العالم لن ينسى لبنان
بقلم د. الياس ميشال الشويري
إن الزيارة البابوية ليست حدثًا بروتوكوليًا ولا محطة احتفالية تُضاف إلى روزنامة المناسبات الوطنية، بل هي لحظة كنسية–وطنية تتجاوز حدود الطقوس والصور لتصل إلى عمق الرسالة التي يحملها خليفة الرسول بطرس إلى الشعوب المتألمة. وحين يختار البابا أن يزور بلدًا مجروحًا مثل لبنان، فإن الزيارة تصبح فعل اعتراف عالمي بوجع هذا الوطن، وتأكيدًا أن الكنيسة الجامعة لا تترك أبناءها في العاصفة، ولا تقف متفرّجة على انهيار إنسانيتهم تحت ثقل الفساد والفوضى والحروب. فالزيارة البابوية إلى لبنان هي دخول الأب إلى بيت أبنائه المهدّد بالسقوط، واحتضان روحي يواسي الجراح التي لم تلتئم، ونفَس رجاء يُنقذ شعبًا يختنق بين آلام الماضي وقلق المستقبل.
وتكتسب هذه الزيارة معنى مضاعفًا لأنها تأتي إلى بلد تُشكّل المسيحية فيه عمقًا تاريخيًا ورسالة حضارية، لا مجرد طائفة. فالكرسي الرسولي يعرف تمامًا أن لبنان هو أحد آخر جسور التعددية في الشرق، وأن حماية نسيجه ليست شأنًا لبنانيًا محضًا، بل مسؤولية عالمية. لذلك تحمل الزيارة البابوية رسالة واضحة: أن العالم لم ينسَ لبنان، وأن الكنيسة لن تسمح بأن يتحوّل هذا البلد إلى ضحية صامتة بين أيدي منظومات الفساد والهيمنة والسلاح غير الشرعي. كما تذكّر اللبنانيين أنفسهم بأن وطنهم ليس مشروعًا للتفكك، بل مشروعٌ للقاء، وأن دورهم كمسيحيين ومسلمين ليس الاحتراب بل بناء الإنسان.
إن قيمة الزيارة تكمن أيضًا في قدرتها على إعادة ترتيب أولويات البلاد. فحيث عجز السياسيون عن بناء دولة، تأتي الكلمة البابوية لتعيد تعريف معنى الدولة نفسها: دولة العدالة، والشفافية، واحترام الإنسان، لا دولة الصفقات والمحاصصات والانهيار الممنهج. وحيث سقط المسؤولون في الخيانة والتقصير، يأتي البابا ليقول إن هذا الشعب يستحق أفضل، وإن نجاة لبنان ليست حلمًا مستحيلاً بل مسيرة تبدأ من اعتراف بالحقيقة والعودة إلى الضمير. وهكذا تصبح الزيارة البابوية نقطة تحول لا تُقاس بالوقت بل بالوعي الذي تزرعه، إذ توقظ الشعب، وتُحرج المنظومة، وتُعيد للبنان جذوره الروحية التي انبثق منها كي يكون وطنًا لا يشبه سواه: وطن رسالة، كما قال القديس البابا يوحنا بولس الثاني، لا وطن أزمات مفتوحة.

1. قيمة الزيارة إلى القديس شربل: بين التوبة، والشفاء، وعودة الإنسان إلى ذاته
ليست زيارة القديس شربل مجرّد رحلةٍ روحية أو نزهةٍ إلى دير عنايا، بل هي خبرة وجودية عميقة تلامس جوهر علاقة الإنسان بالله وبذاته وبوطنه. فالدروب المؤدية إلى ضريحه ليست ممرّات حجّ فقط، بل هي رمزية لمسارٍ داخليّ يعود فيه الإنسان من ضياعه إلى هدوء الإيمان، ومن صراعه مع ذاته إلى مصالحةٍ تُشبه القيامة بعد الانكسار. وحين يدخل الزائر كنيسة مار مارون أو يقف أمام الضريح المضيء، يشعر أنه يقف أمام ذاكرة مقدّسة تختصر آلام لبنان وأحلامه وجرحَه المفتوح منذ عقود. زيارة القديس شربل ليست بحثًا عن معجزة فحسب، بل بحثًا عن معنى، وعن قوة للاستمرار في وطن سحقته الطبقة الفاسدة وسرقت منه فرحه وكرامة أبنائه.
إنّ قيمة الزيارة تكمن أولًا في أنها عودة إلى الصمت، والصمت هو الشرط الأول لسماع صوت الله، ولرؤية الحقيقة كما هي بلا تزييف. فالعالم يجرّ الإنسان إلى صخبٍ يشتّت قلبه، وتأتي زيارة القديس شربل كمساحة شفاء تهدّئ الروح، تُطفئ غضبها، وتُعيد إليها قدرتها على التفكير الواضح. من هنا، يشعر الحاجّ أنّ القديس لا يصنع معجزته من الخارج فقط، بل يوقظ في الداخل شيئًا كان نائمًا: ضميرًا تجرّحه الحياة، أو إيمانًا تآكلته الخيبات، أو رجاءً كاد يختفي. وهذا ما يجعل زيارات القديس شربل متواصلة من كلّ الطوائف والانتماءات، لأنّ الجميع يحتاج إلى لحظة يقف فيها الإنسان أمام الحقيقة، دون أقنعة.
القيمة الثانية للزيارة تكمن في لقاء الإنسان ببساطة القداسة. القديس شربل لا يستقبل زوّاره بتماثيل ضخمة أو مظاهر بهرجة، بل يستقبلهم بصمتٍ مطلق، وبنورٍ خافت، وبحضورٍ روحيّ يهزم كل ضجيج العالم. نعم، يدخل الزائر إلى ضريحٍ صغير متواضع، لكنه يشعر بأنه يدخل إلى فضاء رحب يُغمر فيه قلبه بنعمة غير منظورة. هذا التواضع هو ما يجعل زيارة القديس شربل مغايرة لكل زيارة أخرى: هي ليست زيارة شخصية تاريخية، بل لقاء مع إنسان عاش الفقر الطوعي، فصار غنًى روحيًا لكل البشرية. وهنا يفهم الزائر أن القداسة ليست مسافة بعيدة عنه، بل دعوة إليه: أن يعيش ببساطة، بصدق، وبمحبة، كما عاش القديس شربل.
القيمة الثالثة للزيارة هي أنها خبرة وطنية قبل أن تكون دينية. فالزائر يرى في القديس شربل شكل لبنان الحقيقي: لبنان الذي يُشِعّ نورًا، لا لبنان الذي يُطفئه الفاسدون؛ لبنان القداسة والرجاء، لا لبنان السرقة والانهيار؛ لبنان الذي يقصده العالم طلبًا للسلام، لا لبنان الذي شرّده السياسيون وجعلوه ساحة صراع. ولذلك، يشعر كثيرون في عنايا بشيء يتجاوز الروحانية الفردية: يشعرون بأنهم أمام “لبنان الممكن”، أمام الوطن الذي يحلم به الجميع، وطنٌ يعيش فيه الناس لقاءً لا صراعًا، ومحبةً لا كراهية، وكرامةً لا إذلالًا. زيارة القديس شربل تصبح، بهذا المعنى، فعل مقاومة روحية في وجه المنظومة التي قتلت فرح شعبها: مقاومة بالرجاء، لا بالسلاح؛ بالقداسة، لا بالفساد؛ بالنور، لا بالظلام.
وهكذا، تتحوّل زيارة القديس شربل إلى مكان يستعيد فيه الإنسان ذاته، ويستعيد وطنه، ويستعيد علاقته بالله. إنّها رحلة قصيرة في المكان، لكنها رحلة طويلة في الداخل. ومن يعود من عنايا لا يعود كما ذهب؛ يعود أخفّ، أعمق، أهدأ، وأكثر قدرة على مواجهة قساوة الحياة. يعود وهو يعرف أن الله لا يزال يعمل في هذا البلد، وأنّ القداسة أقوى من المنظومة، وأنّ نور القديس شربل قادر على أن يشقّ طريقًا جديدة في ليل لبنان الطويل.

2. قيمة الزيارة إلى سيدة لبنان – حريصا: حيث تحتضن الأم وطنًا متألّمًا وتنهض منه رسالة الرجاء
إنّ الصعود إلى سيدة لبنان – حريصا ليس نزهة روحية عابرة، ولا زيارة مزار كبقية المزارات، بل هو حجٌّ داخليّ يختبر فيه الإنسان معنى العودة إلى الذات، ومعنى الوقوف أمام أمٍّ تحمل وطنًا بكامله بين يديها. ففي الزمن الذي يتهاوى فيه لبنان تحت الفقر والفساد والانهيارات، تبقى حريصا المكان الوحيد الذي يشعر فيه الزائر أنّ السماء ما زالت تُطلّ على الأرض، وأنّ العذراء لم تتخلَّ عن أبنائها، وأنّ الرجاء أقوى من السقوط.
تبدأ قيمة الزيارة من لحظة الصعود إلى الجبل. فمشهد بيروت وجبيل وكسروان الممدودة تحت قدمي العذراء ليس مشهدًا جغرافيًا فحسب، بل هو رمزٌ لاحتضان الأم لأبنائها. كلّ مدينة، كلّ قرية، كلّ حيّ يختبئ تحت نظرة العذراء، وكأنها تقول للبنانيين: “أعرف جراحكم؛ أرى أوجاعكم؛ وأرافقكم في صمتٍ أكثر قوة من خطابات السياسيين ومسرحيات المنظومة”. هنا، يشعر الزائر أن حضور مريم ليس حضور تمثال، بل حضور أمّ تُعيد وصل ما قطعته السياسة والطائفية والسرقة والتدمير.
أما البعد الثاني للزيارة فهو بعد التلاقي. فسيدة لبنان هي المكان الوحيد في البلاد الذي يزورُه المسيحيّ والمسلم، اللبناني والمغترب، المؤمن والباحث والمتألّم، دون خوف ودون حسابات. إنّه المكان الذي فيه يذوب الانقسام، وتختفي اللغات الطائفية، وينتصب الصمت فوق كلّ الضجيج. هناك، يصبح لبنان—ولو لساعات قليلة—ما أراده الله له: أرضًا للصلاة، لا ساحة صراع؛ وطنًا للتلاقي، لا مساحة قطيعة؛ وشعبًا واحدًا، لا جماعاتٍ تتناحر تحت راية الفساد والتبعية. وهكذا، تتحوّل الزيارة إلى فعل شفاعة من أجل شعبٍ يحتاج إلى معجزة، وإلى لحظة تذكير بأن الوحدة ممكنة إن كانت تقوم على الأم التي تجمع ولا تفرّق.
القيمة الثالثة هي البعد الروحي القائم على خبرة الصمت أمام العذراء. فالصمت في حريصا ليس فراغًا، بل امتلاء. ليس هروبًا، بل مواجهة: مواجهة الذات، مواجهة الحدّة التي تعصف بالنفس، مواجهة الخوف من المستقبل، مواجهة وجع لبنان الذي يسكن كل واحد منا. هناك، أمام تمثال العذراء، يشعر الزائر أن دموعه مسموعة، وأن صلاته مقبولة، وأن الله يفتح نافذة رجاء في حياةٍ ينهشها الألم. وهنا تكمن عظمة الزيارة: أنّها لا تُعطي حلولًا سحرية، لكنها تمنح الإنسان القدرة على الصمود.
القيمة الرابعة للزيارة تكمن في البعد الوطني. فحريصا تشكّل في الوعي المسيحي واللبناني معًا رمزًا للثبات: ثبات الإيمان وثبات الرسالة وثبات الهوية. في بلدٍ تتهاوى فيه المؤسسات وتتفكّك الدولة وتنهار العدالة، تبقى سيدة لبنان علامة لا تُهزَم. ولذلك، يشعر اللبناني وهو يزور المزار أنّ العذراء ليست فقط أمًا روحية، بل هي أيضًا شاهدة على تاريخ هذا الوطن: على ولادته، على حروبه، على خيانات المنظومة، على دماء شهدائه، وعلى صمود شعبه. وهنا، تصبح الزيارة فعل مقاومة: مقاومة اليأس، مقاومة الهجرة القسرية، مقاومة القبول بالواقع المجرم الذي فرضته الطبقة السياسية الفاسدة.
القيمة الخامسة تكمن في إعادة اكتشاف الذات. فكم من أشخاص صعدوا إلى حريصا منكسري القلوب، وعادوا وفي داخلهم نورٌ جديد! ليس لأن مشاكلهم انتهت، بل لأنهم وضعوا أعباءهم في حضن مريم، وخرجوا كمن أُعيد خلقه. في المزار، يشعر الإنسان أن العالم يصبح مفهومًا أكثر، وأن الحياة رغم قسوتها تستحق أن تُعاش بكرامة. إنها زيارة توقظ في القلب الشجاعة: شجاعة الغفران، شجاعة الكلام، شجاعة المواجهة، وشجاعة البداية الجديدة.
القيمة الأخيرة والأعمق أنّ الزيارة إلى حريصا هي عودة إلى الأم. والأم في اللاهوت ليست فقط والدة ابن الله، بل هي القلب الذي يحفظ كل شيء، ويرافق كل خطوة، ويحتضن كل ضعف. لذلك، يشعر الزائر أنّه إن وضع جرحه بين يديها، فإنها تحمله إلى ابنها، وأن صلاته المكسورة تصبح على جبل حريصا صلاة قوية، قادرة على أن تغيّر النفس، وأن تغيّر البيت، وأن تغيّر الوطن.

3. قيمة الزيارة إلى دير الصليب: بين تطهير الألم وكرامة الإنسان
ليست زيارة دير الصليب مجرّد الدخول إلى حرمٍ رهباني أو إلى مؤسسة تُعنى بمرضى النفس والجسد، بل هي عبور إلى مساحةٍ تتقاطع فيها قداسة الألم، وكرامة الإنسان، وحضور الله في أعمق هشاشات الوجود. فالدير، بتاريخ رسالته، يشكّل أحد أبرز الشواهد على إيمان الكنيسة بأن الإنسان، مهما تكسّرَت نفسه أو جُرِحَت روحه، يبقى ابن الله وصورته، ويستحق الاحترام والعناية والشفاء. لذلك، تصبح الزيارة إليه بمثابة مدرسةٍ روحية تجعل الزائر يخرج من ذاته، من أحكامه المسبقة، ومن ضيق نظرته إلى الحياة، ليدخل في فهمٍ أرحب لمعنى الوجع ومعنى الرجاء.
إنّ قيمة الزيارة إلى دير الصليب تبدأ من لقاء الإنسان بالإنسان: لقاء القلب السليم بالقلب المجروح، ولقاء المُعافَى بالمتألّم، ولقاء العاقل بمن يتواجه يوميًا مع عواصف داخله. وهذا اللقاء—حين يُعاش بصدق—يدفع الزائر إلى إعادة النظر بكل المفاهيم التي زرعها المجتمع حول الاضطراب النفسي أو المعاناة العقلية. في لحظة، يكتشف أنّ هؤلاء المرضى ليسوا “آخرين“، بل هم جزء منّا، يحملون هشاشتنا نفسها ولكن بوضوح أكثر. هنا، يتحوّل الدير إلى درس كبير في الرحمة: الرحمة تجاه الآخرين، وتجاه ضعفنا الشخصي، وتجاه واقع بلد لم يمنح أبناءه سوى ضغوطٍ وجراحٍ وبؤسٍ نفسي لا يُحتمل.
أما القيمة الثانية للزيارة فهي البعد الروحيّ. فدير الصليب ليس مجرد مؤسسة طبية، بل هو مشروع لاهوتي كامل يؤمن بأن الشفاء الحقيقي يبدأ عندما نضع الألم تحت نور الصليب. في الكنيسة الصغيرة، في الممرات، في الصمت الذي يلف المكان… يشعر الزائر بأن الله قريب من المكسورين أكثر ممّا يبدو. هناك، حيث تتقاطع صلوات الرهبان مع آهات المرضى، يتجلّى معنى الصليب ليس كرمز للموت، بل كجسرٍ يربط الإنسان بالرجاء. في دير الصليب، يفهم الزائر أنّ القداسة ليست فقط للذين يصنعون المعجزات، بل أيضًا للذين يصارعون في الداخل كي يبقوا أحياء. وهنا، يتحول الدير إلى مساحة صلاة من نوع آخر: صلاة صامتة ترفع عن الغير، صلاة مشاركة، صلاة تعزية للإنسان أمام قسوته على نفسه.
القيمة الثالثة للزيارة تكمن في بُعدها اللبنانيّ. فدير الصليب، بما يحمله من رسالة إنسانية، يشكّل نقيضًا كاملًا للبنية السياسية الفاسدة التي حوّلت شعب لبنان إلى عبء على ذاته، وزرعت في بيوته المرض والخوف واليأس. بينما المنظومة تصنع الإذلال، يصنع الدير الكرامة؛ بينما تصنع السلطة الاحتقار، يصنع الرهبان الرحمة؛ بينما يرفض السياسي أن يرى الإنسان، يحتضنه الدير حتى النهاية. ومن هذه المقارنة يولد سؤال كبير في قلب الزائر: كيف لديرٍ متواضع الإمكانيات أن يمنح الإنسان أكثر ممّا تمنحه دولة كاملة؟ وهنا، تصبح الزيارة فعل إدانة صامتة لكل من سرق الأمن النفسي والاجتماعي من اللبنانيين، وفعل إيمان بأن الروحانية يمكن أن تُنير ما عجزت السياسة عن إصلاحه.
الزيارة إلى دير الصليب تحمل قيمة رابعة أساسية: المصالحة مع الذات. فالكثيرون يدخلون الدير محمّلين بهمومهم، ويخرجون بشيء من الهدوء والطمأنينة، ليس لأنهم نالوا معجزة، بل لأن الدير يذكّرهم أنّ الحياة ليست سباقًا، بل عبور؛ وأن الإنسان ليس آلة إنتاج، بل قلب يبحث عن معنى؛ وأنّ كل واحدٍ منّا يحتاج إلى مكان آمن يعترف بضعفه دون خجل. في الدير، يُسقِط الزائر القناع الذي يلبسه في الخارج، ويقف أمام ذاته كما هي، فيكتشف أن الشفاء يبدأ من الاعتراف، وأن الرجاء يبدأ من الصدق.
وهكذا، فإن قيمة الزيارة إلى دير الصليب ليست فقط روحية أو نفسية أو اجتماعية، بل هي خبرة إنسانية كاملة تعيد صياغة الطريقة التي نرى بها أنفسنا والآخرين. إنّها زيارة تذكّرنا أنّ كل إنسان—بغض النظر عن حالته—هو سرٌّ مقدّس، وأن لبنان، رغم جراحه، لا يزال يملك أماكن تُعيد إلينا معنى الإنسانية التي حاولت المنظومة دفنها.

4. قيمة اللقاء مع الشبيبة في بكركي: حيث يولد الرجاء من قلب الجرح اللبناني
إنّ اللقاء مع الشبيبة في بكركي ليست حدثًا رعويًا عابرًا، ولا نشاطًا شبابيًا روتينيًا تنظّمه الكنيسة بين حينٍ وآخر، بل هي لحظة استثنائية تُعيد إلى المسيحيين، وإلى اللبنانيين عمومًا، معنى الرجاء، ومعنى الرسالة، ومعنى أن يكون الإنسان نورًا في وطنٍ تكاد تغرقه الظلمة. فاللقاء مع البطريرك—أب الكنيسة المارونية ورمز ثباتها التاريخي—يمثل في وعي الشباب أكثر من مجرّد خطاب: هو احتضان أبويّ لجيلٍ مكسور، وتجديد عهد بين الكنيسة وشبابها بأنّ المستقبل لم يُدفن، وأنّ لبنان لم يُسلّم بعد لقوى الانهيار.
تبدأ قيمة زيارة الشباب في بكركي من البعد الهويّاتي العميق: فبكركي ليست مبنى، بل هي ضمير؛ ليست مقرًّا كنسيًا، بل ذاكرة وطنٍ صمد رغم الحروب والاحتلالات والانهيارات. حين يدخل الشاب باحة الصرح، يشعر أنه يدخل فضاءً أكبر من ذاته، فضاءً يشبه صفحات التاريخ التي كتبتها الكنيسة بدم شهدائها، وبصلابة بطريركاتها، وبنَفَسٍ وطنيّ جعل من بكركي “ميزانًا” يُعيد تصويب الاتجاه كلما ضلّ الوطن طريقه. وهذا الشعور يضع الشباب أمام مسؤولية: أنّ هويتهم المسيحية ليست مجرّد طقوس، بل رسالة أن يكونوا “ملح الأرض ونور العالم“.
أما القيمة الثانية فهي قيمة اللقاء ذاته: لقاء أجيال جديدة تبحث عن معنى، بشخصية روحية–وطنية تتجاوز الرمزية إلى الفعل. الشباب في لبنان يعيشون تحت وطأة واقع خانق: انهيار اقتصادي، تلاشي مؤسسات، كذب سياسي، عنف اجتماعي، وغياب أي أفق. وسط كلّ هذا، يصبح اللقاء مع البطريرك ومؤسسات بكركي فعل مقاومة روحية ضد اليأس، وفرصة لاستعادة صوتٍ داخلي كاد يختفي. في بكركي، يشعر الشاب أنه ليس وحيدًا، وأن الكنيسة لا تزال تعتبره قلب رسالتها. وهذا بحد ذاته شفاءٌ لجيلٍ خُذلَ من الدولة، ومن الطبقة الفاسدة، ومن منظومة جعلت الموت والهجرة قدرًا.
القيمة الثالثة للزيارة تكمن في المساحة التي تفتحها بكركي للحوار الحقيقي. ففي بلدٍ تحكمه “ثقافة القطيع” والانقسامات السياسية الطائفية، يصبح الحوار بين الشباب والبطريركية شكلًا من أشكال تحرير الوعي. هنا، يتعلّم الشاب أنّ الكنيسة ليست سلطة فوقه، بل أمّ تستمع، ترافق، وتُضيء الدرب. في زمن التهجير النفسي والمعنوي، يأتي هذا الحوار ليقول للشباب: “أنتم لستم مشروع هجرة، بل مشروع وطن”، وأنّ الكنيسة لا تكتفي بتوثيق الألم، بل ترافق أبناءها كي يحوّلوا الألم إلى فعل نهضة.
القيمة الرابعة هي القيمة الروحية. فلقاء الشبيبة في بكركي يذكّر الجيل الجديد بأن علاقة الإنسان بالله ليست فكرة نظرية، بل خبرة حياة تُعاش. تُعلّمهم بكركي أن القداسة ليست بعيدة، وأن الإيمان ليس رفاهية، بل حاجة يومية كي يعيش الإنسان بكرامة في بلدٍ يقتل كرامة شعبه كل يوم. في المكان نفسه حيث صلّى البطاركة، ورُسمت القرارات المصيرية، يشعر الشباب بأن الإيمان قوة، وأن الروحانية ليست هروبًا من الواقع، بل إعادة تشكيل للواقع بنور المسيح.
أمّا القيمة الخامسة فهي البعد الوطني: ففي بكركي، يدرك الشباب أنّ الكنيسة ليست فقط حاضنة روحية، بل هي ضمانة بقاء لبنان. وحين يلتقون بالبطريرك، يلمسون أنّ صوت بكركي صار اليوم آخر حصن في وجه الاحتلالات السياسية، وأمام مشاريع تفكيك الدولة، وتحويل الوطن إلى غابة تحكمها الميليشيات والمحاور. بهذا المعنى، تصبح الزيارة إلى بكركي فعل انتماء للبنان الحلم، لبنان الذي أراده البطاركة وطنًا للحرية والرسالة. في هذا اللقاء، يشعر الشاب أنّ كلمته مسموعة، وأنه شريكٌ في مستقبل الوطن وليس مجرد رقم في لوائح الهجرة.
القيمة السادسة والأعمق هي أنّ اللقاء في بكركي يصنع إحساسًا جديدًا بالكنيسة كعلامة رجاء. في عالمٍ ينهار، وفي وطنٍ يختنق، تصبح هذه الزيارة لحظة يُعيد فيها الشاب اكتشاف أنّ الرجاء أشدّ قوة من الموت، وأن النور يبقى أقوى من ظلام المنظومة، وأن الكنيسة—بكل ضعفها وقوتها—لا تزال قادرة على أن تكون “ساحة لقاء وليس ساحة صراع“، تمامًا كما يعلّم القديس شربل. وهنا، يشعر الشاب بأن الرسالة التي يحملها ليست فقط روحية، بل وطنية أيضًا: أن يكون عامل سلام، وباني جسور، وصوت حقيقة في زمن الأكاذيب.

5. قيمة الزيارة إلى مرفأ بيروت حيث وقع الانفجار
إن الزيارة إلى مرفأ بيروت، الموقع الذي هزّ العالم في الرابع من آب 2020، ليست مجرد محطة رمزية تُضاف إلى برنامج زيارة روحية أو رعوية، بل هي نزولٌ إراديٌ إلى الجرح المفتوح الذي ما زال ينزف في جسد لبنان، ودخولٌ مباشرٌ إلى قلب المأساة التي كشفت عورات السلطة الفاسدة، وانهيار الأخلاق العامة، وسقوط الدولة أمام مواطنيها. إن الوقوف على تراب المرفأ هو وقوف أمام الحقيقة نفسها، أمام الصرخات التي لم تُسمَع، والدموع التي لم تُمسَح، والعدالة التي لم تتحقق. إن الزيارة إلى هذا المكان لا تعيد إحياء لحظات الألم فقط، بل تُحوّل الفاجعة إلى التزام مُعلَن بأن ما جرى لن يدخل النسيان، وأن الضحايا ليسوا أرقامًا، بل أبناء هذا الوطن، ووجوهًا وابتسامات وأحلامًا سُرقت في لحظة إهمال وفوضى وفساد.
وللقيمة الروحية في هذه الزيارة بُعدٌ آخر، إذ تُعيد إلى اللبنانيين معنى “لاهوت الألم” و”سرّ المشاركة“. فالمسيح لم يفدِ العالم من بعيد، بل نزل إلى حيث الألم، وحيث الضعف، وحيث الظلم، ليحوّل الصليب إلى قيامة. وهكذا فإن زيارة المرفأ تحمل المعنى نفسه: لا قيامة للبنان من دون النزول إلى الصليب الذي حمله، ولا خلاص من دون مواجهة الحقيقة مهما كانت قاسية. إن المرفأ اليوم هو مرآة ضمير، ومن يقف فيه يقف أمام سؤال كبير: أي وطن نريد؟ وطن يقوم على الكرامة والحق، أم وطن يُترك في يد سفلة السلطة الذين حوّلوا الدولة إلى نهب ومؤسساتها إلى دكاكين؟ لذلك تصبح الزيارة فعل توبة جماعية، ونداء إصلاح، وصلاة على نية أن يعود لبنان دولة لا مزرعة، ومؤسسات لا عصابات، وعدالة لا صفقة.
أما البعد الوطني لهذه الزيارة فيكمن في أنها تُعيد توجيه البوصلة نحو ما يجب أن يكون محور النضال: كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين. فكل زيارة للمرفأ هي رفض للصمت، ورفض للمساومة، ورفض للمصالحة مع الجريمة. هي تذكير بأن السلطة التي تغطي القتلة ليست سلطة بل خيانة، وأن الضحايا ينتظرون من يعيشون لا من رحلوا. إنها أيضًا استعادة لحق بيروت أن تُعانق العالم من جديد، لا عبر الدمار الذي شاهدته الشاشات، بل عبر إرادة شعب يرفض أن يعيش منكسرًا. فالزيارة إلى المرفأ هي إعلان لولادة لبنان آخر، لبنان الذاكرة الصادقة، لبنان العدالة المنشودة، لبنان الإنسان الذي لا يموت تحت الركام بل يقوم، لأنه يؤمن أن الرب يسكن حيث يبحث الناس عن الحقيقة، لا حيث يصنع الفاسدون الأكاذيب.

6. قيمة القدّاس في ساحة الشهداء
إن إقامة القدّاس الإلهي في ساحة الشهداء ليست مجرد احتفال ليتورجي في ساحة عامة، بل فعل هوية، وولادة جديدة لمعنى الشهادة، ومساحة يلتقي فيها التاريخ بالإيمان، والذاكرة بالرجاء، والدمع بالصلاة. فساحة الشهداء ليست مكانًا عاديًا؛ إنها قلب بيروت، ومنبر الحرية منذ القرن التاسع عشر، ورمز انتفاضات الناس ضد الطغيان والاحتلال والظلم. في هذا المكان الذي شهد على حبال المشانق، وعلى مظاهرات طلب الاستقلال، وعلى دماء المقاومين، ينزل القدّاس ليحوّل الجراح إلى حضور إلهي، والألم إلى صلاة، والذاكرة إلى عهد جديد. إن القدّاس هنا هو عودة الروح إلى الأرض التي ارتوت بالدماء، وعودة صوت الله إلى حيث صمتت ضمائر الحكّام، وعودة الحقيقة إلى ساحة حاولوا مرارًا طمسها بالباطل.
وتكمن القيمة الروحية لهذا القدّاس في أنه يعيد تعريف مفهوم الشهادة نفسه. فالشهداء الذين سقطوا عبر التاريخ اللبناني لم يموتوا في سبيل طائفة ولا حزب ولا زعيم، بل ماتوا في سبيل الإنسان والحرية ولبنان. ومن خلال القدّاس تُقدّم هذه الشهادة قربانًا على المذبح، لتصبح رمزًا لحياة جديدة تُبنى على التضحية الصادقة لا على المتاجرة بدماء الناس. وفي حضور المؤمنين من مختلف المناطق والطوائف، يتحوّل القدّاس إلى لحظة وحدة حقيقية، لا إلى حالة فولكلورية أو خطاب سياسي. هنا، في الهواء الطلق، حيث السماء مفتوحة فوق رؤوس الحاضرين، يصبح المذبح نقطة لقاء بين الأرض والسماء، وتصبح ساحة الشهداء كنيسة من دون جدران، يدخل إليها كل من يبحث عن معنى، وعن عدالة، وعن وطن لا يُباع في صفقات الطوائف ولا يُنهب على يد الفاسدين.
أما البعد الوطني لهذا القدّاس، فهو أكثر عمقًا من مجرد فعل رمزي. فإقامة الصلاة في ساحة الشهداء تعيد وضع لبنان في حجمه الحقيقي: بلد قدّمه أبناؤه قرابين على مذبح الحرية، لا بلدًا سجنه زعماؤه في دائرة الفساد والقمع والانهيار. إنها لحظة تُذكِّر بأن لبنان ليس ملك الميليشيات ولا المصارف ولا القوى التي خرّبت الدولة، بل هو ملك هؤلاء الشهداء الذين ماتوا ليبقى الوطن واقفًا. إن القدّاس في الساحة هو رسالة إلى كل مسؤول متورّط في دم الناس أو سرقتهم أو قمعهم: أن هناك يوم حساب، وأن الذاكرة ليست للبيع، وأن لبنان، مهما انكسر، يحمل في داخله قدرة القيامة. وفي الوقت نفسه، هو رسالة رجاء إلى الشعب بأن الخلاص لا يأتي من صفقات السياسيين، بل من وعي الناس ووحدتهم وصلاتهم وإيمانهم بأن الرب لا يترك شعبه، وأن الشهادة ليست موتًا بل بداية لنهضة وطنية حقيقية.

7. الخاتمة: قيمة الزيارة البابوية
في نهاية المطاف، تُثبت الزيارة البابوية إلى لبنان أنها ليست مجرد محطة روحية عابرة، بل حدث تأسيسي يعيد رسم ملامح الرجاء في وطن أرهقته الخيانات الداخلية والضغوط الخارجية. إن حضور البابا بين شعبٍ جريح يشبه دخول النور إلى بيت انطفأت مصابيحه، وكأن الكرسي الرسولي أراد أن يعلن للعالم أن لبنان، رغم انهياراته، لا يزال يستحق الحياة، وأن رسالته لم تنتهِ مهما حاول الفاسدون دفنه تحت ركام فسادهم. فالزيارة تُعيد للبنانيين الثقة بأن قضيتهم ليست منسيّة، وأن وجعهم له مكان في قلب الكنيسة الجامعة، وأن صوتهم، مهما حاولت المنظومة إسكاتَه، يجد من يسمعه في أعلى مرجعيات الكنيسة.
وتكمن قيمة هذه الزيارة أيضًا في أنها تُسقط الأقنعة عن الوجوه السياسية التي احترفت تحويل الدولة إلى غنيمة، وفي الوقت نفسه تُعيد الاعتبار إلى الإنسان كجوهر الحياة الوطنية. فحين يضع البابا يده على جراح بيروت، ويبارك شهداء المرفأ، ويلتقي بالشباب الذين يبحثون عن مستقبل مختلف، فإنه يضع معيارًا جديدًا للقيادة: قيادة تُنصت، وتَخدم، وتَشعل الأمل، لا قيادة تُخرّب وتنهب وتخدع. إن الزيارة البابوية، بحدّ ذاتها، هي محكمة أخلاقية تَدين كل من شارك في إيصال البلاد إلى الهاوية، وتُعلن أن خلاص لبنان لا يأتي من صفقات السياسيين، بل من عودة الضمير الوطني والإيمان العميق بأن الإنسان أهم من الطائفة، والعدالة أهم من الكرسي، والحقيقة أهم من أي سلطة.
وهكذا، تُصبح الزيارة البابوية دعوة مفتوحة للبنانيين جميعًا كي ينهضوا من تحت الرماد، ويحوّلوا الألم إلى قوة تغيير. إنها خاتمة تُشبه بداية جديدة، تُذكّر بأن لبنان هو أرض لقاء لا أرض نزاع، وأن المسيحيين فيه مدعوون — ليس إلى التراجع والانكماش — بل إلى أن يكونوا خميرة في مجتمعٍ ينهشه الانهيار. فالزيارة ليست نهاية الحدث، بل شرارة لمسار متواصل، مسار يعيد للبنان رسالته الأصلية: أن يكون وطنًا للحرية، والكرامة، والإنسان، مهما كثُر الظلم، ومهما تجبّر الساسة، ومهما بكت بيروت على ضحاياها. إن الزيارة البابوية تقول للبنان: لم يُخلق هذا الوطن ليموت… بل ليقوم.
كلمة أخيرة: الزيارة وشكر من القلب لكل من ساهم في زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر
الزيارة ليست مجرد تقليد عابر، بل هي نبض الحياة الروحية الذي يجمع اللبنانيين على المحبة والاحترام والتقدير لمقدساتهم. في هذه الزيارة التاريخية لقداسة البابا لاوون الرابع عشر، تحولت الزيارة إلى لوحة وطنية ومقدسة، تجسّد وحدة اللبنانيين وتلاحم قلوبهم على أرض تتشبع بالإيمان والكرامة. هي لحظة تتجلّى فيها الروحانية في أبهى صورها، حيث يلتقي الماضي العريق مع الحاضر المشرق، فتختلط الدموع بالفرح، ويعلو صدى الصلاة مع الهتافات الترحيبية التي تعبّر عن الانتماء والوفاء للوطن والكنيسة.
ولا يمكن لهذه اللحظة المباركة أن تتحقق إلا بفضل الجهود الجبارة التي بذلها كل من شارك في التحضيرات والتنظيمات. لكل رجل دين، ولكل متطوع، ولكل موظف، ولكل قوة أمنية ساهمت في هذا الحدث، نتوجه بشكر القلب وامتنان الروح. فقد كان عملهم أكثر من تنظيم؛ كان رسالة محبة وإخلاص، جسّد فيها اللبنانيون روح التضامن والتعاون، وظهر فيها لبنان بأبهى حلله أمام العالم، مستقبلاً قداسة البابا بأناقة الروح وسمو الأخلاق.
الزيارة هي رسالة للعالم أن لبنان قادر على الانتصار على التحديات من خلال وحدته وتماسك أبنائه، وأن الروح المسيحية اللبنانية ليست حبرًا على ورق، بل حياة وعمل وتضحية. نجاح زيارة البابا لاوون الرابع عشر هو ثمرة تضافر القلوب والجهود، ودليل على أن لبنان، مهما كانت الصعاب، يظل بلد المحبة والإيمان، بلد القلوب التي تتحد على الخير والصلاح. في كل خطوة من خطوات الزيارة، وفي كل ابتسامة استقبلت قداسة البابا، نقرأ قصة وطن حيّ لا يموت، وقصة شعب يستحق الفخر والاعتزاز.























































