البرلمان اللبناني من الخارج
د. الياس ميشال الشويري
مجلس النواب اللبناني يُفترض أن يكون القلب النابض للنظام الديمقراطي، يمثّل إرادة الشعب ويسعى لتحقيق مصالحه من خلال تشريع القوانين ومراقبة الحكومة. غير أن الواقع السياسي في لبنان يعكس صورة مختلفة تمامًا؛ إذ أن المجلس، بدلاً من أن يكون وسيلة لتطبيق الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية، بات منغمسًا في شبكة من المصالح الطائفية والسياسية التي تعرقل عمله. هذه الإشكالية ليست جديدة، بل هي نتيجة تراكمات من العوامل التاريخية والسياسية والاجتماعية التي جعلت من مجلس النواب هيئة تشريعية “عقيمة” لا تستطيع تحقيق التغيير المنشود.
يتساءل كثير من اللبنانيين: لماذا مجلس النواب عاجز عن القيام بدوره؟ ولماذا أصبح مجرد واجهة للنخب السياسية الطائفية؟ في هذا البحث، سنتناول بالتفصيل طبيعة هذا العقم السياسي، وأسبابه، وتأثيره على الحياة العامة، ونطرح بعض الحلول الممكنة لإصلاح هذا الوضع الذي أدى إلى تدهور كبير في الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان.
1 – تاريخ مجلس النواب اللبناني
مجلس النواب اللبناني تأسس بموجب دستور 1926، الذي جاء في ظلّ الانتداب الفرنسي على لبنان. كان الهدف من إنشاء هذا المجلس هو وضع إطار دستوري وسياسي يضمن تمثيل جميع الطوائف الدينية في لبنان، في سياق كان يتسم بتنوّع ديني وطائفي كبيرَيْن. من هنا، نشأ النظام الطائفي الذي يُحدّد تقسيم المقاعد النيابية وفقًا للانتماءات الدينية، وهو نظام استمر حتى اليوم مع بعض التعديلات التي أدخلت عليه.
خلال العقود الأولى من الاستقلال، كانت الحياة السياسية اللبنانية تشهد محاولات لتعزيز الوحدة الوطنية وتجاوز الحواجز الطائفية، إلا أن المنظومة الطائفية سرعان ما تمكنّت من الاستحواذ على السلطة من خلال التلاعب بالنظام الطائفي لضمان بقاء مصالحها محمية. هذا الوضع تفاقم بشكل كبير مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975، حيث أصبح مجلس النواب مسرحًا للصراعات الطائفية والسياسية.
بعد اتفاق الطائف في عام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية، جرت إعادة تنظيم الحياة السياسية في لبنان، وتمّت إعادة هيكلة مجلس النواب. تضمنّت التعديلات إعادة توزيع المقاعد بين المسلمين والمسيحيين بنسبة متساوية (50-50) بدلاً من الأغلبية المسيحية التي كانت سائدة قبل الحرب. رغم هذه الإصلاحات، إلا أن الطائفية السياسية بقيت مسيطرة، بل تعمّقت أكثر، حيث أصبح توزيع المناصب وتشكيل التحالفات السياسية مرتبطًا بشكل مباشر بالطوائف والانتماءات الدينية.
مجلس النواب بعد اتفاق الطائف شهد تحولات سياسية كبيرة، إلا أن معظمها كان مرتبطًا بمصالح الطبقة السياسية الحاكمة التي استفادت من النظام الطائفي لتعزيز نفوذها. وبالتالي، فإن هذا المجلس بات أداة بيد الزعماء الطائفيين، مما أدى إلى شلل مؤسسات الدولة وعجز البرلمان عن لعب دوره في الرقابة والتشريع بشكل فعال.
2 – الطائفية: عقبة أمام التمثيل الحقيقي
الطائفية هي حجر الأساس الذي يحدّد عمل مجلس النواب اللبناني ويؤثر سلباً على قدرته على تمثيل الشعب بشكل حقيقي. النظام الطائفي لا يقتصر على توزيع المقاعد فحسب، بل يمتد إلى كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان. يعتمد هذا النظام على تقسيم المناصب والمقاعد النيابية بين الطوائف المختلفة، وفقًا لما يُعرف بـ”الميثاقية”، أي ضرورة الحفاظ على توازن طائفي في جميع مؤسسات الدولة. هذا النظام، رغم أنه يهدف إلى منع هيمنة طائفة على أخرى، إلا أنه يؤدي في الواقع إلى تكريس الانقسامات الطائفية بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية.
في النظام الطائفي اللبناني، يتمّ تحديد هوية الناخبين والسياسيين بشكل أساسي بناءً على انتمائهم الديني. بمعنى أن الناخب المسلم سيصوت لمرشح مسلم والناخب المسيحي سيصوت لمرشح مسيحي، وهكذا. هذا الوضع يعزّز من هيمنة الزعامات الطائفية التي تتمتّع بشعبية داخل طوائفها وتستغل الانتماءات الدينية لتعبئة الدعم الشعبي، بغض النظر عن الكفاءة أو الرؤية السياسية.
الأحزاب السياسية في لبنان هي الأخرى تأثرّت بهذا النظام. معظم الأحزاب الكبيرة في لبنان تعتمد على قواعد شعبية طائفية، وتستمد قوتها من تحالفات مع زعماء الطوائف. على سبيل المثال، حزب الله يعتمد على قاعدة شيعية، فيما يعتمد التيار الوطني الحر على قاعدة مسيحية، وهكذا. هذا يجعل من الصعب على أي حزب أو حركة سياسية أن تنجح في بناء قاعدة شعبية عابرة للطوائف، مما يعزز من الفجوة بين مكوّنات المجتمع اللبناني.
النتيجة الطبيعية لهذا النظام هو أن مجلس النواب يصبح هيئة تفتقر إلى التنوّع الحقيقي في الأفكار والبرامج، حيث يتمحور النقاش السياسي حول المصالح الطائفية بدلاً من المصلحة العامة. الطائفية تُعيق النقاش العقلاني والحوار الوطني، وتجعل من الصعب على المجلس تمرير تشريعات تعزز العدالة الاجتماعية أو التنمية الاقتصادية، إذ إن كل طائفة تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة بدلاً من العمل من أجل المصلحة العامة.
3 – الفساد السياسي وهيمنة الفاسدسن
من أبرز العوامل التي تجعل مجلس النواب اللبناني غير قادر على تمثيل الشعب هو الفساد السياسي وهيمنة الفاسدين. هذه المنظومة الفاسدة، التي تتكوّن في الغالب من زعماء الطوائف والسياسيين التقليديين، تمكنّت على مدى عقود من بناء شبكة من المحسوبيات والتحالفات التي تضمن استمرارها في السلطة. يعتبر النظام الانتخابي في لبنان أحد أهم الأدوات التي تساهم في تعزيز هيمنة هذه المنظومة الفاسدة.
النظام الانتخابي اللبناني يعتمد على تقسيم المناطق الانتخابية بشكل يعزّز من سلطة زعماء الطوائف. هذه المناطق، المعروفة بالدائرة الانتخابية، غالباً ما تكون مصمّمة بحيث تضمن فوز مرشحي الطائفة أو الحزب المسيطر في تلك المنطقة. هذا التوزيع غير العادل للمناطق الانتخابية يُستخدم كأداة لضمان بقاء المنظومة الطائفية في السلطة.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر المال السياسي عنصراً أساسياً في الفساد السياسي اللبناني. الانتخابات في لبنان غالباً ما تُدار بميزانيات ضخمة تُستخدم لشراء الأصوات أو التأثير على الناخبين. يُستخدم المال السياسي لتأمين تأييد المرشحين من خلال تقديم خدمات أو وعود بالمناصب، مما يؤدي إلى تشويه العملية الديمقراطية وتحويلها إلى صراع مالي بدلاً من صراع أفكار وبرامج.
هيمنة المنظومة السياسية تتجاوز البرلمان لتشمل الحكومة والسلطة القضائية. هذه المنظومة الفاسدة تتحكم في مفاصل الدولة من خلال تعيين المقربين في المناصب الحساسة، وتستخدم النفوذ السياسي لحماية مصالحها الشخصية. هذه السيطرة المطلقة على مؤسسات الدولة تُعيق أي محاولة لإصلاح النظام أو محاربة الفساد. مجلس النواب، الذي يُفترض أن يكون الجهة الرقابية الأولى، يصبح عاجزاً عن محاسبة الحكومة أو وضع حد للفساد بسبب تواطؤه مع هذه المنظومة الفاسدة.
4 – الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية
الفشل في تمثيل الشعب عبر مجلس النواب اللبناني لم يكن له تأثير فقط على الحياة السياسية، بل انعكس بشكل كبير على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. الأزمات المتعددة التي يعاني منها لبنان في السنوات الأخيرة، مثل الانهيار المالي، تدهور الخدمات العامة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، هي نتائج مباشرة لعقود من الفساد وسوء الإدارة.
الأزمة المالية التي ضربت لبنان في أواخر 2019 كانت نتاج سياسات اقتصادية خاطئة اعتمدتها المنظومة الحاكمة لعقود. النظام المصرفي اللبناني الذي كان يُعتبر من الأعمدة الأساسية للاقتصاد، انهار بسبب السياسات النقدية الفاشلة، واستغلال الودائع لتغطية العجز الحكومي. أدى هذا الانهيار إلى تراجع حاد في قيمة الليرة اللبنانية، وارتفاع معدلات التضخم، وتفاقم الفقر بشكل غير مسبوق.
الفساد المالي والإداري كان له دور أساسي في تدهور الخدمات العامة. الكهرباء، المياه، التعليم، والرعاية الصحية كلها قطاعات شهدت تراجعاً كبيراً نتيجة سوء الإدارة والفساد. مجلس النواب، الذي يُفترض أن يكون الجهة الرقابية على هذه القطاعات، كان غائباً تماماً عن دوره في محاسبة المسؤولين أو وضع سياسات بديلة. بدلاً من ذلك، استمرت المنظومة السياسية في استغلال هذه القطاعات لتحقيق مكاسب شخصية.
اجتماعياً، أدى تدهور الأوضاع الاقتصادية إلى تفاقم التوترات الطائفية والاجتماعية في البلاد. الفقر والبطالة وانتشار الفساد جعلت من الصعب على اللبنانيين التمتع بحياة كريمة، مما دفع بالكثيرين إلى الهجرة بحثاً عن فرص أفضل في الخارج. في المقابل، تستغل المنظومة الطائفية هذا الوضع لتعزيز نفوذها من خلال تقديم مساعدات مشروطة أو وعود بتوظيف المقربين.
5 – الإصلاحات الممكنة
في ظل هذا الواقع المؤلم، تصبح الحاجة إلى الإصلاح ضرورة ملحة لإنقاذ لبنان من الانهيار التام. هناك العديد من الإصلاحات الممكنة التي يمكن من خلالها معالجة أزمة التمثيل السياسي في مجلس النواب اللبناني.
-إصلاح النظام الانتخابي. من أولى الخطوات التي يجب اتخاذها هي إصلاح النظام الانتخابي اللبناني. النظام الحالي يعزز من هيمنة المنظومة الطائفية ولا يسمح بتمثيل شعبي حقيقي. أحد المقترحات هو اعتماد نظام التمثيل النسبي بدلاً من النظام الأكثري المعمول به حالياً. التمثيل النسبي يسمح بتوزيع المقاعد النيابية بشكل يعكس التنوع الحقيقي في المجتمع، ويسمح بظهور قوى سياسية جديدة قد تكون غير مرتبطة بالنظام الطائفي.
-إلغاء الطائفية السياسية، هو الإصلاح الأكثر جذرية والذي يمكن أن يعيد التوازن إلى النظام السياسي اللبناني. هذا يتطلب اعتماد قوانين تضمن المساواة بين جميع المواطنين دون النظر إلى انتماءاتهم الدينية، وإعادة توزيع المناصب الحكومية على أساس الكفاءة لا الطائفة. هذه الخطوة ستحتاج إلى توافق وطني واسع وجهود كبيرة لتطبيقها، ولكنها الحل الوحيد لضمان وحدة البلاد وتحقيق العدالة الاجتماعية.
-مكافحة الفساد وتعزيز القضاء. القضاء اللبناني يحتاج إلى إصلاحات جذرية لضمان استقلاليته وقدرته على محاسبة المسؤولين. يجب أن يتمتع القضاء بصلاحيات حقيقية للتحقيق في قضايا الفساد وسوء الإدارة، وأن يكون قادراً على محاسبة الجميع دون استثناء. تعزيز القضاء سيؤدي إلى تحسين نزاهة العملية الانتخابية، وضمان محاسبة المسؤولين الذين يسيئون استخدام سلطاتهم.
-تعزيز دور المجتمع المدني. المجتمع المدني اللبناني يلعب دورًا حيويًا في مراقبة الأداء السياسي والضغط من أجل التغيير. تعزيز دور الجمعيات والمنظمات غير الحكومية يمكن أن يكون أداة فعالة في محاربة الفساد ودعم الإصلاحات. يجب أن يُمنح المجتمع المدني دورًا أكبر في الحوار السياسي وفي صياغة السياسات العامة.
6 – الخاتمة
أزمة مجلس النواب اللبناني هي انعكاس للأزمة السياسية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان منذ عقود. النظام الطائفي، هيمنة المنظومة السياسية، والفساد المستشري كلها عوامل أدت إلى “عقم” المجلس وعجزه عن القيام بدوره في تمثيل الشعب ومراقبة الحكومة.