بقلم د. الياس ميشال الشويري
لم يعرف لبنان في تاريخه الحديث كارثة سياسية–مالية أشدّ فتكًا من تلك التي بدأت تتجذر يوم تحوّلت وزارة المالية إلى “ملكية حزبية“، وخرجت من يد الدولة لتصبح أداة قوة ووسيلة حصار وذراعًا سياسية تتجاوز وظيفتها الطبيعية. فوزارة المالية ليست مجرد وزارة: هي شريان الدولة، وصندوقها، ومركز ثقلها التنفيذي، وممر الإقرار والإنفاق، وميزان توزيع السلطة. السيطرة على هذا الموقع تعني فعليًا السيطرة على الدولة نفسها: على قراراتها، على جيوبها، على مؤسساتها، على قوتها وضعفها. ومنذ لحظة تشبّث الثنائي الشيعي بهذه الوزارة، وترسيخ مفهوم “الحق المكتسب” في أخطر مخالفة للدستور ولروح النظام، كان واضحًا أن المسار اللبناني يسير نحو انهيار حتمي، لأن الدولة التي تُختطف خزينتها يُختطف مستقبلها معها. ومع مرور السنين، صار اللبنانيون يرون بأعينهم نتائج هذا التشبث: انهيار مالي، تبخّر ودائع، تدمير الطبقة الوسطى، انهيار الخدمات العامة، فقدان الثقة، تغوّل السلطة، وذوبان الدولة.
هذا المقال يقدّم قراءة موسّعة، تفصيلية، نقدية، عميقة، تربط بين التاريخ والاقتصاد والسياسة والحوكمة، من خلال ثلاثة محاور: وزارة المالية كأداة سلطة، أثر هذا الاحتكار على الانهيار الاقتصادي، والانعكاسات السيادية والاجتماعية. الهدف ليس فقط توصيف الانهيار، بل تشريح جذوره، وكشف آلياته، وتفسير كيف تحولت الوزارة إلى قبو يعجّ بالصفقات والغموض والفيتوهات، وكيف دفع الشعب اللبناني الثمن الأغلى من عرقه وجنى عمره وكرامته.

1. وزارة المالية كأداة سلطة لا كوزارة دولة
تحوّلت وزارة المالية من مؤسسة إدارية تُعنى بتحصيل الإيرادات وإدارة النفقات إلى قلعة سياسية تُدار بمنطق “التملك“، لا بمنطق “التكليف“. منذ عام 2014، أصبحت الوزارة أداة لإنتاج القوة السياسية، ولتثبيت ميزان قوى غير دستوري، بحيث صار من المستحيل على أي حكومة أن تُصدر مرسومًا جوهريًا دون المرور بالثنائية التي تتحكم بمفاتيح الوزارة. هذا الواقع نسف مبدأ المساواة بين الوزارات، وضرب فكرة المداورة، وخلق سابقة خطيرة: أن وزارة يمكن أن تصبح حصّة دائمة لطرف سياسي معيّن، بحيث يكتسب عليها حقًا لم تمنحه له النصوص ولا الأعراف. ومن هنا، غدا “الفيتو المالي” أخطر من السلاح: لأنه يعطّل التعيينات، ويعرقل الصرف، ويؤجل توقيع المراسيم، ويمنع المحاسبة، ويعيد تشكيل الحكومات وفق مصالح فريق واحد. ومع الزمن، تحول هذا الفيتو إلى أداة لشلّ الدولة، لأن أي مشروع إصلاحي في الكهرباء، الاتصالات، القضاء، أو حتى التشكيلات الأمنية، لا يسلك طريقه إلا بعد المرور بـ “ختم المالية“، الذي أصبح أشبه بـ “إذن مرور سياسي“، لا مسألة إدارية.
لم يكن احتكار الوزارة هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة للإمساك بشبكات واسعة من المؤسسات التابعة أو المتفرعة أو المتصلة بها: الجمارك، مديرية الضريبة، الدوائر العقارية، المؤسسات العامة التي تحتاج اعتمادات، البلديات، الصناديق، والمجالس. لقد أصبح كل تعيين داخل هذه الإدارات خاضعًا لميزان الولاءات، بحيث صارت الكفاءة آخر معايير التوظيف، بينما تغلّب الانتماء الحزبي والطائفي. هكذا، نشأت منظومة بيروقراطية مُطيعة، قادرة على تمرير الصفقات، وتغطية التجاوزات، وتهريب الأموال، وتأجيل التدقيق، وتنظيم الميزانيات بشكل يُخفي العجز الحقيقي، ويبرز الأرقام حسب الحاجة. ومع تضخم شبكة النفوذ هذه، باتت الوزارة محاطة بـ “درع مؤسسي” يمنع الاقتراب منها، بحيث فشل كل وزراء الإصلاح الذين حاولوا التعامل معها بنزاهة، وتمّت محاصرتهم إداريًا وسياسيًا. أكثر من ذلك، ارتبطت المالية بامتدادات سياسية وأمنية حساسة: من تأمين التمويل للبلديات الموالية، إلى ضبط حركة الأموال للمستشفيات الحكومية المحسوبة على جهة دون أخرى، ما حوّل المال العام إلى أداة مكافأة وعقاب، ترفع وتُخفض، تفتح وتغلق، وفق مزاج القوى المسيطرة.
لقد خلق احتكار المالية علاقة خطيرة بين المال والسلاح. فالدولة التي تمتلك وزارة مالية غير خاضعة لمبدأ المحاسبة، تصبح دولة فاقدة القدرة على تقييم إنفاقها الحقيقي. وحين يقترن ذلك بسلاح خارج الدولة، تتحول الوزارة إلى “غرفة تمويل غير مباشرة” لسلطة مزدوجة، تمتد إلى ما هو أبعد من الاقتصاد. هذا الواقع جعل المالية جزءًا من منظومة متكاملة يتشابك فيها النفوذ المالي والسياسي والعسكري، ما أدى إلى إضعاف الدولة المركزية إلى حدود غير مسبوقة. إذ لا يمكن لدولة أن تمارس سيادتها حين تُدار خزينتها وفق منطق المحاصصة، وحين يُستخدم المال لشراء الولاءات، وحين تصبح قرارات الإنفاق مشروطة بمصالح فئة واحدة. بالتالي، أصبحت الوزارة أداة دفاع عن المنظومة السياسية الفاسدة، بدل أن تكون أداة ضبط للإنفاق العام. هذا التزاوج بين المال والسلاح أدى إلى انهيار تدريجي في مفهوم الدولة ككيان جامع، وأدخل لبنان في صراع وجودي مع مؤسساته نفسها، حيث بات الشعب يرى بأمّ العين أن الخزينة ليست ملكًا للدولة، بل محمية أمنية–سياسية تحرسها التحالفات.
ملخّص المحور الأول: وزارة المالية كأداة سلطة لا كوزارة دولة
يُظهر هذا المحور أنّ تشبّث الثنائي الشيعي بوزارة المالية حوّلها من مؤسسة إدارية تُدار وفق منطق الدولة إلى أداة سلطة تُستخدم لفرض النفوذ السياسي وتعطيل التوازن الدستوري. فقد أُسقط مبدأ المداورة، واستُبدل بمنطق “الحق المكتسب”، ما أتاح احتكار مفصل مالي أساسي يمكّن من تعطيل الحكومات، والتحكم بالتعيينات، والتحكّم بمسار الإنفاق العام. هذا الاحتكار أفرغ المؤسسات الأخرى من دورها، وخلق فيتو مالي دائم جعل الدولة رهينة داخل أجهزتها، وأسّس لربط المال العام بشبكات محسوبيات سياسية وحزبية، بدل إخضاعه لمعايير الشفافية والمساءلة. النتيجة كانت إضعافًا بنيويًا لفكرة الدولة، وتحويل وزارة سيادية إلى حصن حماية لمنظومة نفوذ لا تخضع للمحاسبة.

2. أثر احتكار المالية على الانهيار المالي والاقتصادي
ندخل هنا إلى لبّ الكارثة: الانهيار المالي لم يكن حادثًا فجائيًا، بل نتيجة سنوات طويلة من إدارة مالية فاسدة، غير شفافة، خاضعة لمعادلات سياسية. إذ تم التضحية بكل قواعد المالية العامة: الصرف بلا قطع حساب، تأجيل التدقيق، فتح اعتمادات مرتجلة، زيادة النفقات الجارية، التوظيف العشوائي، ومنع إصلاح قطاع الكهرباء الذي كلف خزينة الدولة أكثر من 45 مليار دولار. كلّ ذلك تم تحت مظلة وزارة المالية التي كانت تغض الطرف حين يلزم، وتفتح الباب حين يلزم، وفق ميزان المصالح لا وفق قواعد المالية العامة. ومع تضخم العجز عامًا بعد عام، وبلوغ الدين العام مستويات غير مسبوقة، لم تجرِ أي محاولة جدية لإطلاق خطة تصحيحية، ولا اعتماد سقف إنفاق، ولا منع توسّع الهدر. بالعكس، ازدهرت صفقات المحاصصة: من السلفات إلى الإعفاءات الضريبية الانتقائية، إلى الهندسات المالية، إلى التحويلات المشبوهة، إلى التلاعب بأرقام الاحتياطي، إلى الاستخدام السياسي للموازنات، ما جعل الانهيار أمرًا حتميًا.
مع بداية الانهيار عام 2019، ظهرت نتائج السنوات الطويلة من سوء الإدارة: تبخر الودائع، انهيار سعر الصرف، اختفاء الدولار من السوق، وسقوط القطاع المصرفي. اللبنانيون استيقظوا على حقيقة مرعبة: أموالهم التي تعبوا لجمعها اختفت، أو تحولت إلى “لولار”، أو جرى السطو عليها بطريقة ممنهجة عبر المنظومة السياسية–المصرفية، ومن ضمنها وزارة المالية التي كانت تعلم كل ما يحدث، وتملك صلاحية التدخل، لكنها لم تفعل. فقد لعبت الوزارة دورًا محوريًا في تعطيل خطط إعادة هيكلة المصارف، وفي منع الاعتراف بالخسائر الحقيقية، وفي تغطية المصرف المركزي عبر موازنات صورية لا تعكس الواقع. النتيجة: ذاب جنى عمر اللبنانيين، وتحولت رواتب مئات الآلاف إلى قيمة لا تكفي لشراء حاجات أسبوع. الطبقة الوسطى التي كانت عماد المجتمع انكمشت بشكل دراماتيكي، وهاجر القسم الأكبر من شبابها. الدولة انهارت، والمجتمع انهار، لكن الوزارة بقيت محصنة، محمية، مرفوعة فوق المحاسبة، وكأن انهيار بلد بأكمله ليس شأنًا يعنيها.
من أخطر نتائج احتكار المالية أنّه عطّل كل الاتفاقات مع المؤسسات الدولية، وأهمها صندوق النقد الدولي، الذي وضع شروطًا واضحة لإعادة جدولة الديون، وتحفيز الاقتصاد، ووقف النزيف المالي. لكن كل مشروع إصلاحي كان يصطدم بالفيتو. فالإصلاح يعني فتح الدفاتر، وفتح الدفاتر يعني كشف الحقائق، وكشف الحقائق يعني سقوط هالة “الحقوق المكتسبة“. وهكذا، ظل لبنان خارج كل برامج المساعدة الدولية، لأن وزارة المالية رفضت الاعتراف بالخسائر، ورفضت الإصلاحات، ورفضت التدقيق. هذا الأمر أدى إلى انهيار ثقة المستثمرين، وتخفيض التصنيف السيادي، وهروب الرساميل، وازدياد البطالة، وتراجع الصناعات، وانكماش المؤسسات. لبنان لم يعد قادرًا على الاقتراض، ولا على الإنتاج، ولا على جذب المستثمرين. وكل ذلك حدث لأن وزارة واحدة كانت تمارس دور “الحاكم السياسي“، فوق الحكومة، وفوق البرلمان، وفوق الشعب.
ملخّص المحور الثاني: أثر احتكار المالية على الانهيار المالي والاقتصادي
يبيّن هذا المحور أنّ الانهيار المالي الذي ضرب لبنان لم يكن حدثًا مفاجئًا، بل نتيجة مباشرة لسنوات من سوء الإدارة المالية المحمية سياسيًا. فقد استُخدمت وزارة المالية لتغطية العجز، وتأجيل الإصلاحات، وتعطيل التدقيق، وتمرير سياسات إنفاق وهدر وتوظيف عشوائي أدّت إلى تضخّم الدين العام واستنزاف الاحتياطات. ومع اندلاع الأزمة، لعبت الوزارة دورًا أساسيًا في طمس الخسائر الحقيقية، وحماية المصرف المركزي والمصارف، ما أدّى إلى تحميل المواطنين كلفة الانهيار عبر تبخّر الودائع وانهيار العملة. كما أسهم الفيتو المالي في تعطيل أي اتفاق إصلاحي مع المجتمع الدولي، ما خنق الاقتصاد، وعمّق الفقر، ودمّر الطبقة الوسطى، وأدخل لبنان في انهيار اقتصادي شامل بلا أفق إنقاذ.

3. الانعكاسات على السيادة والدولة والثقة الشعبية
حين تحتكر جهة سياسية وزارة المالية، فإنّها تحتكر القرار السياسي–الدولي. إذ تصبح كل مفاوضات الدولة، سواء مع الدول المانحة أو المؤسسات الدولية، خاضعة لموافقة هذا الفريق. وهذا ما حصل فعلاً: لبنان فقد القدرة على اتخاذ قرار اقتصادي سيادي مستقل، لأن الوزارة كانت تمنع أو تسمح وفق توازنات سياسية داخلية مرتبطة بمحاور إقليمية. السيادة المالية سقطت، وبالتالي سقطت السيادة السياسية. الدولة لم تعد دولة: أصبحت كيانًا مترنحًا، فيما “مالية الحزب” أصبحت أقوى من “مالية الدولة”. ومع الوقت، صار الخارج يتفاوض مع قوى الأمر الواقع، لا مع الحكومة الشرعية، لأن الجميع بات يعلم أن القرار الفعلي ليس في مجلس الوزراء، بل في وزارة المالية حيث الفيتو يُمارس بدم بارد.
الشعب اللبناني لم يعد يثق بأي مؤسسة رسمية، لأنه رأى بأم العين كيف تُدار الخزينة: كيف تُنفق الأموال بلا حساب، وكيف تُنهب الموازنات، وكيف تختفي مليارات، وكيف تُقيد الوزارة التدقيق المالي، وكيف يُمنع التحقيق في التحويلات إلى الخارج، وكيف تحمي الوزارة المصرف المركزي الذي مُارس فيه أكبر عملية سرقة منظمة في تاريخ لبنان. هذه الحقائق دفعت اللبنانيين إلى الإحساس بأنهم غرباء في وطنهم، محرومون من حقوقهم، عاجزون أمام منظومة “فوق القانون“. هذا الشعور أدى إلى موجات هجرة هائلة، وانهيار الثقة بالنظام، وارتفاع الغضب الاجتماعي، وصعود الخطاب الراديكالي، وتفكك المجتمع.
في النهاية، أنتج هذا الاحتكار وزارة تبني حكمًا لا دولة، وتحمي منظومة لا شعبًا، وتمنع الإصلاح لا تطبّقه. فقدت الدولة القدرة على إدارة أزماتها: الكهرباء انهارت، المياه انهارت، التعليم انهار، القضاء شُل، الأمن تراجع، الخدمات توقفت. الشعب يدفع ثمنًا لم يشارك في صنعه، فيما الذين كسروا الدولة ما زالوا يتمتعون بفيتو المالية الذي يمنع أي محاسبة. وهذا الواقع هو الذي جعل لبنان يعيش اليوم في “فراغ سيادي” خطير: دولة بلا مؤسسات حقيقية، بلا قضاء، بلا محاسبة، بلا رؤية، بلا ثقة، وبلا مستقبل.
ملخّص المحور الثالث: الانعكاسات على السيادة والدولة والثقة الشعبية
يركّز هذا المحور على أنّ احتكار وزارة المالية لم يضرب الاقتصاد فحسب، بل أصاب جوهر السيادة والثقة بالدولة. فقد تحوّل القرار المالي إلى أداة سياسية خاضعة لمحاور داخلية وخارجية، ما أفقد الدولة قدرتها على اتخاذ قرارات سيادية مستقلة. داخليًا، أدّى غياب المحاسبة وحماية المتورّطين إلى انهيار ثقة المواطنين بالمؤسسات، ونشوء قطيعة عميقة بين الشعب والدولة، تجلّت في الهجرة الواسعة واليأس الاجتماعي. ونتيجة ذلك، بات لبنان يعيش فراغًا سياديًا ومؤسساتيًا، حيث الدولة عاجزة عن فرض القانون أو إدارة الأزمات، فيما تستمر منظومة النفوذ في التحكم بمصير البلاد على حساب المجتمع.
4. الخاتمة
عند تفحّص المسار الذي سلكه لبنان منذ تكريس وزارة المالية كحقيبة محتكرة، يتبيّن بوضوح أنّ ما جناه البلد لم يكن “حماية للحقوق” ولا “توازنًا ميثاقيًا“، بل انهيارًا بنيويًا في فكرة الدولة نفسها. فالوزارة التي يُفترض أن تكون صمّام أمان للاستقرار المالي تحوّلت إلى مركز تحكّم سياسي، أُفرغت فيه النصوص الدستورية من مضمونها، وسُخّرت فيه الخزينة لخدمة منظومة فاسدة لا تخضع للمساءلة. لم تُنتج هذه السيطرة دولة أقوى، بل دولة أضعف، مفلسة، عاجزة، فاقدة للثقة داخليًا وخارجيًا، ما ينسف كل ادّعاء بأن الاحتكار كان بدافع “الحرص على الشراكة الوطنية“.
إن أخطر ما في تشبّث الثنائي الشيعي بوزارة المالية لا يكمن في البعد الإداري فحسب، بل في تحوّله إلى أداة تقرير في مصير اللبنانيين كافة. فحين يُمسك فريق واحد بمفاتيح الإنفاق، والجباية، والتوقيع، والتدقيق، يصبح قادرًا على تعطيل الإصلاح، ومنع المحاسبة، وإبقاء البلاد في حالة شلل دائم. هذا الواقع جعل الانهيار ليس نتيجة خطأ تقني أو أزمة ظرفية، بل نتيجة منطق حكم متكامل يقوم على الإمساك بمراكز القرار الحساسة، وإخضاع الدولة لمنظومة “الفيتو الدائم“، حيث لا يمر شيء إلا إذا خدم استمرار النفوذ، ولو كان الثمن إفلاس الوطن.
لقد أظهرت التجربة اللبنانية أنّ المال العام كان الضحية الأولى لهذا التشبّث، وأن الخزينة استُخدمت كدرع واقٍ للمنظومة الفاسدة لا كأداة خدمة عامة. فغياب قطع الحساب، وتعطيل التدقيق الجنائي، وطمس الخسائر الحقيقية، وحماية المصرف المركزي والمصارف، كلها مؤشرات على أن وزارة المالية لم تُدار كجهاز رقابي، بل كمساحة لتدوير الزوايا وحماية المتورطين. وفي المقابل، تُرك المواطن وحيدًا في مواجهة انهيار العملة، وضياع الودائع، وتآكل الأجور، وانهيار الخدمات، في واحدة من أوسع عمليات نقل الخسائر من السلطة إلى المجتمع.
ربما يكون الانهيار المالي قابلًا للمعالجة نظريًا، لكن انهيار الثقة أخطر وأعمق. فقد أدّى هذا الاحتكار الطويل لوزارة المالية (منذ العام 2014) إلى قطيعة نفسية وسياسية بين المواطن والدولة، حيث لم يعد اللبناني يرى في مؤسساته أي ملاذ أو حماية. ومع تكرّس الإفلات من العقاب، تحوّل اليأس إلى حالة عامة، والهجرة إلى خيار شبه وحيد، وتفكك العقد الاجتماعي الذي يقوم عليه أي كيان سياسي قابل للحياة. دولة بلا ثقة هي دولة معلّقة، مهما تغيّرت الحكومات أو تبدّلت الوجوه.
في ما يلي، ترتيب لوزراء المالية الشيعة منذ 2014:
إن أي حديث عن إنقاذ لبنان يبقى بلا معنى ما لم يبدأ من استعادة وزارة المالية إلى منطق الدولة، وكسر احتكارها، وإخضاعها لرقابة فعلية، وإعادة الاعتبار لمبدأ المداورة والمساءلة. فلا إصلاح اقتصادي ممكن من دون شفافية مالية، ولا سيادة حقيقية من دون قرار مالي مستقل، ولا نهوض من دون محاسبة واضحة لمن حوّل المال العام إلى أداة سلطة. لقد أثبتت التجربة أن احتكار الخزينة يدمّر الدول، وأن استعادتها شرط أولي لإعادة بناء الدولة.
في النهاية، يقف لبنان اليوم أمام مفترق حاسم: إما الاستمرار في منطق الاحتكار والفيتو والشلل، وما يعنيه ذلك من تعميق الانهيار، أو كسر الحلقة التي ربطت المال بالسياسة وبالحماية، وفتح مسار جديد يقوم على دولة مؤسسات لا دويلات نفوذ. فوزارة المالية ليست تفصيلًا في النظام، بل قلبه النابض، وإذا بقي هذا القلب أسير منظومة واحدة، فلن يكتب للبنان أي تعافٍ حقيقي، مهما تعددت الوعود وتغيّرت الشعارات.
























































