وضع لبنان في صورة كاريكاتورية
د. الياس ميشال الشويري
تُعَدُّ مسألة الحاكم والمحكوم واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في فهم العلاقة بين السلطة والمجتمع. إنها جدلية لا تنتهي، وقد طُرحت في سياقات دينية، فلسفية، واجتماعية، وارتبطت بالبحث عن المسؤول الأول عن الفساد: هل هو الحاكم بما يملك من سلطة ونفوذ، أم المحكوم الذي يُعدُّ البيئة الحاضنة؟
1- تأصيل الفكرة بين الحاكم والمجتمع.
ينطلق الفريق الأول من القول بأن فساد الحاكم هو السبب الأساس لفساد المجتمع. وفقًا لهذا الرأي، الحاكم هو المسؤول الأول عن قيادة الناس وصياغة النظام العام. فإذا كان الحاكم فاسدًا، كما هو الحال في لبنان، فإن سياساته تعزّز مناخًا يسمح للفساد بالانتشار، مُجبِرة المجتمع على التأقلم مع هذا الواقع، إما من خلال الصمت أو المشاركة في الفساد. في المقابل، يرى الفريق الثاني أن الحاكم هو نتاج بيئته الاجتماعية والثقافية. هذه البيئة، بما تحمل من قيم وسلوكيات، تصوغ شخصية الحاكم، وبذلك يكون المجتمع الفاسد هو الذي يُنتج الحكام الفاسدين.
2- “كما تكونون يولّى عليكم”: السياق والمضمون.
من أبرز المقولات التي استُخدمت لتأصيل هذه الجدلية هي: “كما تكونون يولى عليكم”. يرى البعض أن هذه المقولة تُبرّئ الحاكم من المسؤولية وتلقي باللوم على الشعوب التي سمحت للفساد بالتغلغل فيها؛ بينما يرى آخرون أنها توضح العلاقة العضوية بين الحاكم والمحكوم، حيث أن فساد المجتمع يؤدّي بطبيعة الحال إلى إنتاج حكّام فاسدين، على نحو ما في لبنان، ولم يجلب هؤلاء للبنانيين سوى المآسي والويلات.
3- لبنان: صورة مصغرة للجدلية.
في السياق اللبناني، تقدّم هذه الجدلية مثالًا حيًا ومعاصرًا. النظام السياسي اللبناني، الذي بُني على المحاصصة الطائفية والولاءات الشخصية، يعكس تفاعلاً معقدًا بين فساد الحاكم وفساد المحكوم، خاصة في فترة ما بعد الحرب الأهلية. فبينما يتهم البعض المنظومة السياسية بإفساد المجتمع، يرى آخرون أن الشعب نفسه هو من يكرّس هذه الطبقة الفاسدة من خلال الولاءات الطائفية والتصويت على أساس المصالح الفردية بدلًا من الكفاءة.
4- الحاكم كصانع للفساد.
الحاكم الفاسد يمتلك أدوات تمكنه من إفساد المجتمع. السلطة والمال والإعلام تُستخدم جميعها لتطويع المجتمع وقمع أي مقاومة. في لبنان، نجد أن المنظومة السياسية تستفيد من نخبة حقيرة، تُستخدم لتضليل الرأي العام، وتعزيز الفساد عبر شبكات الزبائنية والمحاصصة. السياسات الفاشلة، مثل عرقلة الإصلاحات الاقتصادية وغياب المحاسبة، أسهمت في إضعاف ثقة المجتمع بالدولة، ما أدى إلى دورة مفرغة من الفساد والفساد المضاد.
5- المحكوم كمنتج للحاكم.
من جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن المحكوم يتحمّل جزءًا من المسؤولية. في لبنان، يُظهر المحكومون أحيانًا سلوكيات تُكرّس النظام الفاسد، مثل القبول بالرشوة الانتخابية أو التغاضي عن المحاسبة مقابل الخدمات الشخصية. هذه السلوكيات تُنتج بيئة خصبة لنشوء واستمرار القيادات الفاسدة، حيث يُنظر إلى المنصب العام كفرصة لتحقيق المصالح الشخصية بدلاً من خدمة المجتمع.
6- توازن العلاقة بين الطرفين.
يبدو أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم ليست أحادية الاتجاه؛ بل هي علاقة جدلية تفاعلية. فساد الحاكم يخلق مجتمعًا أكثر قابلية للتطويع، وفساد المحكوم يُنتج حكامًا لا يعيرون الاهتمام للإصلاح. الحل يتطلّب وعيًا جماعيًا يعيد التوازن لهذه العلاقة، عبر فرض آليات للمحاسبة، وتعزيز قيم النزاهة في المجتمع، ورفض الأنظمة التي تكرس الفساد.
7- الخاتمة: جدلية مستمرة بلا حسم.
تبقى جدلية الحاكم والمحكوم دون حسم، حيث تعتمد الإجابة على السياق الزمني والمكاني لكل مجتمع. في لبنان، يبدو أن هذه الجدلية قد وصلت إلى ذروتها، إذ يتشارك الحاكم والمحكوم المسؤولية في تعميق الأزمة. لكن الأمل يظل معقودًا على نهوض وعي جماعي يقلب المعادلة، ويبدأ بإصلاح القاعدة الشعبية التي يمكنها بدورها إنتاج حكام نزيهين يلتزمون بمبادئ الحكم الرشيد.