صورة الكاتب الأميركي
هاري فوسديك، الكاتب الأميركي والمفكر الديني، عبّر في مقولته “أسوأ ما في الحرب أننا نستخدم أفضل ما لدينا من أجل ممارسة أكثر الأفعال بشاعة” عن المفارقة العميقة في الحروب والصراعات. فبينما تُحفّز الحرب المجتمعات على تسخير مواردها وأفضل أفرادها لخوضها، فإن ما ينتج عن هذه الجهود هو الدمار والخراب، أي أسوأ مظاهر البشرية. في هذا المقال، سنقوم بتحليل المقولة وربطها بالأحداث الجارية في لبنان، البلد الذي شهد ولا زال العديد من الصراعات والتي تركت آثارًا عميقة على المجتمع والدولة.
1- تحليل المقولة.
-الحرب وتوجيه الموارد البشرية والمادية. تعكس هذه المقولة الوجه المظلم للحروب، حيث تقوم المجتمعات بتجنيد أفضل مواردها البشرية والمادية في سبيل تحقيق أهداف عسكرية أو سياسية. على سبيل المثال، تُسخر التكنولوجيا المتقدمة، كما يُسخّر العلماء المبدعون، والشباب الطموحون من أجل إنتاج أسلحة دمارٍ هائلة، تُستخدم لتدمير البنى التحتية وقتل الأبرياء. هذه المفارقة تضعنا أمام تساؤلات عميقة حول معنى الحرب ودورها في انحراف الإنسانية عن مسارها الحقيقي.
-إهدار الطاقات البشرية. أحد أكثر الأمور إثارة للسخط في الحروب هو كيفية استخدام الطاقات البشرية الهائلة. فالجنود الذين يُعتبرون من أنبل أفراد المجتمع، يتم تدريبهم على القتل بدلًا من البناء، ويُرسلون لخوض معارك تترك وراءها الخراب والموت. هذه المفارقة المؤلمة تشير إلى أن المجتمعات تسخّر أفضل ما لديها لممارسة أبشع الأفعال.
-البشاعة الناتجة عن الحروب. نتائج الحروب دائمًا ما تكون بشعة، سواء على مستوى القتلى والجرحى، أو على مستوى تدمير الحضارة والاقتصاد. وفي النهاية، تؤدي الحروب إلى تفكيك المجتمعات وزرع الفتنة والكراهية بين الناس، مما يخلق أجيالًا تعاني من صدمات نفسية واجتماعية يصعب التعافي منها.
2- لبنان: نموذج للصراع المستمر.
لبنان هو مثال حيّ لهذه المفارقة التي أشار إليها فوسديك. رغم أنه بلد صغير يتمتع بتنوع ثقافي وديني وحضاري، إلا أنه شهد العديد من الحروب والصراعات التي أثرت بشكل كبير على موارده البشرية والاقتصادية. الحروب الأهلية، والاعتداءات الخارجية، والنزاعات الداخلية على السلطة، كلها أدت إلى تدهور لبنان من بلد كان يعتبر “سويسرا الشرق” إلى بلد يعاني من الفقر والانهيار الاقتصادي.
–تسخير الموارد في النزاعات. في لبنان، تم تسخير قدرات البلد عبر السنوات لخوض حروب وصراعات أهلية وداخلية. الحروب الأهلية، على سبيل المثال، لم تكن فقط صراعًا على السلطة، بل أهدرت أيضًا الكثير من الموارد البشرية والمادية. الآلاف من الشباب اللبنانيين، الذين كان يمكن أن يكونوا قادة ومبدعين في مجالات مثل العلوم والفن والاقتصاد، تم تجنيدهم في ميليشيات، وتحولت حياتهم إلى معارك وصراعات مدمرة.
–الفساد السياسي وتدمير الطاقات. بعد الحروب، بدلاً من أن يتوجّه لبنان نحو إعادة البناء والاستقرار، تفاقم الفساد السياسي والاقتصادي، مما جعل الطاقات الشابة تفقد الأمل في بناء مستقبل أفضل. هذه السياسات الفاشلة استنزفت الموارد الاقتصادية للبلاد وأدت إلى هجرة العقول، حيث غادر العديد من الكفاءات لبنان بحثًا عن فرص أفضل في الخارج.
–الأزمات الإنسانية والاقتصادية. اليوم، يعاني لبنان من أزمة اقتصادية خانقة، نتيجة لعقود من الفساد والحروب. يُظهر هذا الوضع كيف أن الحروب والصراعات قد تقضي على إمكانات بلدٍ كامل. فالانهيار المالي وارتفاع نسب البطالة جعل الكثيرين يعيشون في حالة من البؤس والفقر المدقع. بدلاً من توجيه الجهود نحو التعليم، الصحة، والبنية التحتية، تم استنزاف موارد البلاد في صراعات عقيمة.
3- الحاجة إلى تغيير النهج.
من أجل تجاوز هذه المأساة المستمرة، يحتاج لبنان إلى تغيير جذري في طريقة تفكيره وإدارة موارده. بدلاً من تسخير أفضل ما لديه في الصراعات والنزاعات، يجب أن يتم توجيه الطاقات نحو إعادة بناء المجتمع والاقتصاد على أسس جديدة قائمة على التسامح، الحوار، والتنمية.
–تعزيز الحوار والمصالحة. يجب على لبنان أن يعزز ثقافة الحوار بين مختلف مكوناته الاجتماعية والسياسية. هذا هو السبيل الوحيد للخروج من دائرة الصراع وإعادة بناء الوطن. المصالحة الوطنية، بعيدًا عن التوترات الطائفية والسياسية، يمكن أن تكون نقطة البداية لتحقيق الاستقرار.
–إعادة توجيه الموارد للتنمية. من الضروري أن يعيد لبنان توجيه موارده نحو تحسين التعليم، الصحة، والبنية التحتية، بدلاً من الاستمرار في تسخيرها لخوض صراعات لا تنتهي. تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية يجب أن يكون على رأس الأولويات.
4- الخاتمة.
إن مقولة هاري فوسديك تفتح أعيننا على مفارقة الحروب والصراعات التي تستنزف أفضل ما لدينا لتحقيق أسوأ النتائج. لبنان، البلد الذي يتمتّع بإمكانات هائلة، كان ضحية لهذه المفارقة لسنوات طويلة. بدلاً من الاستمرار في هذا المسار، يحتاج البلد إلى تغيير جذري في النهج، بحيث تُوجّه موارده وطاقاته نحو بناء مستقبل مشرق قائم على السلام والتنمية. إن تجاوز هذه الحلقة المفرغة يتطلّب جهودًا مشتركة من الشعب اللبناني والمجتمع الدولي لتحقيق استقرار دائم وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين.