نهر أبو علي
د. الياس ميشال الشويري
لطالما كانت الأنهار في لبنان رمزًا للحياة والاستمرارية، شاهدة على تاريخ طويل من التفاعل بين الإنسان والطبيعة. إلا أن هذه الأنهار، التي كانت في يوم من الأيام منبعًا للإنماء والازدهار، باتت اليوم تعاني من التلوّث والجفاف والإهمال، تمامًا كما يعاني لبنان من أزمات سياسية واقتصادية خانقة تهدّد كيانه. في هذا المقال، نستكشف كيف يعكس التدهور البيئي الذي أصاب أنهار لبنان واقعًا سياسيًا مضطربًا، حيث باتت الأزمات في الطبيعة تعبيرًا صريحًا عن انهيار الدولة ومؤسساتها. من خلال دراسة موجزة للعلاقة بين البيئة والسياسة، نسلّط الضوء على التشابه العميق بين انهيار الأنهار وانهيار النظام السياسي، ساعين لفهم كيف يمكن لهذا التوازي أن يكون مدخلاً للإصلاح واستعادة التوازن.
- الأنهار: تاريخ وتحديات.
منذ العصور القديمة، كانت الأنهار في لبنان مصدرًا حيويًا للزراعة والمياه العذبة، وقد أسهمت في تطوّر المدن والحضارات اللبنانية. فقد كانت الأنهار تشكّل شرايين الحياة، حيث اعتمدت عليها المجتمعات اللبنانية في ري الأراضي الزراعية وفي تلبية احتياجاتها اليومية من المياه. لكن في العقود الأخيرة، بدأت هذه الأنهار تشهد تدهورًا بيئيًا، نتيجةً للعديد من العوامل مثل التلوّث الصناعي، التخلّص غير السليم من النفايات، والجفاف المتزايد. هذه التحديات لم تكن مجرّد مشاكل بيئية فحسب، بل كانت أيضًا تعبيرًا عن الضعف الحكومي وعدم قدرة المؤسسات السياسية على إدارة الموارد الطبيعية بشكل مستدام. يمكننا رسم هذا التدهور البيئي كمثال صارخ على الفشل السياسي في لبنان، الذي يعاني من مشكلات معقدة، منها سوء إدارة الموارد العامة وضعف المؤسسات.
- لبنان السياسي: الفشل المؤسساتي وعدم الاستقرار.
على الرغم من أن لبنان كان يُعتبر في فترات من تاريخه نموذجًا للديمقراطية والاستقرار في الشرق الأوسط، فإن الواقع السياسي المعاصر يعكس حالة من الفشل المؤسساتي المستمّر. فالحكومات اللبنانية، التي تعاقبت على مدى عقود، فشلت في تحقيق استقرار سياسي حقيقي، بل أصبحت مظلّة لممارسات الفساد والمحسوبية. السياسة اللبنانية تفتقر إلى الرؤية الوطنية المشتركة، حيث تتصارع الفصائل السياسية والطائفية على السلطة والمناصب، ممّا أدّى إلى تجزئة المجتمع اللبناني وخلق حالة من الانقسام السياسي الذي يؤثّر بشكل مباشر على قدرة الدولة في اتخاذ قرارات هامة. هذا التدهور المؤسساتي يمكن ربطه بالانهيار الذي تعاني منه الأنهار، حيث يضعف تأثير المؤسسات وتضيع فرص التنمية المستدامة في جميع المجالات.
- الانهيار البيئي: انعكاس للفشل السياسي.
لا يمكن فصل الانهيار البيئي في لبنان عن حالة الفشل السياسي الذي يعصف بالبلاد. إن التدهور الذي شهده النظام البيئي في لبنان، خاصة فيما يتعلق بالأنهار، لا يُعزى فقط إلى الأسباب البيئية الطبيعية مثل التغيرات المناخية، بل أيضًا إلى الإهمال من قبل السلطات التي فشلت في وضع سياسات بيئية قوية. فعلى الرغم من توفر القوانين والاتفاقات البيئية الدولية، فإن السياسات المحلية تعاني من نقص في التطبيق والمراقبة. كما أن غياب التنسيق بين الوزارات المختلفة والفساد الذي يعشّش في الكثير من المؤسسات الحكومية أدّى إلى إهمال مشاريع الحفاظ على الأنهار وعلى البيئة بشكل عام. وهذا بالضبط ما يشبه الوضع السياسي في لبنان، حيث تفتقر الدولة إلى التنسيق بين أجهزتها الحكومية، ممّا يعرقل أي محاولة لإجراء إصلاحات حقيقية.
- المنظومة السياسية: مصالح على حساب الوطن.
كما أن الأنهار في لبنان تلوثت واستنزفت بسبب استغلالها دون مراعاة للمستقبل، فإن المنظومة السياسية في لبنان استغلّت السلطة والنفوذ على حساب مصالح الوطن والمواطنين. منذ نهاية الحرب الأهلية، استفادت المنظومة السياسية من الوضع الراهن، معتمدةً على نظام المحاصصة الطائفية الذي يضمن لها البقاء في السلطة. وكما أن الأنهار تعكس التدهور البيئي بسبب سوء الإدارة، فإن الوضع السياسي يعكس التدهور في المؤسسات نتيجة للتصرفات الطائفية والمصلحية. هذا الاستغلال أدّى إلى حالة من الجمود السياسي والاقتصادي الذي عرقل أي جهود للتنمية المستدامة.
- التدهور الاقتصادي: التوازي بين الأنهار والوضع المالي.
تدهور الأنهار في لبنان له أبعاد اقتصادية، حيث أن غياب الموارد المائية النظيفة والمتجددة يؤثر سلباً على الزراعة، الصناعة، وحتى السياحة، وهي من الركائز الأساسية للاقتصاد اللبناني. وهذا التدهور البيئي لا يختلف عن الوضع المالي في لبنان، حيث يعاني البلد من أزمة اقتصادية خانقة، ناتجة عن سوء إدارة مالية وتراكم الديون. من خلال هذه المقارنة، يمكن القول إن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها لبنان في الوقت الحالي هي امتداد مباشر للفشل السياسي والبيئي. فكما لا يمكن استدامة الحياة في مجتمع ملوّث بيئيًا، لا يمكن استدامة التنمية في مجتمع يعاني من فشل سياسي واقتصادي.
- غياب الاستراتيجيات الوطنية: على مستوى البيئة والسياسة.
إذا كانت الأنهار قد شهدت تدهورًا بسبب غياب استراتيجيات واضحة لإدارتها وحمايتها، فإن السياسة اللبنانية تعاني من نفس المشكلة: غياب استراتيجيات واضحة للإصلاح السياسي والاقتصادي. لبنان يحتاج إلى قيادة سياسية قادرة على وضع سياسات شاملة تدمج بين التنمية البيئية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهذه السياسات يجب أن تكون بعيدة عن المصالح الشخصية والفئوية. الإصلاحات البيئية، مثل تنظيف الأنهار وحمايتها من التلوث، تتطلّب إدارة فعالة ورؤية مشتركة بين جميع الأطراف المعنية. نفس الشيء ينطبق على الإصلاح السياسي: الإصلاح يتطلّب إرادة سياسية قوية واستراتيجية واضحة تتجاوز المصالح الحزبية.
- الأمل في الإصلاح: الحفاظ على البيئة واستعادة السياسة السليمة.
كما أن هناك أملًا في إصلاح الأنهار وإعادتها إلى حالتها الطبيعية من خلال تنفيذ السياسات البيئية الفعالة، هناك أيضًا أمل في إصلاح النظام السياسي في لبنان من خلال تجاوز الطائفية والفساد. ولكن هذا يتطلّب إرادة سياسية جادة وقيادة حكيمة مستعدة للعمل لصالح الوطن بعيدًا عن المصالح الحزبية. لبنان بحاجة إلى استراتيجية شاملة للإصلاح البيئي والسياسي تقوم على العدالة والمساواة وحماية الموارد الطبيعية لمصلحة الأجيال القادمة. إذا تمكن لبنان من إصلاح أنهره وحل أزماته السياسية في نفس الوقت، فإن ذلك سيكون دليلاً على قدرة الدولة والشعب اللبناني على التعافي والتقدّم.
- الخاتمة: التوازي بين الأنهار والسياسة كمؤشّر للمستقبل.
في النهاية، يشكل التوازي بين تدهور الأنهار وتدهور الوضع السياسي في لبنان صورة حية عن الأزمة المركبة التي يعاني منها البلد. لا يمكن النظر إلى تدهور الأنهار بمعزل عن الفشل السياسي، كما لا يمكن معالجة الوضع السياسي دون الانتباه إلى البيئة والموارد الطبيعية، إذ إن الإصلاح في أي مجال من هذه المجالات يتطلّب إصلاحًا في المجالات الأخرى. بناء دولة قوية ومستدامة يحتاج إلى إعادة النظر في كل من النظام البيئي والنظام السياسي في لبنان، مع التأكيد على أن هذه الإصلاحات يجب أن تأتي من داخل البلد وبمشاركة الجميع.