أمام مثوى القديس شربل
د. الياس ميشال الشويري
لبنان، أرض الجبال والبحر، يحمل في تضاريسه وتاريخه ثروة روحية لا تقدّر بثمن. بالنسبة للمسيحيين اللبنانيين، يمثل هذا الوطن أكثر من مجرد جغرافيا؛ فهو حاضنة للإيمان، ومهد للقداسة، وحامية للهوية المسيحية في الشرق الأوسط. من جبال عنايا حيث نشأ القديس شربل، إلى حريصا حيث ترتفع سيدة لبنان، يمتد لبنان كرمز للإيمان الراسخ رغم كل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. زيارة قداسة البابا إلى لبنان لم تكن مجرد حدث بروتوكولي، بل تأكيدًا عالميًا على الدور الروحي المسيحي للبنان، وعلى قيم الرجاء والتواضع والقداسة التي يحملها الشعب المسيحي في وطنه وفي العالم.

1. القديس شربل وحياة القداسة المسيحية اللبنانية
ولد القديس شربل في قرية عنايا عام 1828، بين أسرة فقيرة، لكنها غنية بالإيمان المسيحي التقليدي والقيم الأخلاقية التي تميز جبل لبنان. منذ طفولته، ظهر شربل مختلفًا عن أقرانه: كان يحب الانعزال والتأمل، ويجد في الصلاة والهدوء معنى وجوده. لقد شكل ميله العميق إلى الحياة الروحية نموذجًا حيًا للمسيحي اللبناني، الذي يسعى إلى الاتصال بالله وسط صعوبات الحياة اليومية، بعيدًا عن الضوضاء والمال والسلطة الزائفة.
اختار شربل الرهبنة في دير مار مارون، حيث قضى سنواته الأولى في التأمل والصلاة والخدمة العملية. لم يكن يسعى للشهرة، بل كان هدفه التوحّد بالله من خلال التواضع والصبر والعمل اليدوي. حياته اليومية كانت مليئة بالصوم والصلاة الطويلة، وخدمة المرضى والفقراء، والتفاني في الأعمال الروحية. ومن خلال هذا النمط من الحياة، أصبح شربل رمزًا للمسيحية النقية في لبنان، مثالًا حيًا على أن القداسة الحقيقية لا تقاس بالمكانة أو المال، بل بالإيمان والعمل المتواضع في خدمة الآخرين.
بعد وفاته عام 1898، بدأت المعجزات تظهر في ضريحه في عنّايا، لتؤكد قداسته عالميًا. شفاء الأطفال المصابين بأمراض عصبية، استعادة البصر للمكفوفين، شفاء مرضى السرطان، إضافة إلى حالات الطمأنينة الروحية التي يشعر بها كل من يزوره، جعلت شربل رمزًا للمسيحية اللبنانية الحية في العالم. زيارته من قبل المسيحيين ليست مجرد تقليد ديني، بل تأكيد على الهوية المسيحية الراسخة في لبنان، وعلى قدرة الإيمان على مواجهة كل الأزمات.
شربل، بهذا المعنى، ليس قديسًا طائفيًا فقط، بل رمزًا للوحدة الوطنية المسيحية في لبنان. المسلمين والدروز وغير المؤمنين يجدون فيه بركة وسكينة، لكن بالنسبة للمسيحيين، هو مصدر قوة روحية، دليل على أن لبنان قادر على توليد قديسين يعكسون قيم الإنجيل الحقيقية: المحبة، الخدمة، الصبر، والتواضع.

2. زيارة البابا – البعد الروحي والاجتماعي والسياسي للمسيحيين
زيارة قداسة البابا إلى لبنان شكلت حدثًا استثنائيًا للمسيحيين اللبنانيين، الذين يعيشون تحت وطأة أزمات سياسية واقتصادية مستمرة. منذ لحظة وصوله، شعر الجميع بأن هذه الزيارة ليست مجرد طقس ديني، بل رسالة مسيحية حقيقية إلى قلب لبنان المسيحي والعالم كله.
عند زيارة ضريح القديس شربل في عنّايا، وقف البابا في صمت طويل، رفع صلاته نيابة عن كل اللبنانيين، مؤكدًا أهمية القديس شربل كرمز للقداسة المسيحية الأصيلة في لبنان. كانت الصلاة أمام الضريح لحظة انكسار جماعي وتجديد فردي، إذ شعر كل مسيحي أن الإيمان المسيحي ليس ضعيفًا رغم كل الظروف، وأن لبنان يحتفظ بروحه المسيحية العميقة. هذه اللحظة لم تكن مجرد طقس ديني، بل تأكيدًا على دور المسيحية في الحفاظ على هوية لبنان الروحية الوطنية.
الزيارة أعادت الأمل إلى المسيحيين من جميع الطوائف، الذين يعانون من الهجرة، الفقر، الانقسام السياسي، والضغط الطائفي. لقد أظهرت لهم أن الكنيسة العالمية تقف إلى جانب لبنان المسيحي، وأن القوة الروحية المسيحية قادرة على مواجهة كل الصعاب، وأن لبنان ليس مجرد أزمة، بل أرض للقداسة والرجاء.
كما حملت الزيارة بعدًا اجتماعيًا وإنسانيًا، إذ أعادت الحيوية إلى المناطق الدينية، وجمعت المسيحيين مع المسلمين والدروز حول رسالة مشتركة من الأمل والتسامح. كما أكدت أن القداسة المسيحية ليست مسألة شخصية أو طائفية فقط، بل مصدر وحدة وطنية روحية، يمكن أن توحد جميع اللبنانيين حول قيم الحب والإيمان والرجاء.

3. زيارة سيدة لبنان في حريصا – رمز الحماية والوحدة للمسيحيين
صعود البابا إلى حريصا، حيث تمثال سيدة لبنان، يمثل أهمية عظيمة للمسيحيين اللبنانيين، فهو يشكل رمزًا للرحمة والحماية الإلهية والوطنية. حريصا ليست مجرد مزار، بل قلب روحي للمسيحية في لبنان، يجمع المسيحيين على اختلاف طوائفهم ومناطقهم، ويعيدهم إلى شعور الأمان والانتماء الروحي.
الصلاة أمام تمثال العذراء كانت لحظة تجدد الرجاء المسيحي، حيث حملت كل أوجاع الشعب اللبناني: المرضى، الفقراء، الشباب المهاجر، وكل من فقد الأمل في وطنه. الزيارة أعادت للمسيحيين شعور الانتماء والقدرة على الصمود، مؤكدة أن لبنان يظل وطن المسيحيين الروحي والحقيقي، مهما طال الظلام السياسي والاجتماعي.
كما أن الزيارة أظهرت أن الوحدة الروحية المسيحية يمكن أن تكون عامل حماية للبنان، إذ لم تعد حريصا مكانًا دينيًا فقط، بل رمزًا للوحدة الوطنية المسيحية، حيث يجد المسيحيون في إيمانهم القوة للتغلب على الانقسامات الداخلية، والحفاظ على وجودهم في هذا الوطن، الذي يمثل بالنسبة لهم رسالة للسلام والمحبة في الشرق الأوسط.

4. الخاتمة
لبنان، بين عنّايا وحريصا، بين شربل وسيدة لبنان، وبين قداسة البابا، هو أرض القداسة المسيحية والرجاء. زيارة البابا لم تكن مجرد حدث عابر، بل تأكيد على الأهمية الروحية المسيحية للبنان، وعلى قدرة الإيمان المسيحي على حماية الوطن وتعزيز هويته. القداسة والإيمان هما القوة الحقيقية، والأمل قادر على مواجهة الظلام السياسي والاجتماعي والاقتصادي مهما طال. زيارة البابا أعادت الروح المسيحية إلى قلب لبنان، وجعلت منه مثالًا حيًا على أن النور الروحي المسيحي والرجاء قادران على حماية الوطن وإعادة بناء ذاته في كل زمن ومحنة.
























































