التحصيل الدراسي على… الشمعة
د. الياس ميشال الشويري
قال الكاتب المصري الساخر جلال عامر: “شبكة الفساد في هذه البلاد أكبر من شبكة الصرف الصحي”، بهذه العبارة; يكاد يلخص حجم الفساد المستشري في الدول النامية، والذي يتجاوز قدرات الأنظمة الإدارية على التعامل معه، بل ربما يفوق أنظمة البنى التحتية التي تعكس حالة البلاد. في لبنان، تشكّل هذه العبارة مرآة لواقع ملموس، حيث بات الفساد جزءاً من المنظومة الحاكمة وليس خللاً طارئاً. هذا المقال يتناول تشريح شبكة الفساد في لبنان، مقارنة بدورها السلبي في الحياة العامة وتأثيرها على المؤسسات والبنية التحتية، مع التركيز على أزمة الصرف الصحي كأحد المظاهر البارزة للتدهور.
1- الفساد في لبنان – جذور وأبعاد.
الفساد في لبنان ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات سياسية واجتماعية واقتصادية منذ عقود. جذوره تمتد إلى فترة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، حيث جرى تقاسم السلطة على أسس طائفية، ما عزّز مفهوم المحاصصة على حساب الكفاءة والنزاهة. النظام السياسي في لبنان مبني على شبكة من العلاقات الزبائنية التي تتيح للأحزاب الطائفية السيطرة على المؤسسات العامة واستغلالها لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية.
تشمل أبعاد الفساد في لبنان سوء الإدارة، المحسوبية، غياب المحاسبة، وتداخل المصالح بين السياسيين وأصحاب النفوذ الاقتصادي. أدّى ذلك إلى تفشّي الفساد في جميع القطاعات، بما في ذلك الصحة، التعليم، الطاقة، والبنية التحتية، مع تراجع ملحوظ في جودة الخدمات العامة.
2- شبكة الفساد وتأثيرها على البنية التحتية في لبنان.
شبكة الفساد في لبنان تسببّت في تدهور البنية التحتية إلى مستويات كارثية؛ من أبرز الأمثلة على ذلك أزمة الصرف الصحي. على الرغم من مليارات الدولارات التي أُنفقت على مشاريع الصرف الصحي منذ نهاية الحرب الأهلية، فإن هذه الشبكات لا تزال تعاني من ضعف كبير في التخطيط والتنفيذ والصيانة.
في العديد من المناطق اللبنانية، خصوصاً في بيروت وضواحيها، تتدفّق مياه الصرف الصحي في الشوارع أو تُلقى في الأنهار والبحر دون معالجة. هذه الكارثة البيئية ليست نتيجة نقص التمويل، بل هي نتيجة مباشرة للفساد المستشري مع المنظومة الفاسدة التي عاثت فساداً في أرجاء الوطن، حيث يتم تخصيص الأموال لمشاريع دون رقابة حقيقية أو يتم تبديدها عبر عقود وهمية وشركات مرتبطة بسياسيين.
المثال الأبرز على ذلك هو نهر الغدير، الذي تحول إلى مجرى لمياه الصرف الصحي بسبب غياب حلول جذرية للمشكلة. ورغم الدعوات المتكررة لمعالجة الوضع، فإن الفساد يعيق تنفيذ مشاريع مستدامة، ما يترك السكان يعانون من التلوث والمخاطر الصحية.
3- تأثير الفساد على المواطن اللبناني.
الفساد في لبنان لا يؤثّر فقط على المؤسسات والبنية التحتية، بل يمتد ليؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين. في مجال الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والماء والنقل، يعاني المواطن اللبناني من تدهور الخدمات وارتفاع تكلفتها بسبب الفساد المستشري.
على سبيل المثال، قطاع الكهرباء الذي استنزف مليارات الدولارات من خزينة الدولة يعاني من فشل ذريع في توفير خدمة موثوق بها. في الوقت نفسه، تتفاقم أزمة المياه بسبب سوء إدارة الموارد، ما يضطّر المواطنين إلى شراء المياه من شركات خاصة بأسعار مرتفعة.
في قطاع التعليم، تُظهر المدارس والجامعات الرسمية تراجعاً مستمراً في الأداء والجودة، ما يدفع العديد من الأسر للجوء إلى التعليم الخاص رغم تكلفته العالية. الفقراء، الذين يعتمدون على القطاع العام للحصول على خدماتهم الأساسية، يتحملون العبء الأكبر من هذه الأزمات.
4- الحلول لمكافحة الفساد وإعادة بناء البنية التحتية.
مكافحة الفساد في لبنان تتطلّب إصلاحات شاملة تتجاوز الشعارات والمبادرات الرمزية. البداية تكون من التخلّص من المنظومة الفاسدة بشتّى الوسائل المتاحة، تعزيز استقلالية القضاء بقضاة مشهود لهم بالنزاهة وضمان قدرته على محاسبة المسؤولين عن الفساد، بغض النظر عن مواقعهم أو انتماءاتهم السياسية.
يجب أيضاً تعزيز دور الهيئات الرقابية، مثل ديوان المحاسبة، وإعطاؤها الصلاحيات اللازمة للعمل بكفاءة وشفافية. التكنولوجيا يمكن أن تكون أداة فعالة في هذا الإطار، حيث يمكن اعتماد أنظمة رقمية لمتابعة إنفاق الأموال العامة وضمان الشفافية في تنفيذ المشاريع.
على صعيد البنية التحتية، يجب تنفيذ خطط طويلة الأمد تستند إلى دراسات علمية دقيقة، بعيداً عن تدخلات السياسيين. يجب أن تكون هذه الخطط شاملة ومستدامة، مع التركيز على بناء شبكات صرف صحي حديثة تلبّي احتياجات السكان وتحافظ على البيئة.
دور المجتمع المدني مهم أيضاً في هذه المرحلة، حيث يمكن للمواطنين تنظيم حملات للضغط على الحكومة لإجراء الإصلاحات اللازمة، مع رفع مستوى الوعي حول أهمية مكافحة الفساد وحماية الموارد العامة.
5- الخاتمة.
إن وصف جلال عامر لشبكة الفساد بأنها أكبر من شبكة الصرف الصحي يعكس الواقع المأساوي الذي يعيشه لبنان اليوم. الفساد ليس مجرد خلل إداري، بل هو منظومة مترابطة تعيق تقدّم الدولة وتزيد من معاناة المواطنين. الحلول ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية وشفّافة، ومشاركة فعّالة من القضاء النزيه (إن تحقيق العدالة في أي مجتمع يتطلّب مشاركة فعّالة من القضاء النزيه، حيث يكون القضاة صوت الحق وسدًا منيعًا أمام الفساد والانحراف. فالقضاء النزيه لا يقتصر دوره على الفصل في النزاعات وحماية الحقوق، بل يمتد ليكون ضمير الأمة وحاميًا لدولة القانون. ومن خلال نزاهته وشفافيته، يعزّز الثقة في المؤسسات، ويشكّل ركيزة أساسية لبناء مجتمع عادل ينعم فيه الأفراد بالمساواة والكرامة، بعيدًا عن المحسوبيات والتدخلات السياسية)، والمجتمع المدني الغيور على مصلحة لبنان. يبقى الأمل في أن تكون الأزمات المتلاحقة التي مرّ ويمّر بها لبنان حافزاً لإحداث التغيير المطلوب، وإعادة بناء الدولة على أسس من النزاهة والشفافية والمساءلة.