الفساد مستمر و العبّارات تستمر في الغرق
د. الياس ميشال الشويري
في زمن قريب ليس ببعيد، كان هناك مالك لعبّارة يعمل على نقل الناس بين ضفتي النهر. كانت عبّارته تتسع لمائة شخص ليس أكثر، وكان في كل يوم ينقل الناس ذهابًا وإيابًا ويجني من ذلك ربحًا طائلًا مقارنة بغيره. وفي يوم من الأيام، جاءه أحد الرجال الفاسدين وأقنعه بأن يحمل مائتي شخص في الرحلة الواحدة بدلاً من المائة شخص، ويقطع المسافة ذاتها مرة واحدة مقابل ضعف الأجر. فغرّه الطمع، وأخذ بنصيحة الفاسد رغم تحذيرات العقل. لكن، ما حدث كان مأساويًا. لم تستطع العبّارة أن تواصل السير، واستقرّت في قاع النهر وعلى متنها أرواح مائتي إنسان. كانت النهاية مأساوية، فالرغبة في المزيد من الربح كانت السبب في فشل الرحلة وفي فقدان الأرواح.
وفي النهاية، يُقال: “عزيزنا، إذا استطعت أن تقنع الذباب أن الورود والزهور أفضل من القمامة، حينها يمكنك إقناع الفاسدين أن أرواح الناس أغلى من المال؛ وأما قمة الفساد فهي في فساد القمة نفسها”.
تحليل القصة من المنظور اللبناني
تحليل القصة من المنظور اللبناني يتطلّب النظر في الظروف الاجتماعية والسياسية التي يعيشها لبنان، حيث تبرز القصة جوانب متعددة تعكس الواقع اللبناني المعاصر، وتُحاكي قضايا فساد مستشرٍ وتخريب اقتصادي يؤثّر في حياة المواطنين. وفيما يلي تحليل القصة عبر عدة محاور:
1. الطمع والفساد المستشري في لبنان
القصّة تسلّط الضوء على الطمع الذي دفع مالك العبارة إلى اتخاذ قرار متهوّر وغير مدروس في محاولة لتحقيق مكاسب سريعة. هذا يُحاكي الفساد المستشري في لبنان حيث يتخّذ المسؤولون، اذا جاز التعبير، قرارات آنية تهدف إلى تحقيق مصلحة شخصية أو فئوية على حساب المصلحة العامة. مثلما قرر مالك العبارة زيادة عدد الركاب لزيادة الأرباح، نجد أن البعض في لبنان يعتمد على اتخاذ قرارات اقتصادية غير مدروسة، مثل زيادة الدين العام أو منح امتيازات اقتصادية للأثرياء على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
2. الإهمال في اتخاذ القرارات
على غرار مالك العبارة الذي قرّر تحميلها بما لا يمكن تحمّله دون التفكير في العواقب، نجد أن المنظومة السياسية في لبنان، الفاسدة بامتياز، في كثير من الأحيان تُصدر قرارات دون تخطيط سليم أو دراسة كافية للنتائج. مثل هذا الإهمال في اتخاذ القرارات ينطبق على سياسات لبنان في التعامل مع الأزمات المالية والاقتصادية، حيث كانت هناك وعود بإصلاحات اقتصادية ولكنها لم تُنفّذ، ممّا ساهم في تدهور الوضع المالي والاقتصادي.
3. تأثير الفساد في السلطة
الرجل الفاسد الذي أقنع مالك العبارة بحمل مائتي شخص كان يمثّل المنظومة الفاسدة التي تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة على حساب الشعب. في لبنان، كثيرًا ما تُتخذ القرارات من قبل منظومة حقيرة متمسكة بمناصبها، بغض النظر عن عواقب تلك القرارات على الشعب. مثلما غُرّر بمالك العبارة، يُغَرّر بلبنان والشعب اللبناني بوعود كاذبة ومشاريع زائفة تهدف إلى الاستفادة من الوضع الراهن، وتُفشل في النهاية بسبب سوء الإدارة أو الفساد المستشري في القمة.
4. غياب المساءلة والشفافية
عندما غرقت العبارة بسبب تجاوزها للقدرة الاستيعابية، يعكس ذلك كيف يمكن لغياب المساءلة والرقابة أن يؤدي إلى كارثة. في لبنان، يعاني الشعب من غياب الشفافية والمحاسبة في كل القطاعات: من الاقتصاد إلى السياسة. القرارات التي يُتخّذ بعضها في أعلى المستويات، وتُنفّذ دون النظر في التأثيرات السلبية، تجعل المجتمع عالقًا في دوامة من الأزمات المتفاقمة.
5. عدم التفريق بين المصلحة العامة والمصالح الشخصية
مالك العبارة كان يرى في زيادة الركاب فرصة لتحقيق ربح مادي سريع، ولكن لم يُراعِ المصلحة العامة أو سلامة الركاب. هذا يشبه ما يحدث في لبنان حيث يُفضّل السياسيون الفاسدون المصالح الشخصية أو الطائفية على حساب مصلحة البلد والشعب. الفساد الذي يعصف بالبنية السياسية اللبنانية يجعل من الصعب تحقيق أي نوع من الإصلاحات الحقيقية التي تصّب في مصلحة الوطن والمواطن.
6. العدالة الاجتماعية والاقتصادية
في النهاية، تظهر القصة كيف أن الطمع من جهة وغياب الوعي من جهة أخرى يمكن أن يقود إلى المآسي. في لبنان، لا يتّم توزيع الثروات أو الفرص بشكل عادل، حيث يستفيد البعض من فساد المنظومة بينما يُحرم الفقراء من حقوقهم. وفي الوقت الذي يفقد فيه الناس حياتهم بسبب هذه السياسات المتهورة، يبقى القليلون في السلطة يحتفظون بمكانتهم ويواصلون استغلال الوضع.
العبرة من القصة
العبرة من القصة تكمن في التحذير من الطمع والتهوّر في اتخاذ القرارات، وكذلك في أهمية التفكير في العواقب قبل اتخاذ أي خطوة. ففي القصة، الطمع في زيادة الأرباح السريعة أدّى إلى كارثة غير متوقعة، كما أن غياب الوعي بمسؤوليات المال والسلطة أسفر عن خسائر فادحة.
من خلال هذه القصة، نتعلم أن:
· الطمع يمكن أن يؤدي إلى الهلاك: الرغبة في تحقيق مكاسب فورية قد تؤدي إلى عواقب وخيمة إذا لم يتم التقدير الصحيح للأمور.
· ضرورة الموازنة بين الربح والمخاطر: في الحياة، كما في القصة، يجب موازنة المكاسب مع الأخطار المحتملة. زيادة الأرباح يجب ألا تكون على حساب الأمان والاستدامة.
· أهمية المسؤولية عند اتخاذ القرارات: في المجتمع أو الدولة، القرارات المتهورة التي تتخذها الجهات المسؤولة قد تضر بالبشر والمجتمع ككل.
· الفساد وسوء إدارة السلطة يؤديان إلى الخراب: عندما تتفشى الأنانية والفساد، ويغيب الضمير، تتعرض المصلحة العامة للخطر، ويكون الثمن باهظًا.
· الحكمة في قيادة المجتمعات: القيادة الحكيمة لا تأتي من اتخاذ قرارات سريعة لتحقيق المكاسب، بل من أخذ الوقت لتقدير الأمور ومحاسبة العواقب على المدى الطويل.
باختصار، القصة تعلمنا أنه لا يمكن التضحية بالمبادئ الأساسية مثل الأمان والعدالة من أجل تحقيق مكاسب سريعة، وأن اتخاذ القرارات بحكمة ومسؤولية هو السبيل للحفاظ على الاستقرار والتقدم.
الخاتمة
القصة التي نُقلت تُعّد مرآة عاكسة للواقع اللبناني الحالي، حيث تتجسّد فيها أبرز المشاكل التي يعاني منها لبنان: الطمع، الفساد، القرارات غير المدروسة، وسوء الإدارة. هذه العوامل، التي عادة ما تكون مدفوعة بالأنانية والرغبة في تحقيق مكاسب قصيرة المدى، تؤدّي إلى عواقب كارثية على المدى الطويل، كما حدث مع مالك العبارة الذي حدّد طموحًا غير واقعي بزيادة الأرباح على حساب الأمان والسلامة. وفي سياق لبنان، نجد أن هذه القرارات المتهورة قد تسببّت في انهيار اقتصادي غير مسبوق، قوّض استقرار البلاد، وأدّى إلى تدهور معيشة المواطنين.
أ. الطمع والفساد
في لبنان، لا يقتصر الطمع على الأفراد أو الشركات فحسب، بل يمتد ليشمل طبقات السلطة. بعض القادة السياسيين يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة من خلال استغلال المناصب والمواقع، دون أن يأخذوا في الحسبان عواقب قراراتهم على الشعب. مثلما سعى مالك العبارة لتحقيق الربح السريع، نجد أن بعض السياسيين اللبنانيين يهدفون إلى مكاسب فورية من خلال الصفقات المشبوهة أو الدعم الأجنبي، مما يضعف الهيكل الاقتصادي والاجتماعي للدولة. إن الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص قد يؤدي إلى انهيار النظام بأكمله، كما حدث في حادثة العبارة، حيث كان الطمع هو العامل الذي قاد إلى الكارثة.
ب. القرارات غير المدروسة
لبنان يعاني من غياب التخطيط الاستراتيجي والمستدام. القرارات الاقتصادية، مثل الانغماس في الديون أو التراخي في الإصلاحات الهيكلية، تُتخذ دون مراعاة للتداعيات المستقبلية. وعندما يتم اتخاذ القرارات بناءً على مصالح آنية أو ضغوط سياسية، يمكن أن تظل البلاد عالقة في دوامة من الأزمات التي لا تنتهي. كما أن كثيرًا من المشاريع الحكومية يُفترض أن تكون لتطوير البنية التحتية أو تحسين الوضع المعيشي، ولكنها غالبًا ما تنحرف نحو تأمين مصالح القلة على حساب العامة.
ج. الفساد المؤسسي
أحد أبرز مشاهد الفساد في لبنان هو تغلغل الفساد في المؤسسات العامة والخاصة على حد سواء. لا تقتصر المشاكل على قلة الكفاءة في المؤسسات الحكومية، بل تشمل أيضًا الهدر في المال العام، والتلاعب بالعقود، واستغلال المناصب لأغراض شخصية. وبالطريقة نفسها التي تضررت فيها العبارة بسبب تحميلها بما لا يمكن تحمله، يعاني لبنان من حملات فساد في جميع مؤسساته التي أثقلت كاهل الدولة. الاستفادة الشخصية على حساب المصلحة العامة أصبحت ثقافة سائدة، مما يجعل الإصلاح أمرًا شبه مستحيل في غياب الإرادة السياسية الحقيقية.
د. هل سيظّل لبنان عالقًا في نفس الدوامة؟
هذا السؤال يُطرح بشكل مستمر في الساحة السياسية اللبنانية، مع تفشّي الأزمات التي تعصف بالبلاد. الفشل في تحقيق الإصلاحات الفعالة والملموسة يؤدّي إلى حالة من الجمود السياسي والاقتصادي، ممّا يزيد من تأزّم الوضع الاجتماعي. الشعب اللبناني يعاني من فقدان الأمل في قدرة النظام على الإصلاح، ويشعر بالخذلان من الطبقات السياسية التي تظّل متشبثة بمناصبها وامتيازاتها.
ومع ذلك، هناك إشارات خافتة تشير إلى إمكانية التغيير، سواء من خلال الاحتجاجات الشعبية التي تطالب بإصلاح حقيقي، أو من خلال الضغوط الدولية على الحكومة اللبنانية لتحسين الشفافية ومحاربة الفساد. لكن التحدّي يبقى في كيفية تحويل هذه الطموحات إلى واقع ملموس، في ظل غياب المحاسبة الحقيقية، وضعف المؤسسات التي يجب أن تكون قادرة على محاربة الفساد.
ه. لبنان بين مفترق الطرق: هل يحمل عهد الرئيس جوزاف عون وحكومة الرئيس نواف سلام بارقة أمل؟
في لبنان، كما في القصة، يبقى السؤال الجوهري مطروحًا: هل سيتمكّن هذا البلد، الذي يعاني من أزمات متفاقمة، من الخروج من الحلقة المفرغة من الفساد والطمع، والاتجاه نحو الإصلاحات الحقيقية مع حكومة دولة الرئيس نواف سلام، التي نعوّل عليها كثيرًا؟ أم أن التوازنات الطائفية والسياسية ستظل تقيّد أي محاولة جادة للتغيير، كما حصل في العديد من العهود السابقة؟
و. الإصلاحات المطلوبة ومعوّقات التنفيذ
الإصلاحات في لبنان ليست خيارًا بل ضرورة مصيرية، تتطلّب أولًا الإرادة السياسية الحقيقية، وهي للأسف عنصر نادر في المشهد اللبناني، حيث تتشابك المصالح الحزبية والطائفية لتُعرقل أي مسار إصلاحي قد يهدد الامتيازات القائمة. ومن دون آليات واضحة للشفافية والمساءلة، سيظل الحديث عن العدالة والتنمية المستدامة مجرد شعارات جوفاء لا تجد طريقها إلى التنفيذ.
ز. عهد الرئيس جوزاف عون: فرصة لاستعادة الدولة؟
مع وصول العماد جوزاف عون إلى سدة الرئاسة، تلوح في الأفق فرصة نادرة لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس أكثر صلابة. فالرئيس عون، القادم من المؤسسة العسكرية، يتمتع بخبرة في ضبط الأمن وإدارة الأزمات، وهو ما قد يساعد في فرض هيبة الدولة وكبح جماح القوى التي اعتادت استباحة مؤسساتها. لكن التحدي الأكبر يكمن في مدى قدرته على التحرر من الضغوط السياسية التي لطالما كبّلت رؤساء الجمهورية السابقين. فهل يستطيع، من خلال التنسيق مع حكومة نواف سلام، أن يضع لبنان على سكة الإصلاح الفعلي؟
ح. حكومة نواف سلام: رهان على الكفاءة والشرعية الدولية
يشكّل تكليف نواف سلام برئاسة الحكومة بارقة أمل، إذ إنه شخصية تمتاز بالكفاءة والنزاهة، إلى جانب تمتعه بعلاقات دولية قد تسهم في إعادة ثقة المجتمع الدولي بلبنان، ما يفتح الباب أمام دعم اقتصادي مشروط بالإصلاحات. وتواجه حكومته تحديات هائلة، من إعادة هيكلة الاقتصاد المنهار، إلى استعادة أموال المودعين، مرورًا بإصلاح القضاء ومكافحة الفساد، وهي ملفات شائكة اصطدمت كل الحكومات السابقة بجدار المصالح السياسية المتحكمة بها.
ط. ما المطلوب لتحقيق الإصلاحات؟
لا يمكن تحقيق الإصلاحات في ظل استمرار النخبة السياسية الحالية بممارساتها التقليدية. من هنا، يصبح الضغط الشعبي عنصرًا أساسيًا في معادلة التغيير، حيث يجب أن يستمر اللبنانيون في المطالبة بحقوقهم، رافضين أي محاولات لتمييع الإصلاحات أو الالتفاف عليها. كذلك، فإن تفعيل دور المجتمع المدني، بالتوازي مع الضغوط الدولية، قد يساهم في فرض مسار إصلاحي حقيقي، لا يكون مجرد إجراء تجميلي لشراء الوقت كما جرت العادة.
في الختام، على الرغم من كل التحديات، يبقى الأمل في التغيير قائمًا، فلبنان لطالما أثبت أنه قادر على النهوض من الأزمات، شرط أن تتوافر الإرادة الحقيقية لذلك. عهد الرئيس جوزاف عون وحكومة نواف سلام يشكّلان فرصة ثمينة قد لا تتكرر، فإما أن ينجحا في كسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها لبنان منذ عقود، وإما أن يكونا شاهدين على مرحلة جديدة من الانهيار. الكرة اليوم في ملعب السلطة، لكن الشعب يبقى الحكم النهائي على نجاح أو فشل هذه المرحلة المصيرية.