القربان المقدس وطلب الغفران
د. الياس ميشال الشويري
التسامح هو إحدى الفضائل الإنسانية التي دعت إليها الديانات والفلسفات على مر العصور. في المسيحية، يُعتبر التسامح قيمة أساسية، حيث دعا الربّ يسوع إلى محبّة الأعداء والصلاة من أجل الذين يسيئون إلى الآخرين. واحدة من أعمق صور التسامح التي جسّدها الربّ يسوع هي صلاته على الصليب عندما قال: “يا أَبَتِ ٱغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون” (لوقا 23: 34). هذا التعبير عن التسامح يأتي في وقت كان فيه المسيح يعاني من ألم لا يوصف، لكنه رغم ذلك اختار المسامحة.
ولكن، كيف يُمكن تطبيق هذا المبدأ في سياق سياسي معقّد مثل لبنان؟ في بلد عاش لعقود طويلة من الحروب الأهلية والانقسامات السياسية، قد يجد البعض صعوبة في تبنّي التسامح تجاه قادة ومسؤولين يدركون تمامًا ما يفعلونه. فما هو دور التسامح في هذا السياق، وهل يجب أن يكون مطلقًا أم محدودًا؟ هذا المقال يُعالج هذه التساؤلات من خلال فهم عميق للتسامح المسيحي وتحدّيات تطبيقه في واقع لبنان السياسي.
1-التسامح في التعاليم المسيحية
وتحت هذا العنوان تندرج نقطتان أساسيتان:
-التسامح في المسيحية. في المسيحية، يُعتبر التسامح جزءًا من أخلاقيات المحبّة. السيّد المسيح دعا إلى محبة الأعداء “أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم” (متى 5: 44) وهو مفهوم يتجاوز الانتقام أو الكراهية التي قد تنشأ من الظلم. التسامح لا يعني التغاضي عن الأفعال السيئة، بل هو فعل شخصي يهدف إلى تحرير الفرد من دائرة الكراهية والعنف. المسيحية تُعلّم أن الانتقام ليس من شأن الإنسان، بل هو من اختصاص الله وحده “لا تَنتَقِموا لِأَنْفُسِكم أَيُّها الأَحِبَّاء، بل أَفسِحوا في المَجالِ لِلغَضَب … لِيَ الِانتِقامُ وأَنا الَّذي يُجازي” (رومية 12: 19).
-التسامح على الصليب. أعمق مثال على التسامح في المسيحية هو ما فعله الربّ يسوع على الصليب عندما دعا الله ليغفر لصالبيه. هنا، تتجلّى فكرة أن الشخص المسيحي يجب أن يكون قادرًا على مسامحة حتى من ارتكب أفظع الجرائم ضدّه. الربّ يسوع لم يطلب فقط الغفران لهم، بل برّر أفعالهم بأنهم “لا يعلمون ما يفعلون”. هذا يثير تساؤلًا: ماذا عن أولئك الذين يعلمون تمامًا ما يفعلونه؟
2-مفهوم التسامح في الفكر السياسي.
وتحت هذا العنوان تندرج أيضاً نقطتان أساسيتان:
–التسامح والمساءلة. في السياسة، يُعتبر التسامح مفهومًا معقّدًا. في الأنظمة الديمقراطية الحديثة، قد يُطلب من المواطنين التسامح مع بعض قرارات الحكومة، لكن هذا لا يعني التنازل عن المساءلة. هنا، يبرز التساؤل حول متى يكون التسامح محلاً للجدل، خاصة في حالة وجود قرارات سياسية أو أفعال تمّ تنفيذها مع معرفة كاملة بعواقبها. التسامح في هذا السياق قد يُنظر إليه على أنه تواطؤ إذا لم يقترن بالمحاسبة.
–التسامح والعدالة الانتقالية. في حالات ما بعد الصراع، كما هو الحال في لبنان بعد الحرب الأهلية، يُستخدم التسامح أحيانًا كجزء من العدالة الانتقالية. في هذه الحالات، قد يُطلب من الضحايا مسامحة مرتكبي الجرائم كجزء من عملية المصالحة الوطنية. لكن، هذا النوع من التسامح غالبًا ما يتطلّب توازنًا دقيقًا بين المسامحة والمحاسبة، حيث يمكن أن يؤدّي عدم توافر العدالة إلى تفاقم الانقسامات.
3-لبنان – تحديات التسامح في واقع سياسي معقّد
وتحت هذا العنوان، تندرج ثلاث نقاط:
–الواقع السياسي في لبنان. لبنان هو بلد معقّد سياسيًا واجتماعيًا بسبب تنوّعه الطائفي، وهو ما جعله عرضة للصراعات والحروب. منذ انتهاء الحرب الأهلية في عالام 1990، شهد لبنان سلسلة من الأزمات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية. القيادة السياسية في لبنان كثيرًا ما تُتهّم بعدم القدرة على إدارة البلاد بطريقة تعزّز الاستقرار والازدهار، بل تُتهّم بالفساد والمحسوبية.
–التسامح في مواجهة الأزمات السياسية اللبنانية. في سياق لبنان، قد يكون من الصعب على المواطنين ممارسة التسامح كما دعا إليه الربّ يسوع تجاه القادة والمسؤولين الذين يُنظر إليهم على أنهم يتحمّلون مسؤولية مباشرة في الأزمات المتتالية. الأزمة الاقتصادية التي بدأت في 2019 كانت نتيجة سياسات اقتصادية غير مسؤولة على مدى عقود، وتفاقمت بسبب الفساد المستشري في مؤسسات الدولة ونهب المال العام والخاص. في هذه الحالة، من الصعب القول إن المسؤولين “لا يعلمون ما يفعلون“.
–دور التسامح في التحوّل السياسي والاجتماعي. هل يمكن أن يكون التسامح وسيلة لتجاوز هذه الأزمات؟ قد يكون الجواب نعم، ولكن بشرط أن يكون التسامح مصحوبًا بمساءلة. التسامح الذي لا يقوم على تحقيق العدالة قد يؤدّي إلى شعور بالإحباط والغضب، ممّا يزيد من حدّة الصراع. في حالة لبنان، قد يحتاج المجتمع إلى تبنّي نهج يقوم على العدالة التصالحية، حيث يتّم تقديم الاعتراف بالخطأ والمساءلة عن الجرائم السياسية والاقتصادية، إلى جانب التسامح.
4-دراسة حالات دولية في التسامح والمصالحة.
هناك اثنيْن يُمكن الإستئناس بتجربتهما:
–جنوب أفريقيا: التسامح بعد الأبارتايد. جنوب أفريقيا تُعتبر واحدة من أهم الأمثلة على كيفية تطبيق التسامح في سياق سياسي بعد انتهاء نظام الفصل العنصري. لجنة الحقيقة والمصالحة التي تأسّست بعد سقوط نظام الأبارتايد كانت تهدف إلى إيجاد توازن بين التسامح والمساءلة. هنا، تمّ الاعتراف بالجرائم، وتمّ تقديم طلبات العفو، ممّا ساعد على تحقيق نوع من التصالح الوطني.
–رواندا: التسامح بعد الإبادة الجماعية. رواندا تقدّم مثالًا آخر على كيفية تحقيق التسامح بعد واحدة من أفظع الجرائم الإنسانية في التاريخ الحديث. بعد الإبادة الجماعية في 1994، حاولت الدولة استخدام التسامح كأداة لإعادة بناء النسيج الاجتماعي. ومع ذلك، هذا التسامح لم يأتِ بدون محاسبة مرتكبي الجرائم.
5-هل يجب التسامح مع من “يعلمون ما يفعلون”؟
الجواب عن السؤال يحتاج الى فهم نقطَتَيْن:
-التحدّيات الأخلاقية في التسامح مع القادة الفاسدين. السؤال الأخلاقي الذي يطرحه العديد من اللبنانيين هو: هل يجب أن نغفر للقادة السياسيين الذين كانوا يعلمون تمامًا أن سياساتهم وأفعالهم ستؤدّي إلى تدمير البلاد؟ هنا، يظهر تساؤل حول ما إذا كان التسامح في هذه الحالة مجرّد قبول بالظلم أو تواطؤ مع الجريمة.
–إمكانية التسامح المشروط. قد يكون الحلّ هو التفكير في التسامح المشروط – حيث يمكن للمجتمع أن يسامح الفاعلين السياسيين بشرط تحقيق العدالة والمحاسبة. مثل هذا التسامح لا ينفي الحاجة إلى الإصلاحات السياسية، بل يفتح المجال أمام المصالحة الوطنية.
الخاتمة
التسامح هو فضيلة سامية دعا إليها الربّ يسوع، ولكن تطبيقها في الواقع السياسي قد يواجه تحديات كبرى، خاصة عندما يتعلق الأمر بقادة ومسؤولين “يعلمون ما يفعلون”. في حالة لبنان، التسامح في السياق السياسي اللبناني يمكن أن يكون قوّة بناء، لكنه لا يجب أن يكون على حساب العدالة والمساءلة. المصالحة الحقيقية تحتاج إلى مزيج من التسامح والعدالة، بحيث يتّم تقديم المسؤولين عن الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان للمساءلة، مع الأخذ في الاعتبار تعقيد الأوضاع السياسية. عندما يتّم تحقيق هذا التوازن، يمكن للبنان أن يبدأ في إعادة بناء مؤسساته على أسس من المحبة، العدالة، والتعاون، ممّا يفتح الباب أمام مستقبل أكثر إشراقًا.