. الياس ميشال الشويري
“لا شيء يقتل روح الإنسان مثل المكان الخطأ والأشخاص الخطأ“، هكذا صاغ دوستويفسكي واحدة من أكثر عباراته اختزالًا للمأساة الوجودية التي يمكن أن يعيشها الفرد حين يُحبس في واقع لا يشبهه. هذه الجملة، وإن خرجت من رحم الأدب الروسي، تبدو وكأنها كُتبت خصيصًا للبنان المعاصر. في بلد تتقاطع فيه الجغرافيا مع الطائفية، وتتصادم فيه العلاقات الاجتماعية مع الهشاشة النفسية، يتحول الإنسان إلى ضحية مزدوجة: يقتله المكان حين لا يوفر له أمانًا ماديًا أو رمزيًا، وتخذله العلاقات حين تُبنى على المصالح أو العنف الرمزي لا على التفاهم أو الحب.
لبنان، الذي كان يفترض أن يكون مساحة حُلم في شرقٍ مضطرب، أصبح سجنًا مفتوحًا لأرواح أنهكتها الأسئلة الكبرى: من أنا؟ لماذا أعيش هنا؟ ومع من؟ في هذا الوطن الصغير، تتجسد عبارة دوستويفسكي لا كفكرة تأملية بل كواقع يومي، يتكرر في تفاصيل الحياة: من المدرسة، إلى العمل، إلى البيت، إلى الشارع، إلى المؤسسات التي تُجرد الإنسان من كرامته، وتدفعه إما إلى الهجرة الجسدية أو إلى الانهيار الداخلي.
هذا البحث لا يكتفي بتحليل المقولة الفلسفية من منظور أدبي أو نفسي، بل يسعى إلى إسقاطها على المشهد اللبناني بكل تناقضاته. ينقسم إلى أربعة محاور متكاملة: الأول يستعرض اغتراب الروح داخل المكان الخاطئ، والثاني يتناول خيانة النفس من خلال الأشخاص الخطأ، والثالث يدرس تفكك الهوية في بيئة سامة، أما الرابع فيرصد كيف يمكن للروح أن تنجو رغم كل شيء. وبين كل سطر وسطر، يكمن سؤال جوهري: هل يمكن للإنسان أن يحيا دون أن ينتمي؟ وهل للنجاة معنى في وطن يُفقدك ذاتك قبل أن يُفقدك حياتك؟
- اغتراب الروح في المكان غير المناسب — لبنان كمسرح للنفور الوجودي
في لبنان، لا يُنظر إلى المكان كحضن حاضن للذات، بل كمصدر دائم للقلق والقلّة والاغتراب. المدينة التي وُعدت أن تكون «سويسرا الشرق» تحولت إلى ساحة حرب اقتصادية، وفوضى حضرية، واكتظاظ سكاني يضرب فيه الصخب كل معنى للسكينة. المكان، هنا، لا يمنح الإنسان طمأنينة، بل يفرض عليه قلقًا مزمنًا: من انقطاع الكهرباء، من انعدام الماء، من اختناق السير، ومن انهيار البنى التحتية. يسير المواطن اللبناني في مدينته وكأنها ليست له، لا ينتمي إليها بل ينجو منها يومًا بيوم، يراقب شوارعها المكسورة، يبتلع نفاياتها المرمية، ويتنقل في زحمة تشبه فوضى داخلية يصعب ترتيبها.
المكان في لبنان يفرض على الإنسان نمطًا وجوديًا مرهقًا: عليه أن يقاتل من أجل مقعد في جامعة، وظيفة بحد أدنى للأجور، أو حتى مستشفى تقبله إن مرض. المدن التي تُفترض أن تكون رحبة كالحلم صارت ضيقة كالكوابيس. من بيروت إلى طرابلس إلى صيدا، يواجه اللبناني مكانًا يُقصيه لا يحتويه. وهنا، لا يعني «المكان الخطأ» فقط الجغرافيا، بل النظام القائم الذي يجعل من أي حيّ أو منطقة أو بلدية امتدادًا لسلطة طائفية أو زبونية. المكان يصبح مسيّسًا ومشروطًا بالولاء، فإن لم تكن “من هناك” أو “من أهل فلان“، فأنت منبوذ، غريب حتى في مدينتك.
في هذا السياق، تتعمق معاناة الروح اللبنانية. تُولد الأجيال الجديدة في أمكنة مهجورة معنويًا، لا تراث يُنقذهم، ولا بنية تُنميهم، ولا أفق يمدهم بالأمل. من الطبيعي إذًا أن يحلم الشاب اللبناني بالهجرة لا حبًا في الغربة، بل كرهًا في موطنٍ لم يعرف كيف يحتضنه. يصبح الحنين شيئًا غامضًا، فإلى أي مكان يشتاق إذا لم يعرف يومًا طمأنينة فيه؟ المكان الخطأ في لبنان ليس صدفة؛ بل نتيجة نظام مقصود يدفع بالأرواح للتيه، ويجعل من الانتماء فعل مقاومة. هنا، الموت الروحي لا يحدث فجأة، بل عبر تراكم يومي من الإهمال، والسحق، والخذلان البنيوي.
- خيانة الروح عبر الأشخاص الخطأ — الطائفية والعلاقات المريضة في لبنان
في لبنان، العلاقات بين البشر تشكل شبكة معقدة من الولاءات والانتماءات المفروضة، لا الحرة. الإنسان لا يُرى كفرد بل كامتداد لعائلة، طائفة، زعيم. في هذا المناخ، تتكوّن شبكة اجتماعية سطحية ومصطنعة، تُبنى على المنفعة أو الخوف أو التبعية. من هنا، تترعرع الأرواح في بيئة غير آمنة، محاطة بأشخاص لا يدعمونها بل يُعيدون إنتاج القمع بشكل ناعم. الصداقة هنا قد تكون مشروطة بعدم قول الحقيقة، والزمالة مقرونة بالخضوع، والعائلة مقيدة بثقافة العيب والذنب والولاء القهري.
خيانة الروح تحدث عندما يُجبر الإنسان على محو ذاته ليحصل على القبول الاجتماعي. في لبنان، تفرض الشخصيات النرجسية والطائفية قبضتها على المجال العام والخاص على السواء. رئيس العمل يتعامل بفوقية، الوالد يتحدث من موقع امتلاك، الزعيم يستثمر بالعاطفة الجماعية، وحتى المعلم قد يُمارس سلطته باستعلاء لا بتنوير. الأشخاص الخطأ هنا ليسوا فقط الأفراد، بل البُنى النفسية والاجتماعية التي تصوغهم وتبرر أفعالهم. الروح تُخون حين تُضطر إلى الصمت على الظلم حتى داخل دوائرها الحميمة، من أجل “عدم كسر الخاطر“، أو “الخوف من الحكي“.
النتيجة؟ مجتمع مرهق عاطفيًا. أغلب الناس تمشي في الشارع منهكة، لا لأن أجسادها متعبة، بل لأن أرواحها مثقلة بعلاقات غير متوازنة، غير مُشبعة، بل مؤذية. من السهل أن نقول: “العلاقات فاسدة في لبنان“، لكن الأصعب أن نعترف أن كل فرد هو ضحية ومُعيد إنتاج في آنٍ واحد. العلاقات السامة لا تأتي فقط من الغرباء، بل من أقرب الأقربين. والمأساة أن اللبناني غالبًا ما لا يملك خيار المغادرة، فيستمر في العيش وسط دوائر محطّمة تقتل فيه الإبداع، الحرية، وحتى الرغبة في الحياة. خيانة الروح ليست صدمة مفاجئة، بل عملية نزف مستمر لا يُرى.
- الهوية كضحية للبيئة السامة — لبنان وتفكك الذات الجمعية
الهوية في لبنان هي إحدى أكبر ضحايا التداخل السام بين المكان والأشخاص. يولد الفرد ولا يُسأل “من أنت؟” بل “من أي طائفة؟ من أي منطقة؟ ابن مين؟”. هذه الأسئلة، التي تبدو بريئة، هي في الحقيقة أدوات تصنيف خانقة تسبق الجوهر وتعطل نموه. في بيئة كهذه، لا يُسمح للإنسان أن يختار نفسه، بل يُفرض عليه أن يكون كما يريد المجتمع. الهوية هنا لا تنمو بل تُصنع قسرًا، وتُضبط بمقاييس موروثة: الدين، التبعية السياسية، الشكل الخارجي، وحتى طريقة التفكير.
الشاب اللبناني الذي يحلم بالفن قد يُجبر على دراسة الحقوق، والفتاة التي تتطلع للعلم قد تُقمع باسم الزواج والدور التقليدي. كل رغبة في التعبير عن الذات تُواجَه بسؤال استنكاري: “شو بفيد هالشي ببلدنا؟”. النتيجة؟ أجيال تتخرّج بشهادات لا تحبها، وتعمل بوظائف لا تشبهها، وتعيش حيوات لا تخصها. تتآكل الهوية الحقيقية لصالح نسخ مكررة ومتوقعة من الناس. والأسوأ أن هذا التدمير للهوية لا يُعد ظلمًا في أعين المجتمع، بل يُقدَّم كنوع من “الحكمة الواقعية“.
في النهاية، تضيع الذات اللبنانية بين صور متضاربة. هل هو عربي؟ غربي؟ متدين؟ علماني؟ وطني؟ مغترب؟ الكل يعيش بين هذه المتناقضات دون أن يُسمح له بامتلاك نسخته الخاصة. الهوية تتحول إلى لعبة تكيّف وتخفٍّ، وليس فعل وعي وتعبير. الفرد يضطر إلى ارتداء أقنعة متعددة في اليوم الواحد: في الجامعة شيء، في العمل شيء، في المنزل شيء ثالث. حين تُجبر على العيش في دور لا يشبهك، فإنك لا تموت مرة واحدة، بل ألف مرة في اليوم. لبنان بهذا المعنى، ليس فقط بلدًا منهارًا اقتصاديًا، بل مختبرًا حيًا لانهيار الذات تحت وطأة محيط لا يفهمها ولا يحتملها.
- كيف ننجو؟ آليات الهروب وإعادة بناء الروح — النجاة كفعل مقاومة في لبنان
في لبنان، لا تُمنح النجاة بسهولة. النجاة هنا ليست رفاهية نفسية بل مقاومة فعلية ضد واقع يومي خانق. تبدأ رحلة النجاة من لحظة الوعي: حين يدرك الإنسان أنه في المكان الخطأ، ومع الأشخاص الخطأ. هذا الاعتراف بحد ذاته ثورة داخلية، لأنه غالبًا ما يصطدم بعقبات اجتماعية، دينية، وأخلاقية ترغمه على “الصبر“، و”الرضا“، و”الخنوع“. الوعي الأوليّ بهذه المأساة هو كسر لدوامة القبول الإجباري، وتأسيس لمسار داخلي نحو التحرر. لكنها خطوة محفوفة بالوحدة، فالناجي في لبنان غالبًا ما يُتهم بالتمرد، أو الكفر بالجميل، أو بالعُقوق المجتمعي.
ثم تأتي الخطوة التالية: الرحيل أو الانفصال أو الانكفاء المؤقت. قد تكون عبر مغادرة البلاد، أو ترك الوظيفة، أو قطع العلاقات السامة، أو حتى الانعزال لإعادة بناء الذات. في هذا السياق، نرى أن الهجرة الجماعية من لبنان ليست فقط هروبًا اقتصاديًا، بل شكل من أشكال إنقاذ الروح. كثيرون وجدوا في البعد الجغرافي فرصة لالتقاط الأنفاس، لإعادة التفكير، لترميم الذات بعيدًا عن ضغط العائلة أو السرديات الطائفية. ولكن حتى لمن لا يستطيعون المغادرة، هناك إمكانية للنجاة من خلال إعادة هيكلة العلاقات، وبناء مساحات آمنة داخل المجتمع المنهك، ولو كانت صغيرة أو مؤقتة.
النجاة في لبنان أيضًا تعني خلق مجتمع بديل، حتى لو كان افتراضيًا، فكريًا، أو فنيًا. هناك جيل جديد يحاول تأسيس معنى جديد للانتماء: مجموعات شبابية ترفض التقسيم، مساحات فنية تشبه الداخل لا الخارج، مبادرات فردية تحاول زرع ضوء في العتمة. هذا الجيل لا ينتظر إصلاح الدولة، بل يبني ذاته بنفسه. قد تكون هذه المحاولات بسيطة، هشة، متفرقة، لكنها تُشكل بداية استعادة النفس. النجاة ليست عودة إلى ما كان، بل خَلق لما يجب أن يكون. وفي لبنان، حيث يُعتبر الحلم نوعًا من الترف، فإن من ينجو ليس فقط من أنقذ روحه، بل من أثبت أن الإنسان لا يُختزل في محيطه، بل يستطيع تجاوزه.
- الخاتمة: لبنان كمختبر حي لمقولة دوستويفسكي
“لا شيء يقتل روح الإنسان مثل المكان الخطأ والأشخاص الخطأ” ليست فقط عبارة فلسفية نُقلت عن دوستويفسكي، بل مرآة صادقة لمأساة اللبناني اليوم. في وطن لا يُشبه أهله، ولا يُنصف مواطنيه، يعيش الإنسان في صراع دائم بين ما هو عليه وما يُفرض عليه. يُقهر في مكانه، ويُخذل من محيطه، ويُحرم من أن يكون ذاته. كل يوم في لبنان هو اختبار لبقاء الروح، هو مفترق طرق بين التعايش مع القهر أو الفرار منه. وفي كل الحالات، تبقى الخسارة الكبرى هي فقدان الإنسان لنفسه دون أن يدرك ذلك.
لكن ورغم هذا المشهد القاتم، لا يمكن إغفال حقيقة أن الكثيرين يرفضون الموت الروحي بصمت. هناك من يثور، من يكتب، من يُغني، من يسافر، من يعزل نفسه، من يعالج جروحه سرًا. هؤلاء لا يُرَوْن بسهولة، لكنهم موجودون. إنهم يشكّلون مقاومة صامتة ضد آلة الطحن الجماعية. في وطن يشبه مقصلة للمعنى، فإن كل فعل للتمسك بالهوية هو فعل بطولة. وكل من يصر على أن يكون حيًا من الداخل رغم الخراب الخارجي، يستحق أن يُسمّى ناجيًا لا مجرد مواطن.
ربما لا يمكننا تغيير المكان على الفور، ولا اختيار من حولنا دائمًا، لكن يمكننا أن نُبقي شعلة الوعي مشتعلة. يمكننا أن نقول: “أنا أستحق مكانًا يشبهني“، “أستحق أن أُحب من دون خوف“، “أستحق أن أكون أنا“. من هذا الوعي يبدأ التحرر، ومن هذا التمرد يبدأ الشفاء. لعل لبنان، رغم كل جراحه، يصبح يومًا ما مكانًا لا يقتل الروح، بل يحتضنها. حتى ذلك الحين، يظلّ خيار النجاة الروحية فعلًا فرديًا شجاعًا، يُكتب على حافة الوجع، لكنه لا يُمحى من ذاكرة الكرامة.