنية واستقلالية اتخاذ القرار هما حجر الزاوية في نظام الحياد الفاعل والإيجابي. هذا يمكّن الدول من تطوير سياساتها الداخلية والخارجية بما يتماشى مع مصالحها الوطنية الخاصة، بعيداً من الضغوط الخارجية والتحالفات العسكرية.
نظام الحياد الفاعل والإيجابي ليس مجرد استراتيجية للحفاظ على الاستقلال الوطني، بل هو نموذج ديناميكي يساهم في بناء نظام دولي أكثر استقراراً وعدالة، من خلال التفاعل الإيجابي والبنّاء مع المجتمع الدولي.
وماذا عن الخصائص التفصيلية لنظام الحياد الفاعل والإيجابي؟ هناك سبعة عناوين أساسية هي:
1-الحفاظ على الاستقلالية والسيادة اللذين هما الأساس الذي يرتكزّ عليه نظام الحياد الفاعل والإيجابي. ان الدول التي تتبع هذا النظام، تسعى إلى حماية سيادتها من التأثيرات الخارجية، بما في ذلك الضغوط السياسية والعسكرية. هذا النهج يتطلّب اتخاذ قرارات مستقلّة تستند إلى المصالح الوطنية وليس إلى الضغوط الدولية أو التحالفات القائمة، ومن ذلك:
أ-السيادة الوطنية. فالدول المحايدة تحافظ على سيادتها الكاملة من خلال عدم الانضمام إلى أي تحالفات عسكرية أو سياسية يمكن أن تجرها إلى صراعات خارجية. هذا يمنحها القدرة على اتخاذ قرارات سيادية بعيداً من الضغوط الخارجية.
ب-القرارات المستقلة. تتّخذ الدول المحايدة قراراتها بناءً على تحليل دقيق لمصالحها الوطنية. هذا يشمل سياسات الدفاع، والاقتصاد، والشؤون الخارجية، مما يضمن عدم انحيازها لأي طرف دولي.
2-المشاركة النشطة في المنظمات الدولية. ذلك أن الدول التي تتبع نظام الحياد الفاعل والإيجابي، تلعب دوراً نشطاً في المنظمات الدولية لتعزيز السلام والاستقرار العالميين. فمن خلال المشاركة الفعّالة، تستطيع هذه الدول التأثير على القرارات الدولية والمساهمة في حل النزاعات، وذلك من خلال:
أ-العضوية في المنظمات الدولية. فالدول المحايدة تحرص على الانضمام إلى المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومنظمة التجارة العالمية. ذلك أنه يمنحها منصة للتأثير على القضايا الدولية والمشاركة في صنع القرارات العالمية.
ب-المشاركة في المبادرات الدولية، اذ من المعروف أن الدول المحايدة بفعالية، تشارك في المبادرات الدولية مثل حفظ السلام، مكافحة الإرهاب، والتعاون في مجالات البيئة والصحة، وهو ما يعزّز من مكانتها الدولية ويُسهم في تحقيق الأهداف العالمية المشتركة.
3-الدور الوسيط في النزاعات الدولية، اذ أن الدول المحايدة غالباً ما تلعب دور الوسيط في النزاعات الدولية، بوجود منصّات للحوار والمفاوضات، كما تعمل على تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة. هذا الدور يعزّز من سمعتها كوسيط موثوق به ومحايد عن طريق مهمتَيْن:
أ-الوساطة في النزاعات، اذ أن الدول المحايدة تعمل كوسيط نزيه في النزاعات الدولية، مستغلّة حيادها لخلق بيئة ملائمة للحوار والتفاوض بين الأطراف المتنازعة، بما في ذلك تقديم مقترحات تسوية عادلة ومتوازنة.
ب-استضافة المفاوضات اذ غالباً ما تستضيف الدول المحايدة المفاوضات بين الأطراف المتنازعة في أراضيها، مّا يتيح للأطراف المتنازعة بيئة محايدة وآمنة للتفاوض وحل النزاعات.
4-تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية، اذ تسعى الدول التي تتبع نظام الحياد الفاعل والإيجابي إلى تعزيز قيم حقوق الإنسان والديمقراطية على المستوى العالمي. من خلال الترويج لهذه القيم، تعمل هذه الدول على خلق بيئة دولية أكثر عدالة واستقراراً، عبر:
أ-الترويج لحقوق الإنسان، باعتبار أن الدول المحايدة تعمل على الترويج لحقوق الإنسان من خلال المشاركة في المبادرات الدولية والاتفاقيات التي تهدف إلى حماية حقوق الأفراد والجماعات. هذا يشمل الدعوة إلى حقوق المرأة، حقوق الأقليات، وحقوق اللاجئين.
ب-دعم الديمقراطي، ذلك أن الدول المحايدة تدعم التحولات الديمقراطية في الدول الأخرى من خلال تقديم المشورة والمساعدات التقنية، والمشاركة في مراقبة الانتخابات لضمان نزاهتها وشفافيتها.
5-التعاون الاقتصادي والثقافي، اذ تحافظ الدول المحايدة على علاقات اقتصادية وثقافية قوية مع جميع دول العالم، وتسعى إلى تعزيز التجارة والتبادل الثقافي والتعاون التقني، مّا يُسهم في تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، من خلال:
أ-التجارة الدولية التي من خلالها تعزّز الدول المحايدة دورها إقامة علاقات تجارية متوازنة مع جميع الدول، بغض النظر عن انتماءاتها السياسية أو العسكرية، ما يساهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي الداخلي.
ب-التبادل الثقافي، ذلك أن الدول المحايدة تشجّع التبادل الثقافي والفنّي بين الدول، مّا يعزّز من التفاهم والتعاون الدولي، بما في ذلك تنظيم الفعاليات الثقافية، التبادل الأكاديمي والمشاريع المشتركة في مجالات الفنون والعلوم.
ج:التعاون التقني. ان الدول المحايدة تسعى إلى التعاون في مجالات التكنولوجيا والابتكار مع دول العالم المختلفة، مما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة ونقل المعرفة والتقنيات الحديثة.
أ-المساعدات الإنسانية والتنموية، ان الدول المحايدة تلعب دوراً بارزاً في تقديم المساعدات الإنسانية والتنموية للدول والمجتمعات المحتاجة، سواءً من خلال البرامج الدولية أو المبادرات الوطنية، عن طريق:
أ-المساعدات الإنسانية، اذ تقدّم الدول المحايدة المساعدات الإنسانية في حالات الطوارئ والكوارث الطبيعية والصراعات المسلحة، بغض النظر عن الأطراف المتورطة. هذا يشمل توفير الغذاء، والأدوية، والمأوى للمتضررين.
ب-المساعدات التنموية، اذ تُسهم الدول المحايدة في التنمية المستدامة من خلال دعم المشاريع التنموية في الدول النامية، مثل بناء البنية التحتية، والتعليم، والرعاية الصحية. هذا يساعد في تعزيز الاستقرار والنمو الاقتصادي في هذه الدول.
7-التعليم والتوعية، ذلك أن الدول المحايدة تركّز على نشر الوعي والتعليم حول قيم السلام وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة، سواء داخل حدودها أو في العالم الخارجي، عبر:
أ-برامج التعليم، اذ هي تطلق برامج تعليمية محلية ودولية تهدف إلى تعزيز فهم القيم الإنسانية والديمقراطية، وكذلك تقديم المعرفة حول القضايا العالمية المهمة مثل البيئة والصحة العامة.
ب-الحملات التوعوية عن طريق تنظيمها حملات توعية تستهدف الجمهور المحلي والدولي، لتعزيز القيم الإنسانية وتشجيع السلوكيات الإيجابية التي تدعم السلام والاستقرار.
فهل من أمثلة تاريخية على الحياد الفاعل والإيجابي؟ نعم وهناك خمسة نماذج هي:
1-سويسرا: النموذج البارز للحياد الفاعل. فهي تُعتبر من الأمثلة المهمة على الحياد الفاعل والإيجابي. فمنذ معاهدة وستفاليا عام 1648، وسويسرا تتبنّى سياسة الحياد، والتي تعزّزت بعد مؤتمر فيينا عام 1815. وعلى رغم أنها لم تشارك في أي نزاع مسلّح منذ ذلك الوقت، فهي لم تكتفِ بالانعزال عن الأحداث الدولية، بل لعبت دوراً حيوياً في الوساطة وحلّ النزاعات العالمية. فجنيف، على سبيل المثال، استضافت العديد من المؤتمرات والمعاهدات الدولية، مثل معاهدة جنيف في العام 1864 التي أسّست القانون الدولي الإنساني. سويسرا هي أيضاً مقرّ للعديد من المنظمات الدولية، بما في ذلك اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ممّا يعزّز دورها الفاعل في تقديم المساعدات الإنسانية ودعم حقوق الإنسان.
2-السويد: حياد مع نشاط دولي. فهذه الدولة تقدم مثالاً آخر على الحياد الفاعل والإيجابي. منذ بداية القرن التاسع عشر، تبنّت سياسة الحياد العسكري، مّا مكّنها من تجنّب الحروب العالمية. رغم ذلك، لم تكن بعيدة عن الساحة الدولية، إذ كانت نشطة في جهود الوساطة الدولية، وقدّمت دعماً كبيراً للمبادرات الإنسانية والتنموية. السويد دعمت برامج الأمم المتحدة بشكل كبير وساهمت في تعزيز السلام والاستقرار من خلال مبادراتها في مجال حقوق الإنسان والتنمية المستدامة. السياسة السويدية للحياد مكّنتها من الحفاظ على استقلالها وتجنّب التورّط في النزاعات، بينما لعبت دوراً مؤثراً على المستوى الدولي.
3-النمسا: من الحياد إلى التأثير الدولي. هي أيضاً تُعد مثالاً بارزاً على الحياد الفاعل والإيجابي. فبعد الحرب العالمية الثانية، تبنّت سياسة الحياد بموجب معاهدة الدولة في العام 1955، التي أنهت الاحتلال العسكري وقسّمت النمسا كدولة مستقلة وحيادية. هذا الحياد سمح لها بتجنّب التورّط في النزاعات خلال الحرب الباردة، بينما طوّرت علاقات دبلوماسية قوية مع الدول الغربية والشرقية على حد سواء. لقد أصبحت مركزاً للمؤتمرات الدولية، مثل مؤتمر فيينا لنزع السلاح، ولعبت دوراً مهماً في تعزيز الأمن والسلم العالميين. كما أنها تستضيف العديد من المنظمات الدولية، بما في ذلك منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) أو
Organization for Security and Co-operation in Europe.
4-كوستاريكا: حياد من أجل التنمية. أنها تقدّم نموذجاً فريداً للحياد الفاعل والإيجابي في أميركا اللاتينية. فمنذ العام 1949، عندما قرّرت حل جيشها وإعلان نفسها دولة محايدة، وجّهت كوستاريكا مواردها نحو التعليم والصحة والبيئة بدلاً من الإنفاق العسكري. هذا الحياد العسكري لم يمنعها من أن تكون نشطة على الساحة الدولية، فقد لعبت دوراً رئيسياً في تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية في المنطقة. فرئيسها السابق، أوسكار آرياس، حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1987 لجهوده في إنهاء الصراعات في أميريكا الوسطى. كوستاريكا كانت أيضاً سباقة في قضايا البيئة والتغيّر المناخي، مما عزّز من مكانتها الدولية.
6-فنلندا: حياد بنكهة دبلوماسية. أنها تقدّم مثالًا آخر على الحياد الفاعل والإيجابي. بعد الحرب العالمية الثانية، اختارت فنلندا سياسة الحياد لتجنّب الانجرار إلى الصراعات بين الغرب والشرق خلال الحرب الباردة. رغم ذلك، كانت فنلندا نشطة في المشاركة في المنظمات الدولية وتعزيز التعاون الإقليمي. لعبت دورًا مهمًا في مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا (CSCE) أو
Conference on Security and Co-operation in Europe والذي أصبح لاحقًا منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE). فنلندا ركزت أيضاً على تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية، وأصبحت نموذجًا للتعليم والرفاهية الاجتماعية، مما زاد من تأثيرها الدولي.
الخاتمة: تُظهر الأمثلة التاريخية على الحياد الفاعل والإيجابي أعلاه كيف يمكن للدول أن تحافظ على استقلالها وسيادتها بينما تلعب دوراً مهماً في تعزيز السلام والأمن والتنمية الدولية. فمن خلال سياسات دبلوماسية متوازنة، ومشاركة فعّالة في المنظمات الدولية، وتقديم المساعدات الإنسانية والتنموية، تستطيع الدول تحقيق تأثير إيجابي ومستدام على الساحة العالمية.
بالنسبة للبنان، لا تبدو المنظومة السياسية المتحكّمة بمفاصله جادة في الحد الأدنى بالعمل على إخراج لبنان والشعب اللبناني من المحن العديدة المؤلمة. وكما يقول المثل: لا يهم الحرامي أن يعيش بكرامة. فهؤلاء اللصوص الفاسدون والمفسدون الجاثمون على صدورنا منذ أكثر من ثلاثين عاماُ، والذين سطوا على جنى عمرنا ونهبوا خيرات الوطن بالجشع والحب غير المحدود للسلطة، لا يهّمهم سوى حالهم على مصلحة الوطن.
ففي الوقت الذي سعى فيه البطريرك الراعي لرفعة لبنان من خلال طرحه فكرة الحياد الفاعل والإيجابي، خوّن من قبل ناهبي الوطن. إنها لمهزلة تاريخية عندما نجد ناهب الوطن يتقدّم الصفوف مرتدياً زي الوطني المقدام والمدافع عن الوطن (ولكن أي وطن؟)، وما يهّمه من الوطن سوى نهبه تحت مسميات تستميل السذج والحمقى والدهماء من الناس. ليس هناك ما يشكل خطراً على استقرار أي أمة ودرجة نموها وتطورها لكي تواكب العصر ومتغيراته، مثل خطر جهل العامة والانحطاط السياسي!
قد يكون الجهل بالشأن السياسي أمراً مفهوماً ومقبولاً بين عامة الناس، ولكن الذي يصعب فهمه ويستحيل القبول به هو أن يكون الجهل السياسي منتشراً ومتفشياً في أوساط تتوهّم أن مجرّد اصطفافها تحت أي لافته حزبية أو مجتمعية يعفيها من مسؤولية تثقيف نفسها بأبسط أولويات الإفتاء السياسي التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة المعرفية والتربية السياسية والموهبة القيادية اللازمة لبناء القدرة على التعامل مع المصاعب والأزمات التي تحدق بالوطن.
على أي حال، طاب كلام غبطة البطريرك وغيرته على لبنان ومستقبله، سامحين لأنفسنا أن نردّد ما قاله الأسطورة تشي غيفارا، مع بعض التعديلات البسيطة: “إذا استطعت يا غبطة البطريرك أن تقنع الذبابة بأن الزهور افضل من القمامة حينها تستطيع أن تقنع خونة الداخل الذين لم يجلبوا سوى القهر والعذاب والبؤس واليأس للبنان، من خلال دناءتهم وخساستهم وإرهابهم وإجرامهم، بأن لبنان أغلى من المال والسلطة والكراسي والكبتاغون والمخدرات والفساد ونهب المال العام والخاص!”
وكما قال عبد الرحمن الكواكبي، مع تعديل بسيط: “لو كان الإستبداد رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: “أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وابنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب؛ أما ديني وشرفي فهما المال ثم المال ثم المال. للأسف، هذا هو حالنا مع الفاسدين والمفسدين الذين لا يهمهم من الوطن سوى سرقته ونهبه واختلاسه وتخريبه وتدميره على رؤوس العباد!
حين ينهار لبنان سننهار جميعنا، ولن ينجو احد، ولا احد اكبر من كيان لبنان، ولا سلطة فوق سلطة الدولة العادلة بجميع مؤسساتها، ولا استقواء باي خارج، ولا وصاية من اي احد على احد، ولا لتدوير الزوايا، ولا لبيضة القبّان وألاعيبها المعروفة في تشجيع الفساد وسرقة المشاعات وطمس الحقائق، كما هو الحال مع مأساة تفجير مرفأ بيروت وغيرها من الجرائم بحق الإنسانية. نطمح الى دولة قوية تجد الحلول الجذرية للمخيمات الفلسطينية والنزوح السوري وتحصر السلاح المتفلّت بمؤسساتها، وتحفظ السلام والأمن على كامل ترابها، وتعيد المال المنهوب وجنى عمر الناس الى أصحابها، وتحاسب المسؤولين الذين أوصلوا لبنان الى هذا الإنحطاط الذي نعيشه اليوم على كافة المستويات، أي جهابذة الفساد الذين يتكلمون عن مكافحة الفساد والخطط لمكافحة الفساد في حين أنهم هم من اوصلوا لبنان الى هذا الدرك.
في الختام، تحية كبيرة الى كل البطاركة الذين حافظوا على مجد لبنان الذي أعطي لهم، من الطوباوي الدويهي الى الحويك والمعوشي وخريش وصفير والراعي، والى المؤسسة التي لها ثوابتها التاريخية التي جعلت خياراتها متجانسة مع المجد المعطى لها. كان لكل واحد من هؤلاء البطاركة موقف في لحظة تاريخية من تاريخ لبنان في مواضيع أساسية أهمها: قيم الحرية او الاستقلال او التعايش او المصالحة او الميثاقية، وكلها أقانيم لما وصفه البابا الراحل القدّيس يوحنا بولس الثاني في الإعلان السنودسي عند زيارته التاريخية للبنان: لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة! لقد اعجبني طرح غبطة البطريرك الراعي عن الحياد الإيجابي الناشط أو التحييد الفاعل، ولم يفاجئني، بل جعلني ادرك ان المجد لا يعُطى بدون سبب ولا بدون تاريخ تتتابع فيه المواقف الكبيرة في اللحظات التاريخية الحاسمة!