من دون تعليق
د. الياس ميشال الشويري
ظاهرة مقتل الأبرياء نتيجة الرصاص الطائش ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات اجتماعية وسياسية وثقافية متشابكة في المجتمع اللبناني. اجتماعيًا، يعكس استخدام السلاح العشوائي ثقافة متجذرة ترى في إطلاق النار وسيلة للتعبير عن الفرح أو الحزن، ممّا يجعل السلاح جزءًا من التقاليد الشعبية. سياسيًا، يبرز ضعف الدولة في فرض سيطرتها على جميع المناطق اللبنانية، حيث تنتشر الميليشيات والأسلحة غير المرخصة في غياب فعّال للأجهزة الأمنية. ثقافيًا، يعاني لبنان من غياب الوعي المجتمعي حول مخاطر هذه الظاهرة، إذ تُعتبر في بعض الأحيان تعبيرًا عن الانتماء أو الرجولة، في ظل غياب حملات توعية فعّالة تدعو إلى نبذ هذه الممارسات الخطرة.
إن ضعف سيادة القانون وغياب الرقابة الصارمة على استخدام السلاح، سواء المرخص أو غير المرخص، يفتحان المجال أمام هذه الحوادث لتتكرّر دون محاسبة فعلية. غالبًا ما تُغلَّف هذه الجرائم بحماية سياسية أو طائفية تحول دون معاقبة الجناة، ممّا يعزّز ثقافة الإفلات من العقاب. بالإضافة إلى ذلك، تفتقر الأجهزة الأمنية إلى الموارد الكافية والإرادة السياسية لمواجهة انتشار السلاح العشوائي، ممّا يجعل المجتمع رهينة للفوضى الأمنية. إن هذه العوامل تبرز الحاجة إلى إعادة بناء الدولة على أسس قانونية صلبة قادرة على فرض سيطرتها وضمان سلامة المواطنين ومصادرة الأسلحة غير الشرعية بين الغوغائيين!
1- السياق التاريخي والأمني.
عانى لبنان لعقود من الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة، التي خلفت إرثًا ثقيلًا من الفوضى الأمنية وانتشار السلاح غير الشرعي. مع انتهاء الحرب الأهلية في عام 1990 وتوقيع اتفاق الطائف، كان من المتوقّع أن يتحقّق الاستقرار الأمني، إلا أن غياب التطبيق الصارم للاتفاقيات وعدم نزع السلاح من الميليشيات أدّيا إلى استمرار الفوضى.
بعد كل وقف لإطلاق النار، تنتشر مظاهر الفرح بإطلاق الرصاص العشوائي، وهو سلوك يعكس عدم إدراك خطورته على المدنيين الأبرياء. هذه الظاهرة لم تعد مرتبطة فقط بالمناسبات الأمنية والسياسية، بل امتدت إلى الاحتفالات الشعبية كالأعراس والمناسبات الاجتماعية، ممّا يعزّز الفوضى وغياب الأمان.
2- الأسباب الاجتماعية والثقافية.
-انتشار السلاح والثقافة الشعبية: تعدّ الأسلحة النارية في بعض المجتمعات اللبنانية رمزًا للقوّة والهيبة، ممّا يعزّز انتشارها واستخدامها في المناسبات المختلفة. كثير من المناطق تحتفظ بتقاليد إطلاق الرصاص في الأفراح والأتراح، ما يعكس ثقافة مجتمعية ترى في هذا السلوك وسيلة للتعبير عن المشاعر.
-ضعف التوعية: البرامج التعليمية والتوعوية حول مخاطر استخدام السلاح العشوائي تكاد تكون معدومة. ويزيد من تفاقم المشكلة غياب الحملات الإعلامية الفعالة التي ترفع الوعي بأهمية حماية الأرواح والامتناع عن هذه الممارسات.
-التراخي في تطبيق القانون: يُلاحظ أن ضعف الرقابة الأمنية والتسامح مع المخالفين يشجعان على الاستمرار في هذه الممارسات. في كثير من الأحيان، تُغلق ملفات القضايا المتعلقة بإطلاق الرصاص الطائش دون محاسبة، ممّا يعزّز مناخ الإفلات من العقاب.
3- الآثار الإنسانية والاجتماعية.
-خسائر بشرية مؤلمة: مقتل الأبرياء نتيجة الرصاص الطائش يمثّل خسارة فادحة لعائلات الضحايا الذين يعيشون معاناة مستمرة. هناك قصص مؤلمة لأطفال فقدوا حياتهم أثناء اللعب أو لأشخاص فقدوا أحبائهم في مناسبات كانت من المفترض أن تكون مفرحة.
-زعزعة الأمن المجتمعي: تساهم هذه الظاهرة في ترسيخ الشعور بعدم الأمان لدى المواطنين، حتّى في الأوقات التي يفترض أن يسودها السلام. يعيش الكثيرون في خوف دائم من احتمال وقوع ضحايا جدد، ممّا يؤدّي إلى تراجع الثقة في المؤسسات الأمنية.
-تأثير نفسي طويل الأمد: الناجون وعائلات الضحايا يعانون من صدمات نفسية طويلة الأمد، تتجلّى في اضطرابات ما بعد الصدمة والقلق المستمر، ممّا يؤثّر على حياتهم اليومية وقدرتهم على التعايش مع الحوادث.
4- دور الدولة والمؤسسات.
-ضعف التشريعات: رغم وجود قوانين تمنع حيازة الأسلحة النارية دون ترخيص، فإن تطبيق هذه القوانين يظل ضعيفًا. كثير من الأسلحة غير المرخصة تنتشر في الأيدي دون رقابة كافية، ما يشجّع على استخدامها في المواقف العشوائية.
-غياب الردع: الأجهزة الأمنية والقضائية في كثير من الأحيان لا تلاحق مطلقي النار بالشكل الكافي. في بعض الحالات، تُمارس ضغوط سياسية وطائفية لمنع ملاحقة المتورطين، ممّا يقوّض هيبة القانون ويشجّع على تكرار الانتهاكات.
-دور المجتمع المدني: تعد منظمات المجتمع المدني لاعبًا مهمًا في تعزيز الوعي بالمخاطر، لكنها بحاجة إلى دعم أكبر من الدولة لتنفيذ برامج توعية فعالة على مستوى وطني.
5- الحلول المقترحة.
-تعزيز سيادة القانون: يجب أن تُشدد العقوبات على كل من يحمل أو يستخدم السلاح بشكل عشوائي، مع التأكيد على ضرورة تنفيذ الأحكام بحق المخالفين دون استثناءات أو ضغوط سياسية.
-إطلاق حملات توعية: يجب أن تقوم الدولة بالتعاون مع الإعلام ومنظمات المجتمع المدني بحملات توعية وطنية تهدف إلى تغيير الثقافة المرتبطة بإطلاق الرصاص الطائش.
-تعزيز دور المؤسسات الأمنية: ينبغي توفير الدعم اللازم للأجهزة الأمنية لضبط انتشار السلاح غير الشرعي وملاحقة مرتكبي هذه الجرائم بفاعلية.
-إشراك القيادات الدينية والمجتمعية: يمكن للزعامات الدينية والمجتمعية أن تلعب دورًا مؤثرًا في توجيه المجتمع نحو نبذ استخدام السلاح العشوائي واعتباره عملًا غير أخلاقي وغير إنساني.
6- الخاتمة.
ظاهرة مقتل الأبرياء بالرصاص الطائش ليست مجرّد حوادث فردية، بل هي انعكاس لواقع مأزوم يعاني منه المجتمع اللبناني، حيث الفوضى الأمنية وغياب سيادة القانون يشكلان بيئة خصبة لاستمرار هذه الكارثة. كل ضحية تسقط برصاص عشوائي تضاف إلى سجل طويل من الخسائر الإنسانية التي تفاقم الشعور بالعجز وتعمّق الجراح النفسية والاجتماعية. الرصاص الطائش هو عنوان لفوضى تتجاوز الفردية إلى أزمة أوسع، تتمثّل في انتشار السلاح غير الشرعي وغياب المحاسبة الفاعلة. في بلدٍ يفترض أنه تجاوز أزمنة الحروب، تصبح مثل هذه الحوادث علامة خطيرة على استمرار الانفلات الأمني، حيث تتحوّل المناسبات السعيدة إلى مآتم وتغدو الشوارع ساحات للرعب بدل الأمان.
إن استمرار ظاهرة الرصاص الطائش يشير إلى حاجة ملحّة لتكاتف جهود الدولة والمجتمع معًا لوقف نزيف الأرواح البريئة. لا يمكن معالجة هذه الظاهرة إلا من خلال إعادة تفعيل سيادة القانون عبر تشديد العقوبات على مرتكبي هذه الجرائم وتطبيقها دون تهاون أو استثناءات، مهما كانت الضغوط السياسية أو الطائفية. في الوقت ذاته، فإن التوعية الشاملة للمجتمع بدور الإعلام والمؤسسات التعليمية والدينية باتت ضرورية لإحداث تغيير جذري في الثقافة السائدة، بحيث يتحوّل إطلاق الرصاص من عادة مقبولة إلى جريمة مدانة اجتماعيًا وقانونيًا. بدون هذا التكاتف، ستبقى هذه الظاهرة وصمة عار تلاحق لبنان، وستستمر أرواح الأبرياء في السقوط بلا ذنب سوى وجودها في مجتمع لم يتمكّن بعد من فرض سيادة القانون وحماية أبنائه.