صورة من الجو للصرح البطريركي الماروني
د. الياس ميشال الشويري
تعتبر بكركي، المقر البطريركي للكنيسة المارونية، رمزًا للهوية اللبنانية وتاريخًا حافلًا بالتأثيرات الروحية والاجتماعية والسياسية، إذ إنها ليست مجرد موقع ديني، بل تجسّد التطلّعات الوطنية والشعور بالوحدة بين الطوائف المختلفة في لبنان. ومنذ نشأتها، لعبت بكركي دورًا محوريًا في إعلاء شأن لبنان على مختلف الأصعدة، مما جعلها نقطة التقاء للحوار والتفاهم. على مرّ العصور، عملت بكركي كمنارة للثقافة والتعليم، وكرّست جهودها في حماية الحقوق، وكانت لها تأثيرات ملحوظة في المشهد السياسي والاجتماعي اللبناني. في هذا البحث، سنتناول تأثير بكركي عبر التاريخ، مع التركيز على دورها الثقافي، السياسي، والاجتماعي، بالإضافة إلى التحديات التي تواجهها في ظل الأزمات الراهنة.
1– التاريخ الكنسي لبكركي.
تأسست بكركي ككنيسة في القرن الثاني عشر، وتحديدًا في العام 1080، عندما انتقل البطريرك الماروني من جبل لبنان إلى بكركي. كانت تلك الخطوة علامة فارقة في تاريخ الكنيسة، إذ أدّت إلى تعزيز موقف البطريركية المارونية كممثل رسمي للمسيحيين في لبنان.
-دور البطاركة في التاريخ. لقد لعب البطاركة الموارنة دورًا حاسمًا في الحفاظ على حقوق المسيحيين خلال فترات الاحتلالات المختلفة، مثل الاحتلالَيْن العثماني والفرنسي. من خلال دعواتهم للحفاظ على الهوية الثقافية، تمكنّوا من تعزيز وحدة المجتمع اللبناني. كان البطريرك إلياس الحويك، على سبيل المثال، من أبرز الشخصيات التي سعت إلى الحفاظ على حقوق المسيحيين في لبنان خلال الاحتلال الفرنسي. أسّس جمعية وطنية للدفاع عن الحقوق اللبنانية، وأصبح صوتًا للمسيحيين، حيث ساهم في تأسيس الدولة اللبنانية الحديثة. وقد قال البطريرك الحويك في أحد خطاباته: “لا بد من الحفاظ على حقوقنا في هذه الأرض، فلبنان هو وطننا وعلينا حمايته بكل ما أوتينا من قوة”.
–الانتقال إلى العصر الحديث. في العصر الحديث، استمرت بكركي في أداء دورها كمركز روحي وسياسي. فقد أدت الحروب الأهلية في لبنان في السبعينيات والثمانينيات إلى زيادة أهمية بكركي كمنصة للوساطة والحوار بين الطوائف المختلفة. وفي هذا السياق، يشير البطريرك نصرالله صفير إلى أهمية الحوار بقوله: “لم يكن لدينا خيار سوى فتح قلوبنا وعقولنا لبعضنا البعض إذا أردنا أن ننجو من هذه المحنة”. لقد كانت بكركي بمثابة ملاذ آمن للعديد من الشخصيات السياسية والدينية التي سعت إلى إيجاد حل للأزمات المستمرة.
2- التأثير الثقافي.
على مرّ العصور، كانت بكركي مركزًا للحفاظ على الثقافة اللبنانية وتطويرها، حيث ساهمت في إنشاء المدارس والمعاهد الثقافية التي قدمت التعليم لأجيال من اللبنانيين.
-التعليم والمفكرون. أسهمت بكركي في نشر التعليم باللغة العربية والفرنسية، مما أثرى الحياة الفكرية والثقافية في لبنان. تمّ تأسيس العديد من المدارس والجامعات التي كانت تروج للفكر الحرّ والتسامح. كان من بين الخريجين شخصيات بارزة مثل ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، الذين أثروا في الأدب العربي والعالمي مثل ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران الذي يقول جبران خليل جبران في كتابه “النبي”: “إن المعرفة هي نور يضيء الطريق إلى الحقيقة”. كانت بكركي تسعى دائمًا إلى تعليم الشباب القيم الإنسانية وتعزيز الانتماء الوطني.
-الفنون والآداب. تمكّنت بكركي من تعزيز الفنون، حيث احتضنت العديد من الفنانين والمثقفين. كانت مصدر إلهام للعديد من الأعمال الفنية والأدبية التي تعكس الهوية اللبنانية. في الفترة التي تلت الحرب الأهلية، شهدت بكركي عودة للعديد من الفنانين والمثقفين الذين اجمعوا إلى الوطن للمساهمة في إعادة بناء الثقافة اللبنانية. نظمت بكركي العديد من الفعاليات الثقافية والمعارض الفنية التي ساهمت في تعزيز الهوية الثقافية، بما في ذلك مهرجانات فنية وأدبية تعزز من التفاعل بين الأجيال المختلفة.
3– الدور السياسي.
بكركي لم تكن مجرد مركز ديني، بل لعبت دورًا محوريًا في السياسة اللبنانية، خاصة في أوقات الأزمات.
-الوساطة في الأزمات. خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، أصبحت بكركي مكانًا للتفاوض والحوار بين الفرقاء السياسيين. عمل البطريرك نصرالله صفير على توحيد الصفوف ودعوة الأطراف المتنازعة إلى الحوار، مما ساهم في التوصل إلى اتفاق الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب. وقد ورد في وثائق الاتفاق أن “الحوار هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام”. كانت بكركي أيضًا مكانًا للاجتماعات السرية بين الزعماء السياسيين، حيث عُقدت العديد من الجلسات التي أسهمت في بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، مما يؤكد دورها كوسيط فعال في تحقيق المصالحة.
-التوجه نحو الإصلاح. بعد الحرب، استمرت بكركي في لعب دورها كمنارة للإصلاح السياسي. وقدّمت العديد من المبادرات التي تدعو إلى تعزيز الشفافية ومحاربة الفساد، معتبرة أن ذلك يعد أساسيًا لاستعادة الثقة في الدولة اللبنانية. وفي هذا الإطار، أطلق البطريرك بشارة الراعي حملة لمكافحة الفساد في عام 2016، حيث صرح قائلًا: “لا يمكن لبلد أن ينمو ويزدهر في ظل الفساد، يجب أن نستعيد الأمل من خلال العمل الجاد والمخلص”. كانت بكركي تسعى دائمًا لتكون صوتاً للضمير الوطني، داعية إلى نبذ الخلافات السياسية والتركيز على القضايا المشتركة.
4– التأثير الدولي.
بكركي لم تقتصر تأثيراتها على الساحة المحلية فحسب، بل نجحت في تعزيز العلاقات مع الدول الغربية والعربية.
-البطريركية كممثل للبنان. من خلال الزيارات الرسمية والاجتماعات مع قادة دوليين، تمكنّت بكركي من تسليط الضوء على القضايا اللبنانية، مثل النزوح السوري والتهديدات الأمنية. كان للبطريرك صفير دور كبير في تعزيز موقف لبنان في المحافل الدولية، مما ساهم في تعزيز الدعم الدولي للبلاد. فقد قال في أحد مؤتمراته: “لبنان هو نموذج للتعايش، وعلينا جميعًا العمل على حمايته”. ولعبت بكركي دورًا أساسيًا في تسويق صورة لبنان كدولة تسعى للسلام والتعايش.
–القضايا الإنسانية. تفاعلت بكركي مع القضايا الإنسانية، حيث كانت تدعو إلى دعم اللاجئين والمحتاجين. وقدّمت المساعدات الإنسانية خلال الأزمات، مما عزّز من صورة لبنان كدولة محبة للسلام. في العام 2015، أطلق البطريرك الراعي حملة لجمع التبرعات للاجئين السوريين، حيث قال: “إن الإنسان هو أغلى ما نملك، ويجب علينا أن نساعد من يحتاج إلينا”. كانت هذه المبادرات تساهم في تعزيز روح التضامن والمساعدة المتبادلة بين اللبنانيين والسوريين.
5– القضايا الاجتماعية
تعتبر بكركي داعمًا رئيسيًا لقضايا حقوق الإنسان والمساواة بين الطوائف.
–الحوار بين الأديان. عملت بكركي على تعزيز الحوار بين الأديان المختلفة، من خلال تنظيم مؤتمرات وندوات تشجع على التفاهم والاحترام المتبادل. كانت هذه المبادرات تساهم في بناء مجتمع متسامح وموحد، بعيدًا عن التعصبات الدينية. وقد نظمت بكركي في العام 2018 مؤتمرًا بعنوان “الحوار بين الأديان”، الذي جمع رجال دين من مختلف الطوائف، حيث دعا المشاركون إلى تعزيز قيم المحبة والتسامح. وفي هذا السياق، كان للبطريرك الراعي دور بارز في نشر ثقافة الحوار، حيث قال: “الحوار هو الطريق إلى السلام”.
-المبادرات الاجتماعية. تدعم بكركي العديد من المبادرات الاجتماعية التي تهدف إلى تطوير المجتمع المدني وتعزيز حقوق المرأة والشباب. تساهم في دعم المشاريع التنموية التي تهدف إلى تحسين مستوى المعيشة وتوفير فرص العمل. كما أطلقت بكركي مشروع “صوت المرأة” في عام 2020، الذي يهدف إلى تمكين النساء وتعزيز دورهن في المجتمع، حيث قال البطريرك: “نحن نؤمن بأن المرأة هي ركيزة أساسية في بناء المجتمع، ويجب أن نمنحها الفرصة لتحقيق إمكاناتها”.
6– التحديات الحديثة.
تواجه بكركي العديد من التحديات في العصر الحديث، أبرزها الأزمات الاقتصادية والسياسية.
-الأزمة الاقتصادية. يعاني لبنان من أزمة اقتصادية خانقة أدّت إلى تدهور الوضع الاجتماعي. تواجه بكركي ضغوطًا كبيرة لتقديم الدعم والمساعدة للمتضررين من هذه الأزمات، مما يزيد من مسؤولياتها. وفي سياق الأزمة، دعا البطريرك الراعي إلى “التكاتف الوطني” للتغلب على الأزمات، مشددًا على ضرورة الوحدة بين اللبنانيين في مواجهة التحديات.
-النزاعات الداخلية. تسعى بكركي إلى تعزيز الاستقرار الداخلي، في وقت يتزايد فيه الانقسام السياسي والطائفي. تُعتبر بكركي بمثابة السقف الذي يجمع جميع اللبنانيين بغض النظر عن خلفياتهم، لذا فإن دورها يصبح أكثر أهمية في تعزيز الحوار وتخفيف حدة التوترات.
7– الخاتمة: بكركي وجوهر الهوية اللبنانية.
تعتبر بكركي تجسيدًا حقيقيًا للهوية اللبنانية، حيث تمتزج فيها الأبعاد الروحية والثقافية والسياسية بشكل فريد. فهي ليست مجرد رمز ديني لطائفة معينة، بل تمثل منارة للثقافة والفكر، تسعى لتعزيز التفاهم بين مختلف الطوائف اللبنانية، مما يجعلها نموذجًا للتعايش.
منذ نشأتها، قامت بكركي بدور أساسي في الحفاظ على الحقوق الثقافية والدينية للمسيحيين في لبنان، في ظل التحديات السياسية والاجتماعية. لقد أدت قيادتها التاريخية إلى بناء جسور من التواصل مع الدول العربية والغربية، مما ساهم في تعزيز موقف لبنان على الساحة الدولية. فقد كانت بكركي نقطة التقاء للعديد من الشخصيات السياسية والدينية، حيث لعبت دورًا محوريًا في التوسط خلال الأزمات، وهو ما يعكس قدرتها على التأثير في مجريات الأحداث.
في السياق الإقليمي والدولي، ساهمت بكركي في تسليط الضوء على القضايا اللبنانية، مثل النزوح والتهديدات الأمنية، من خلال تعميق العلاقات مع المؤسسات الدولية والمجتمع المدني. كما كانت في طليعة المبادرات الإنسانية التي استهدفت دعم المحتاجين واللاجئين، مما يعكس التزامها بالقيم الإنسانية.
ومع استمرار التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها لبنان، يبقى دور بكركي محوريًا في توجيه لبنان نحو مستقبل أفضل. إن التزامها بتعزيز الوحدة الوطنية والتسامح بين الطوائف يعكس الحاجة الماسة إلى رؤية مشتركة ومشاريع تنموية تهدف إلى تحسين ظروف الحياة في البلاد.