الجامعة ليست مقراً إجتماعياً
د. الياس ميشال الشويري
لطالما عرف لبنان بمنارة للعلم والثقافة في العالم العربي بفضل جامعاته التي شكّلت منذ عقود وجهة للطلاب من مختلف الدول الذين سعوا للنهل من علمائه والاستفادة من مستواه الأكاديمي الرفيع. إلا أن هذا الواقع المشرق بدأ يتبدّل تدريجيًا في العقود الأخيرة، مع معاناة النظام التعليمي الجامعي في لبنان من أزمات عميقة تهدد مكانته التاريخية. بين الضغوط الاقتصادية والسياسات التجارية للجامعات الخاصة، وبين انقلاب العلاقة بين الأستاذ والطالب إلى علاقة تتسم بالتوتر والخضوع لمنطق “الزبون دائمًا على حق”، بات التعليم الجامعي في لبنان يعاني من مظاهر خلل جوهري.
في هذا البحث، نسعى إلى تسليط الضوء على سلبيات التعليم الجامعي في لبنان، مع التركيز على الدور المتغير للأستاذ الجامعي، الذي أصبح رهينة لضغوط إدارات الجامعات وتوقعّات الطلاب. كما سنناقش ظاهرة التلاعب بالعلامات وكيف أثرت على جودة التعليم ومصداقية الشهادات الجامعية، وصولًا إلى استكشاف الأسباب الهيكلية لهذه الأزمات والحلول الممكنة لاستعادة مكانة التعليم العالي في لبنان كواحة للعلم والمعرفة.
إن استعراض هذه الإشكاليات يُعد خطوة ضرورية لفهم عمق التحديات التي تواجه التعليم الجامعي في لبنان، ولبحث إمكانية استعادة توازنه ومعاييره الأكاديمية التي طالما كانت مصدر فخر لهذا البلد العريق.
1- العلاقة بين الأستاذ والطالب: انقلاب الأدوار.
على مر العقود، كان الأستاذ الجامعي يُنظر إليه كرمز للمعرفة والتوجيه، والشخص الذي يحمل على عاتقه مهمة تشكيل العقول وإعداد الأجيال القادمة لتكون قادرة على مواجهة تحديات المجتمع وسوق العمل. ولكن في السنوات الأخيرة، شهدت العلاقة بين الأستاذ والطالب تحوّلات جذرية أثرت على مكانة الأستاذ ودوره التقليدي.
-الأستاذ كمتلقي للضغوط: في السياق الحالي، بات الأستاذ يعاني من ضغوط عدة من قبل إدارات الجامعات والطلاب على حد سواء. إدارات الجامعات تفرض على الأساتذة معايير غير أكاديمية، مثل زيادة نسب النجاح، بهدف تحسين سمعة الجامعة بين الطلاب المحتملين وعائلاتهم. ومن ناحية أخرى، أصبح الطالب يُنظر إليه كـ”زبون” يدفع ثمن تعليمه، مما خلق ديناميكية جديدة تعطيه سلطة ضمنية للتأثير على قرارات الأستاذ وممارساته.
-الطالب كعنصر ضاغط: لم يعد الطالب يرى نفسه مجرد متلّق للعلم، بل أصبح يتعامل مع التعليم على أنه “حق مكتسب” يجب أن يُقدم له بسهولة ودون عناء. هذه النظرة تعزّزت بسبب سياسات الجامعات التي تُركز على إرضاء الطلاب بغض النظر عن مستوياتهم الأكاديمية. النتيجة هي تآكل احترام الطالب للأستاذ، الذي بات يشعر بأنه يخضع لسطوة “زبون” يمكن أن يؤثر على مسيرته المهنية من خلال التقييمات أو الشكاوى.
نتائج هذا الانقلاب: العلاقة التي كانت تقوم على الاحترام المتبادل أصبحت الآن علاقة مشحونة بالمطالبات والضغوط. لم يعد الأستاذ هو المصدر الأول للمعرفة، حيث بات الطلاب يعتمدون بشكل متزايد على الإنترنت ومصادر أخرى. كما أن بعض الأساتذة قد استسلموا لهذه الديناميكية الجديدة، مما أدى إلى تراجع مستويات الجدية والالتزام الأكاديمي.
2- التلاعب بالعلامات: أسباب ودوافع متشابكة.
ظاهرة التلاعب بالعلامات ليست مجرد تصرف فردي أو استثناء، بل هي نتيجة تراكمية لعدة عوامل هيكلية ونفسية واجتماعية تؤثر على البيئة الأكاديمية في لبنان.
-دور إدارات الجامعات في التلاعب بالعلامات: إدارات الجامعات الخاصة، التي تعتمد بشكل كبير على الرسوم الدراسية كمصدر رئيسي للدخل، تُمارس ضغوطًا كبيرة على الأساتذة للحفاظ على نسب نجاح مرتفعة. هذه النسب تُعتبر بمثابة معيار لتقييم أداء الجامعة، ما يجعل الإدارات تسعى لتحسينها بأي وسيلة. هذا التوجه التجاري يُشجع الأساتذة على تسهيل الامتحانات ورفع العلامات لضمان بقاء الطلاب في الجامعة.
-الخوف من ردود فعل الطلاب وأولياء الأمور: مع تحوّل التعليم إلى منتج تجاري، بات الطلاب يشعرون بأنهم عملاء لديهم حقوق يجب أن تُلبى، بما في ذلك الحصول على علامات مرتفعة. هذا الشعور يعزّز من قوة الطالب في مواجهة الأستاذ، الذي قد يجد نفسه مضطرًا للرضوخ لضغوط الطلاب أو أولياء أمورهم لتجّنب المشكلات.
-التأثيرات النفسية على الأستاذ: الخوف من فقدان الوظيفة أو التعرّض للنقد يدفع العديد من الأساتذة إلى اتخاذ قرارات تُخالف قناعاتهم الأكاديمية. التلاعب بالعلامات أصبح وسيلة للحفاظ على الاستقرار المهني، لكنه في الوقت نفسه يترك أثرًا نفسيًا سلبيًا على الأستاذ الذي يشعر بأنه قد تخلّى عن مبادئه الأكاديمية.
-التنافس بين الجامعات وتأثيره السلبي: التنافس الشديد بين الجامعات الخاصة لتسجيل أكبر عدد ممكن من الطلاب يدفعها إلى تقديم تسهيلات غير مبررة، مما يخلق بيئة تُشجع الأساتذة على التخلي عن معايير الصرامة الأكاديمية. هذا التنافس يجعل العلامة مجرد أداة تسويقية تُستخدم لجذب مزيد من الطلاب بدلًا من أن تكون معيارًا لتقييم الأداء الحقيقي.
3- أثر التلاعب بالعلامات على جودة التعليم.
التلاعب بالعلامات يترك آثارًا عميقة وسلبية على النظام التعليمي بأكمله، وليس فقط على الطلاب أو الأساتذة.
-تدهور الكفاءة الأكاديمية للخريجين: حينما يحصل الطالب على علامات مرتفعة دون أن يمتلك الكفاءة اللازمة، تكون النتيجة تخريج أجيال تفتقر إلى المهارات الأساسية التي يحتاجها سوق العمل. هذه المشكلة تُفاقم من معدلات البطالة بين الخريجين اللبنانيين، الذين يواجهون صعوبة في التنافس مع خريجي الدول الأخرى.
-التأثير على سمعة الجامعات اللبنانية: لطالما كانت الجامعات اللبنانية تحتل مكانة مرموقة في العالم العربي، ولكن مع انتشار ظاهرة التلاعب بالعلامات، بدأت سمعتها تتراجع. الجامعات التي تُسهل الحصول على الشهادات تصبح أقل جاذبية للطلاب الدوليين وأقل قدرة على بناء شراكات مع مؤسسات أكاديمية عالمية.
-فقدان ثقة المجتمع بالتعليم: حينما يدرك المجتمع أن العلامات والشهادات لا تعكس الكفاءة الحقيقية للطالب، تفقد المؤسسات التعليمية مصداقيتها. هذا التآكل في الثقة يُضعف الحافز لدى الطلاب الجادين ويخلق شعورًا عامًا بالإحباط تجاه النظام التعليمي.
-انعكاسات اجتماعية أوسع: الخريجون الذين لا يمتلكون الكفاءة يتجهون إلى الاعتماد على العلاقات الشخصية والمحسوبية للحصول على وظائف، مما يعزز من ثقافة الفساد في المجتمع. هذا الوضع يؤدي إلى تآكل قيم الجدارة والاستحقاق ويُضعف من فرص تحقيق التنمية المستدامة.
4- الأسباب الهيكلية وراء الأزمة.
الأزمة التي يعاني منها التعليم الجامعي في لبنان ليست ناتجة فقط عن عوامل مؤقتة أو ظرفية، بل لها جذور عميقة في بنية النظام التعليمي والبيئة السياسية والاقتصادية.
-سيطرة التعليم الخاص على القطاع: النظام التعليمي في لبنان يعتمد بشكل كبير على الجامعات الخاصة، التي تضع الربحية في المقام الأول. هذا التوجه يجعل من الصعب تحقيق التوازن بين الجودة الأكاديمية والأهداف التجارية.
-ضعف الدعم الحكومي: الجامعة الوطنية، أي الجامعة اللبنانية، تعاني من نقص شديد في التمويل وضعف في البنية التحتية، مما يجعلها غير قادرة على منافسة الجامعات الخاصة. هذا الوضع يدفع العديد من الطلاب إلى الالتحاق بالجامعات الخاصة، التي تُركز على الكم بدلًا من النوعية.
-غياب الرقابة: لا توجد هيئات مستقلة تعمل على مراقبة أداء الجامعات وضمان الالتزام بالمعايير الأكاديمية. هذا الغياب يُتيح للجامعات العمل دون رقابة، مما يُشجع على ممارسات مثل التلاعب بالعلامات وتخفيض المعايير الأكاديمية.
-التأثيرات السياسية والاقتصادية: الأزمات السياسية والاقتصادية المتكررة في لبنان تُلقي بظلالها على جميع القطاعات، بما في ذلك التعليم. الفساد السياسي وسوء الإدارة يُضعفان من قدرة الدولة على دعم التعليم العالي وتطويره.
5- الحلول الممكنة لاستعادة جودة التعليم الجامعي.
للخروج من هذه الأزمة، هناك حاجة إلى خطة شاملة تستهدف إصلاح النظام التعليمي من جذوره:
-إنشاء هيئات رقابية مستقلة: يجب أن تُنشأ هيئات مستقلة لمتابعة أداء الجامعات والتأكد من التزامها بالمعايير الأكاديمية، مع تطبيق عقوبات صارمة على الجامعات التي تتلاعب بالعلامات.
-زيادة الدعم الحكومي للتعليم العالي: تحتاج الدولة إلى استثمار المزيد من الموارد في الجامعات الحكومية لتحسين بنيتها التحتية وجودة التعليم الذي تقدمه، مما يخفف من اعتماد الطلاب على الجامعات الخاصة.
-تعزيز مكانة الأستاذ: ينبغي تقديم رواتب عادلة وحوافز مهنية للأساتذة، إلى جانب حمايتهم من الضغوط غير الأكاديمية، مما يُمكنهم من التركيز على دورهم التعليمي.
-إعادة النظر في سياسات القبول والتقييم: يجب وضع معايير صارمة للقبول والتقييم تضمن أن العلامات تعكس الأداء الحقيقي للطلاب.
-التركيز على الجودة بدلًا من الكم: يجب أن تتحول الجامعات من التركيز على أعداد الخريجين إلى التركيز على جودة التعليم وتطوير الكفاءات العملية للطلاب.
6- الخاتمة.
يمثل التعليم الجامعي في لبنان اليوم مرآة تعكس الأزمات المتعددة التي يمر بها هذا البلد، من انهيارات اقتصادية وأزمات اجتماعية إلى غياب الرؤية السياسية والإدارية السليمة. ما كان يُعدّ سابقًا ركنًا أساسيًا من أركان التفوق اللبناني، وأحد أهم أدوات بناء الأجيال وتعزيز الثقافة، أصبح الآن في قلب عاصفة من التحديات التي تهدد مكانته وقيمته.
لقد سلط هذا البحث الضوء على مظاهر الخلل التي أصابت التعليم الجامعي في لبنان، بدءًا من انقلاب العلاقة بين الأستاذ والطالب، حيث بات الأستاذ مضطرًا للتكيف مع واقع جديد يفقده الكثير من مكانته واحترامه كقائد أكاديمي. ومع انتشار ظاهرة التلاعب بالعلامات نتيجة ضغوط إدارات الجامعات ومطالبات الطلاب، أصبحت جودة التعليم في خطر حقيقي، ما أدى إلى تخريج أجيال تفتقر إلى الكفاءة المطلوبة لسوق العمل والمجتمع.
التحديات التي تواجه التعليم الجامعي في لبنان ليست مجرد مشاكل ظرفية يمكن معالجتها بتدابير مؤقتة؛ بل هي أزمات هيكلية ترتبط بتوجهات إدارات الجامعات التي تُفضل الربحية على الجودة الأكاديمية، ونظام حكومي يعاني من الإهمال وسوء الإدارة، وغياب هيئات رقابية مستقلة تضمن الالتزام بالمعايير الأكاديمية. هذه الأزمات لا تقتصر على التأثير على التعليم وحده، بل تمتد لتُضعف ثقة المجتمع بالمؤسسات التعليمية وتزيد من تفاقم مشكلة البطالة وعدم الكفاءة في القوى العاملة.
ولكن على الرغم من قتامة المشهد، لا تزال هناك فرص حقيقية لإعادة بناء النظام التعليمي الجامعي على أسس سليمة. يمكن تحقيق ذلك من خلال وضع سياسات إصلاحية جذرية تشمل تعزيز الدعم الحكومي للجامعات العامة، وإنشاء هيئات رقابية مستقلة، وإعادة التوازن للعلاقة بين الأستاذ والطالب، بحيث يُعاد للأستاذ مكانته كمرجع أكاديمي بعيدًا عن الضغوط التجارية والاجتماعية.
كما أن التركيز على تحسين جودة التعليم بدلاً من الكم، وضمان أن العلامات والشهادات تعكس الأداء الحقيقي والكفاءة الفعلية للطلاب، هو أمر لا غنى عنه لاستعادة الثقة بهذا القطاع الحيوي.
في نهاية المطاف، إن التعليم هو الأداة الأهم لبناء المستقبل، وإذا كان لبنان يطمح للنهوض من أزماته واستعادة مكانته بين الأمم، فلا بد أن يكون التعليم الجامعي في صلب أي استراتيجية للإصلاح والتطوير. إن إعادة إحياء النظام التعليمي الجامعي ليست مجرد واجب أكاديمي، بل هي مسؤولية وطنية وإنسانية لضمان مستقبل أكثر إشراقًا للأجيال القادمة، ومساهمة حقيقية في بناء مجتمع قائم على المعرفة والكفاءة بدلًا من المحسوبيات والفساد.Bottom of Form