صُور من انفجار المرفأ
د. الياس ميشال الشويري
لبنان، ذلك الوطن الذي تتداخل فيه ثقافات وأديان متعددة، شهد على مرّ تاريخه لحظات من المجد والازدهار كما شهد نكسات وصراعات عصفت بمستقبله. في العصر الحديث، يجد اللبناني نفسه في مواجهة واقع مليء بالتناقضات، حيث تتفشّى الضغينة بين الطوائف، ويزدهر الفساد والكفر والنفاق والرياء والفجور والبهتان والخديعة والمكر والظلم والرياء والغش والزنا والسرقة والتحايل والغيبة والنميمة والقتل في الحياة السياسية والاجتماعية، ويتراجع الإيمان عند البعض في ظلّ انهيار القيم الاقتصادية والأخلاقية.
من بين أفظع مظاهر هذا الانهيار، تعطيل العدالة في قضية انفجار مرفأ بيروت، الذي يعدّ أحد أكبر الكوارث التي شهدها لبنان في تاريخه الحديث. لا تزال أرواح الضحايا تنتظر تحقيق العدالة، في حين يعاني أهاليهم من التسويف والمماطلة والضغوط السياسية التي تحول دون محاسبة المسؤولين الحقيقيين. وفي الوقت نفسه، شهد اللبنانيون ما يمكن وصفه بسرقة العصر، حيث تم نهب أموال المودعين بشكل ممنهج، تاركين ملايين اللبنانيين ضحايا لنظام مصرفي وسياسي متواطئ. هذه الجرائم ليست مجرّد أزمات عابرة، بل هي شواهد على منظومة فساد مترسخة تعمل على تفريغ الوطن من حقوق مواطنيه، ممّا يهدّد بانهيار كامل لمفهوم الدولة والعدالة في لبنان.
السؤال الذي يطرحه الكثيرون في ظل هذا الواقع المرير هو: كيف يمكن لله أن يرضى عن وطن يبدو أنه غارق في الفساد والضلال؟ وهل من سبيل لإعادة لبنان إلى سكّة الخلاص ليكون وطنًا للصدق والأمانة والمحبّة، فينعكس ذلك في بركة إلهية تنقذه من أزماته المتراكمة؟ هذا المقال يهدف إلى استكشاف الأسباب التي جعلت لبنان يصل إلى هذا الحال، مع التركيز على الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية التي قد تكون المفتاح للخروج من المأزق.
- المغزى الروحي للرضا الإلهي
الرضا الإلهي هو مفهوم مركزي في جميع الأديان السماوية، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بسلوك الأفراد والمجتمعات. الله، في نظر المؤمنين، ليس مجرّد قاضٍ يعاقب المخطئين، بل هو رحيم يغفر الذنوب ويمنح فرصًا لا حصر لها للعودة إليه. القرآن الكريم يردّد باستمرار أن رحمة الله واسعة وتشمل كل شيء: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر:53). وفي المسيحية، يعكس الكتاب المقدّس، إنجيل يوحنا، هذا المبدأ: فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة (يوحنا 16:3).
لبنان، رغم ما يبدو عليه من فساد وابتعاد عن القيم، يظّل في دائرة الرحمة الإلهية. المجتمعات البشرية ليست كاملة، ولبنان كغيره من البلدان قد يمّر بفترات ضعف وفساد، لكن الأمل في رضا الله يكمن في السعي نحو الإصلاح والعمل من أجل العدالة والخير.
مطالبة بالودائع المنهوبة
- الجانب الأخلاقي: العلاقة بين الأخلاق والرضا الإلهي
الأخلاق هي عماد المجتمعات، وإذا سقطت القيم الأخلاقية، أصبح المجتمع عرضة للإنهيار من الداخل. الفساد والكفر والنفاق والرياء والفجور والبهتان والخديعة … ليست مجرّد عادات سلبية فردية، بل هي أمراض اجتماعية تقوّض أسس الدولة. في لبنان، تفشّت هذه العادات في الحياة السياسية والاقتصادية إلى درجة أصبح فيها فقدان الثقة بالحكومة والمسؤولين أمرًا عاديًا. وامتّد هذا السلوك إلى العلاقات الاجتماعية، حيث أضحى الرياء وسيلة للنجاح والترقّي.
لكن، كما يقول الكتاب المقدس: ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ وماذا يُعطي الإِنسانُ بَدَلاً لِنَفسِه (متى 26:16)؟ كذلك، فإن المجتمعات التي تبني نجاحاتها على أسس غير أخلاقية لا تلبث أن تنهار. القرآن الكريم أيضًا يذّم الكذب ويعتبره من علامات المنافقين: وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (سورة الجاثية، الآية 7). لذلك، يمكن القول إن رضا الله عن لبنان يبدأ باستعادة القيم الأخلاقية في جميع مناحي الحياة، من السياسة إلى التعاملات اليومية.
- دور الأفراد في التغيير: الإصلاح يبدأ من الذات
التغيير الجذري لا يمكن أن يأتي من الخارج فقط، بل يجب أن يبدأ من داخل الإنسان. يقول القرآن الكريم: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم (سورة الرعد: 11)، وهذا المبدأ يؤكد أن الإصلاح الحقيقي يعتمد على الأفراد أنفسهم. إذا أراد اللبنانيون أن ينالوا رضا الله، فعليهم أن يسعوا لإصلاح أنفسهم أولاً، وأن يعملوا على نشر قيم العدل والأمانة في محيطهم.
في التاريخ اللبناني، برز العديد من الشخصيات التي قادت حركات إصلاحية واجتماعية وساهمت في بناء لبنان الحديث. من أبرز هؤلاء، على سبيل المثال لا الحصر:
- يوسف بك كرم: قائد وطني من شمال لبنان، قاد حركات تهدف إلى تحرير لبنان من الهيمنة الأجنبية، وكان رمزًا للكرامة الوطنية والاستقلال.
- بطرس البستاني: عُرف بـ”المعلم الأول“، وكان رائدًا في حركة النهضة العربية الحديثة. أسّس المدارس والمجلات، وسعى لنشر التعليم والثقافة وتعزيز الوحدة الوطنية.
- دانيال بليس (Daniel Bliss): مبشّر أميركي، أسّس الجامعة الأميركية في بيروت في عام 1866 تحت اسم “الكلية السورية البروتستانتية” قبل أن يتّم تغيير اسمها إلى “الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)” في العام 1920.
- جبران خليل جبران: من خلال كتاباته وأعماله الأدبية، دعا إلى التحرّر من القيود الاجتماعية والدينية وإلى بناء مجتمع يقوم على العدالة والإنسانية.
- كميل شمعون: رئيس جمهورية لبنان الأسبق، عرف بإصلاحاته الاقتصادية وسعيه لتعزيز سيادة لبنان واستقراره.
- فؤاد شهاب: رئيس جمهورية لبنان الأسبق الذي كان له الفضل الكبير في بنائه على أسس ومبادئ وطنية سامية، وقيم إنسانية وأخلاقية نبيلة.
- رياض الصلح: أحد أبرز رجالات الاستقلال! لعب دورًا أساسيًا في تحقيق استقلال لبنان عام 1943 ووضع ميثاق وطني لتحقيق التعايش بين الطوائف.
- بشير الجميّل: عُرف بدعوته لحماية سيادة لبنان واستقلاله من التدخلات الخارجية. دعا إلى بناء دولة قوية قادرة على فرض سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية، وسعى لتحقيق السلام الداخلي عبر مشروع وطني جامع يتخطّى الانقسامات الطائفية.
- السيّد موسى الصدر: قائد ديني واجتماعي، أسس حركة المحرومين في لبنان، ودعا إلى العدالة الاجتماعية وإصلاح النظام الطائفي.
- شارل مالك: سياسي وفيلسوف لبناني. كان أحد المساهمين في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وسعى دائمًا لتعزيز مكانة لبنان الدولية.
- الأب ميشال خليفة: مؤسّس حركة التعاونيات الزراعية، حيث سعى لدعم المزارعين وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.
هؤلاء الأفراد، الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية التغيير، استطاعوا تحقيق إنجازات عظيمة، ما يدّل على أن الفرد يمكن أن يكون بذرة التغيير التي تؤدّي إلى نهوض المجتمع بأسره.
- التوبة والعودة إلى الله: لبنان في حاجة إلى نهضة روحية
التوبة والعودة إلى الله ليست مجرّد أفعال فردية، بل يمكن أن تكون حركة اجتماعية واسعة تؤدّي إلى إصلاح حقيقي. في الأديان السماوية، تُعتبر التوبة والرجوع إلى القيم الروحية خطوة أساسية في تحقيق الرضا الإلهي. في لبنان، يمكن أن تكون هذه النهضة الروحية وسيلة للخروج من الأزمات المتراكمة.
الصلاة والدعاء الجماعي، والمبادرات التي تجمع الناس على أساس الأخلاق المشتركة، بدلاً من الطائفية والمصالح السياسية، يمكن أن تكون بداية لهذه النهضة.
- القيم الروحية كطريق للخلاص
القيم الروحية ليست مجرّد شعائر دينية، بل هي نظام أخلاقي يمكن أن يقود المجتمعات نحو الاستقرار والسلام. المحبّة، التسامح، العدل، والأمانة هي قيم مشتركة في جميع الأديان، وإذا استطاع اللبنانيون التركيز على هذه القيم، يمكن أن يتغيّر واقعهم نحو الأفضل.
لبنان كان دائمًا نموذجًا للتعددية الثقافية والدينية، وهذه التعددية يمكن أن تكون نقطة قوة إذا تم استثمارها بشكل إيجابي، بحيث تكون أساسًا لبناء وطن يجمع بين جميع أبنائه، بدلًا من أن تكون مصدرًا للفرقة والضغينة.
المعلم بطرس البستاني
- الخاتمة
رغم كل ما يمّر به لبنان من أزمات خانقة وانهيارات على كافة المستويات، فإن الأمل في التغيير لا يزال قائمًا، لأنه ينبع من الإيمان بقدرة الإنسان على النهوض من تحت الركام وإعادة بناء ما تهدّم. رضا الله عن الأوطان لا يتحقّق من خلال العقوبات الإلهية أو الثواب فقط، بل هو انعكاس لحالة المجتمع وأفراده. عندما تتبدّل القلوب وتتغيّر النوايا، وحين يتحلّى الشعب بقيم العدالة والمحبة والصدق، تبدأ عجلة الإصلاح بالدوران.
لبنان اليوم بحاجة ماسة إلى ثورة حقيقية، ليست ثورة غضب فقط، بل ثورة على الذات وعلى كل الممارسات التي ساهمت في إضعاف الوطن. إذا تمكن اللبنانيون من التخلّص من الحثالة التي تسلقت إلى مراكز القرار وأغرقت البلاد في مستنقع الفساد والانهيار، ونجحوا في تجاوز الطائفية والمحسوبية التي قسّمت المجتمع، فإنهم بذلك يمهدون الطريق لإعادة بناء وطن يقوم على أسس سليمة ومتينة.
إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وإذا ما بدأ اللبنانيون بإصلاح نفوسهم والعودة إلى قيم الصدق والنزاهة والإيثار، فإن هذا التحوّل سينعكس على الوطن بأسره. من خلال تعزيز المحبة بين مكونات المجتمع، والعمل بإخلاص لبناء دولة تقوم على العدل والقانون، يمكن للبنانيين أن يخلقوا واقعًا جديدًا يتّسم بالسلام والازدهار.
الأمل في التغيير ليس حلمًا بعيد المنال؛ فهو يبدأ بخطوات صغيرة وإرادة جماعية تصّر على نبذ كل أشكال الظلم والخداع. وإذا تحقق ذلك، فإن الله سيرضى عنهم، وستتحوّل بلادهم من ساحة للصراعات إلى منارة للأمل والتقدّم. لبنان قادر على النهوض إذا ما اتحد أبناؤه على قيم الحق والخير، فالتاريخ مليء بشعوب استطاعت تجاوز المحن وكتابة فصول جديدة من العزّة والكرامة.
هذا المقال ليس مجرّد تأمّل في الوضع الحالي، بل هو دعوة للعمل الجاد من أجل إصلاح لبنان، لأن الوطن الذي يحظى برضا الله هو وطن يعمل أفراده من أجل الخير والحق في جميع الظروف.