القمع
د. الياس ميشال الشويري
تعاني الدول ذات الأنظمة اللا أخلاقية من ظاهرة خيانة السلطة للأمانة المناطة بها. في لبنان، يظهر هذا النمط من الخيانة بشكل جلّي، حيث تقوم السلطة بتهميش القيم الإنسانية، وقمع الحريات، وفرض هيمنتها عبر خلق حالة من الإذعان والخضوع. هذا المقال يسعى إلى تحليل طبيعة السلطة في لبنان، وكيفية تأسيسها لعلاقة السيد والعبيد من خلال منهجيات ممنهجة، مع التركيز على الآثار المدّمرة لهذه الديناميكيات على المواطن والوطن.
1-مفهوم السلطة والخيانة في السياق اللبناني
–السلطة كمنظومة حكم. السلطة هي الأداة الأساسية التي تعتمدها الدول لتحقيق أهدافها في إدارة شؤون المواطنين، حماية الحقوق، وتقديم الخدمات. في النظم الديمقراطية، تمثّل السلطة انعكاسًا لإرادة الشعب من خلال الانتخابات الحرّة والنزيهة. لكن في لبنان، تتحوّل السلطة إلى كيان منفصل عن الشعب، حيث تصبح أداة لتحقيق المصالح الشخصية والطائفية والخارجية على حساب المصلحة العامة.
–الخيانة كمفهوم سياسي. الخيانة السياسية تشير إلى انحراف السلطة عن المهام الأساسية التي يفترض أن تقوم بها من أجل خدمة المواطنين. في السياق اللبناني، تعني الخيانة التلاعب بمقدرات الدولة، وتحويل المؤسسات إلى أدوات قمعية تخدم مصالح السلطة والمنظومة الحاكمة فقط. هذا التوجه يؤدّي إلى تقويض الثقة بين الدولة والمواطن، ويعزّز الانقسامات الاجتماعية.
–المحاصصة الطائفية وتأثيرها على السلطة. منذ التسعينات بشكل خاص، كانت المحاصصة الطائفية السمة البارزة في النظام السياسي. هذه المحاصصة قضت على أي أمل في بناء دولة تقوم على الكفاءة والمواطنة، وحولت السلطة إلى ميدان صراع بين الزعماء الطائفيين، ممّا جعل الدولة رهينة لأجنداتهم الخاصة. نتيجة لذلك، أصبح النظام السياسي اللبناني يعاني من الفساد المزمن وسوء الإدارة.
–الأزمات المتكررة وعلاقتها بخيانة السلطة. الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) وما تبعها من أزمات سياسية واقتصادية كشفت عن عجز السلطة اللبنانية عن الوفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين. بدلاً من مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، استمرت السلطة في تعزيز نفوذها من خلال سياسات القمع والمحاصصة ونهب مقدرات الدولة، ممّا أدى إلى تراجع الثقة في مؤسسات الدولة وانتشار الفقر والبطالة.
لقمة العيش مذلة
2- أساليب السلطة في ترسيخ علاقة السيد والعبيد
–القوانين القمعية ودورها في فرض السيطرة. تستخدم السلطة اللبنانية القوانين كأداة لقمع المعارضة والتحكّم في المواطنين. القوانين الانتخابية غير العادلة، والضغط على الإعلام تمثّل أمثلة واضحة على كيفية استخدام القانون لتعزيز قبضة السلطة. هذه الممارسات تجعل من الصعب على المواطنين التعبير عن آرائهم بحرية أو المشاركة في الحياة السياسية بشكل فعال.
–الأجهزة الأمنية كأداة للقمع. تلعب الأجهزة الأمنية في لبنان دوراً محورياً في فرض السيطرة والقمع. تُستخدم هذه الأجهزة لقمع المظاهرات السلمية، واعتقال المعارضين، وترهيب النشطاء. هذا القمع المنهجي يعزّز مناخ الخوف، ويجبر المواطنين على الخضوع للسلطة، ممّا يعزّز حالة من الإذعان والخنوع.
–الإعلام الموجه كأداة للدعاية. الإعلام اللبناني، الذي تسيطر عليه النخب السياسية والطائفية، الفاسدة بامتياز، يلعب دوراً محورياً في ترويج ثقافة التبعية والولاء الأعمى للسلطة. يتّم استخدام الإعلام لتقديس هذا أو ذاك من الفاسدين والمفسدين وتشويه صورة المعارضين. البرامج الإخبارية، المقالات، والخطابات الرسمية تُصاغ بعناية لتعزيز هيبة السلطة وترسيخ فكرة أن المعارضة هي خيانة للوطن.
–الترهيب النفسي والاجتماعي. تمارس السلطة الترهيب النفسي والاجتماعي لترسيخ ثقافة الخوف والطاعة. يتّم تصوير المعارضين كأعداء للوطن، وتُروّج أفكار تجعل من الاعتراض على سياسات السلطة جريمة تستوجب العقاب. هذا الترهيب يُجبر المواطنين على التزام الصمت أو الانخراط في تمجيد السلطة، حتى وإن كان ذلك يتعارض مع مبادئهم وقيمهم.
3-خيانة القيم والمبادئ الإنسانية
–القمع الممنهج وانتهاك حقوق الإنسان. في لبنان، تستخدم السلطة أساليب قمع ممنهجة لتدمير الكرامة الإنسانية. تشمل هذه الأساليب الاعتقالات التعسفية، التعذيب في السجون، وفرض القيود على حرية التعبير. هذه الانتهاكات لا تستهدف فقط إسكات المعارضين، بل تهدف أيضاً إلى إرسال رسالة لجميع المواطنين بأن أي تحدٍ للسلطة سيواجه بعواقب وخيمة.
–تفكيك الهوية الوطنية والمواطنة. تساهم سياسات القمع والاستبداد في تفكيك الهوية الوطنية والمواطنة. المواطن يُجبر على خيانة قيمه ومبادئه من أجل البقاء على قيد الحياة في نظام لا يحترم حقوقه الأساسية. هذا يؤدي إلى ضعف الروابط الاجتماعية وتآكل الشعور بالانتماء الوطني، حيث يصبح الولاء للسلطة شرطاً للبقاء، بدلاً من أن يكون المواطن شريكاً فعلياً في بناء الدولة.
–ترويج ثقافة الخيانة وتجريم المعارضة. تعتمد السلطة على ترويج ثقافة الخيانة لتحكّم قبضتها على المجتمع. أي شكل من أشكال المعارضة يُصنّف على أنه خيانة للوطن. يتم استخدام هذه التهمة لإسكات المنتقدين، وترهيب المواطنين العاديين من المشاركة في أي أنشطة قد تعتبر مناهضة للمنظومة. هذه الثقافة تعزّز مناخ الخوف والشك بين المواطنين، وتجعل من الصعب تنظيم أي حركة معارضة فعالة.
–التهم العشوائية كسلاح ترهيب. تستخدم المنظومة التهم العشوائية بالفساد أو الإرهاب كسلاح لترهيب المواطنين والسيطرة عليهم. هذه التهم لا تستند غالباً إلى أدلة واضحة، بل تهدف إلى خلق جو من الخوف يجعل من المستحيل على الأفراد التعبير عن آرائهم بحرية أو التحدّث ضد الظلم.
4- تداعيات خيانة السلطة على مفهوم الدولة
–ضبابية المفاهيم وانهيار الثقة. تؤدّي خيانة السلطة إلى تشويه مفهوم الدولة، حيث تختلط الحدود بين السلطة ككيان مؤقت والدولة كمؤسسة دائمة تهدف إلى خدمة المواطنين. هذا التشويه يخلق حالة من الضبابية تجعل من الصعب على المواطنين التمييز بين مصالح الدولة ومصالح السلطة الحاكمة. في لبنان، أدّى هذا الخلط إلى انهيار الثقة بين المواطنين والدولة، حيث يشعر الناس بأن الدولة أصبحت مجرد أداة لخدمة المنظومة الفاسدة الحاكمة.
–غياب المحاسبة وتفشّي الفساد.غياب المحاسبة هو نتيجة مباشرة لتشويه مفهوم الدولة. عندما تسيطر المنظومة الفاسدة على جميع المؤسسات، تصبح المحاسبة شبه مستحيلة. هذا يؤدّي إلى تفشّي الفساد، حيث تستغل السلطة الحاكمة موارد الدولة لمصالحها الشخصية دون أي خوف من العقاب. في لبنان، أصبحت هذه الظاهرة متجذرة إلى درجة أن الفساد يعتبر جزءاً من الحياة اليومية، ممّا يزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
–خلق صورة الزعيم الإلهي. تعمل المنظومة الفاسدة في لبنان على خلق صورة شبه إلهية للزعيم، حيث يتم تصويره على أنه المنقذ الوحيد للشعب. هذه الصورة تُعزّز من خلال الدعاية الإعلامية والخطابات السياسية التي تروّج لفكرة أن الزعيم هو الوحيد القادر على تحقيق الاستقرار والازدهار. هذه الديناميكية تجعل من الصعب على المواطنين التمييز بين السلطة والدولة، وتجعل من المعارضة فعلاً شبه مستحيل.
–تحويل المعارضة إلى “كفر وخيانة“. تحويل المعارضة إلى كفر وخيانة هي استراتيجية تهدف إلى ترسيخ المنظومة الفاسدة وتعزيز قبضتها على الحكم. يتم تصوير أي محاولة للاعتراض على سياسات بعض الأحزاب التي لم تجلب معها سوى الدمار للبنان على أنها خيانة للوطن وكفر بالقيم الوطنية. هذا التصوير يجعل من المعارضة مخاطرة كبيرة، حيث يواجه المعارضون احتمال الاعتقال، التعذيب، وحتى الموت، كما حصل مع البعض، للأسف!
السلاح يغير قواعد اللعبة
5- نتائج خيانة السلطة على المجتمع اللبناني
–تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية
خيانة المنظومة الفاسدة تؤدي إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في لبنان. الفساد، سوء الإدارة، والسياسات القمعية تساهم في زيادة الفقر، البطالة، وتدهور الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة. هذا يؤدي إلى انهيار الثقة بين المواطن والدولة، حيث يشعر الناس بأن الدولة لم تعد قادرة على تلبية احتياجاتهم الأساسية.
–الهجرة كخيار وحيد للبقاء. تحت وطأة الخيانة والفساد، يجد الكثير من اللبنانيين أن الهجرة هي الخيار الوحيد للبقاء. تزايد معدلات الهجرة يشكل تحدياً كبيراً للبنان، حيث يفقد البلد شريحته الشابة والمثقفة، ممّا يؤدي إلى مزيد من التدهور في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
–تآكل الحرية الفكرية والسياسية. تؤدي سياسات القمع والخيانة إلى تآكل الحرية الفكرية والسياسية في لبنان. المواطنون يصبحون أكثر تردداً في التعبير عن آرائهم أو المشاركة في الحياة السياسية خوفاً من القمع أو الانتقام. هذا يؤدي إلى غياب المعارضة الفعّالة، ويعزّز من هيمنة المنظومة الفاسدة على جميع جوانب الحياة.
–تعزيز ثقافة الطاعة والامتثال. ثقافة الخوف والصمت تعزّز مناخ الطاعة والامتثال، حيث يصبح المواطنون أكثر استعداداً للانصياع للأوامر، حتى وإن كانت تتعارض مع مصالحهم أو مبادئهم. هذا يساهم في ترسيخ نظام قمعي يصعب تغييره، ويزيد من معاناة الشعب اللبناني.
5-الخاتمة
خيانة السلطة في لبنان ليست مجرّد انحراف عن المسار الديمقراطي، بل هي استراتيجية متعمدة لترسيخ الهيمنة والسيطرة على الشعب. من خلال القمع، الترهيب، وتدمير القيم الإنسانية، تسعى المنظومة الفاسدة إلى خلق مجتمع من الخضوع والإذعان، حيث يصبح الحاكم سيداً والشعب عبيداً. لتحرير لبنان من هذه الديناميكيات المدمرة، يجب أن يتّم التركيز على تعزيز قيم الحرية، المحاسبة، والعدالة، لخلق مجتمع يتمتّع بالكرامة والحقوق الإنسانية.