د. الياس ميشال الشويري
في زمنٍ تتكاثر فيه التحديات وتنهار فيه القيم في العديد من المجتمعات، تصبح الكلمات التي تعبّر عن هذا الانهيار أداة تفكير وتحليل أكثر منها مجرد تعبير أدبي. من بين هذه الكلمات، تبرز مقولة الكاتب علي إبراهيم الموسوي: “الإصلاح هو الطريق المستقيم، لكنه الأصعب؛ بينما الفساد هو الطريق الملتوي، لكنه الأسهل والأكثر سلوكًا”. هذه المقولة ليست مجرد جملة عابرة، بل تمثل تشخيصًا عميقًا لحالة مأزومة يعيشها الإنسان في مجتمعات تغلب فيها المصلحة الآنية على المبدأ، ويتحوّل فيها الفساد إلى نمط حياة مقبول، بل ومشجَّع أحيانًا.
تكشف هذه المقولة عن مفارقة مأساوية: فبينما يفترض بالإنسان أن يختار الطريق المستقيم بوصفه الطريق الأخلاقي والفعّال على المدى الطويل، نراه يميل إلى الطريق الملتوي، المُغري بحلوله السريعة وإن كانت مدمّرة. تتجلّى هذه المعضلة بشكل خاص في البلدان التي ترزح تحت الفساد المؤسسي، كما هو الحال في لبنان، حيث أصبح الفساد ليس فقط ظاهرة، بل جزءًا من البنية الثقافية والسياسية والاجتماعية.
هذا المقال يسعى إلى تحليل هذه المقولة من خلال خمسة محاور مترابطة: بدايةً من فهم طبيعة الإصلاح كطريق مستقيم رغم صعوبته، مرورًا بتحليل إغراءات الفساد، وتفكيك العوامل النفسية والاجتماعية التي تحدد خيارات الأفراد بين الطريقين، وصولًا إلى استعراض نماذج حية من هذا الصراع على أرض الواقع، وانتهاءً برسم خارطة طريق نحو الخلاص الجماعي. لا يكتفي هذا التحليل بالتشخيص، بل يحاول تقديم رؤية عميقة لمسار التحول من ثقافة الفساد إلى ثقافة الإصلاح، في مجتمع يحتاج إلى نهضة أخلاقية شاملة توازي إصلاحاته السياسية والاقتصادية.
- الإصلاح – الطريق المستقيم رغم صعوبته المؤقتة
الإصلاح في جوهره ليس ترفاً فكرياً أو مشروعاً مؤجلاً، بل ضرورة وجودية للمجتمعات التي تواجه أزمات بنيوية. فعندما تنهار البنية الاقتصادية وتتآكل الثقة في المؤسسات، يصبح الإصلاح المسار الوحيد للخروج من الدوامة. هذا الطريق، رغم تعقيداته، يؤسس لمجتمع أكثر عدالة وإنصافاً. الإصلاح الحقيقي يتجاوز الترقيع، ويذهب إلى جذور الخلل في النظام. في السياقات التي تفقد فيها الدولة شرعيتها بفعل تفشي الفساد، يصبح الإصلاح وسيلة لإعادة تأسيس العقد الاجتماعي. هنا لا بد من تحفيز المشاركة الشعبية، فالإصلاح لا يُفرض من أعلى، بل يُبنى من القاعدة. التجربة أثبتت أن الحلول الفوقية غالباً ما تعجز عن إحداث تغيير حقيقي. لذلك، فإن الطريق المستقيم يتطلب وعياً جمعياً يُدرك أن الألم المؤقت أفضل من الموت التدريجي.
رغم ما يحمله الإصلاح من وعود إيجابية، إلا أن مقاومته من قبل القوى المنتفعة تُعد من أبرز العقبات. فكل إصلاح يهدد بنية الامتيازات القائمة، ويكشف شبكات المصالح التي تراكمت على مدى عقود. في لبنان، على سبيل المثال، يواجه الإصلاح في الكهرباء والنقل والقضاء تحالفاً متيناً بين أصحاب المصالح، الذين يُوظفون الإعلام والسياسة والدين لإجهاض أي محاولة تغيير. لذلك، فإن الإصلاح لا يُقابل فقط بالعقبات التقنية أو المالية، بل بمحاولات ممنهجة لشيطنته وتضليل الرأي العام. لا بد من إدراك أن أي عملية إصلاحية ستهز التوازنات القائمة، وأن كلفة المقاومة قد تفوق أحيانًا كلفة الإصلاح نفسه. ولهذا، فإن الخطوة الأولى تبدأ بكسر حاجز الخوف وبناء ثقة مجتمعية في جدوى التغيير.
رغم ما يبدو من صعوبة في المدى القصير، إلا أن الإصلاح يحقق مكاسب لا يمكن إنكارها على المدى الطويل. فهو يعيد بناء ثقة المواطن بالدولة، ويوفر بيئة اقتصادية أكثر استقراراً وعدالة. كما يخلق فرص عمل حقيقية ويقلص الفوارق الاجتماعية. المجتمعات التي خاضت تجارب إصلاحية ناجحة – مثل بعض دول أوروبا الشرقية – شهدت تحولًا جذريًا في نوعية الحياة. وفي السياق اللبناني، فإن النجاح في ملفات مثل الحوكمة المالية أو استقلالية القضاء سيفتح الباب أمام استثمارات دولية، ويعزز مناعة البلاد تجاه الانهيارات الاقتصادية. الإصلاح، إذا ما كان شاملاً ومستندًا إلى إرادة شعبية، يمكنه قلب المعادلة. لذلك، فالتحدي الأساسي لا يكمن في الصعوبات الآنية، بل في القدرة على النظر أبعد من اللحظة الراهنة نحو مستقبل أكثر استدامة.
- الفساد – الطريق الملتوي رغم الراحة المؤقتة
في الأوضاع المتأزمة، يبدو الفساد كطريق سهل للخروج من المأزق، خاصة عندما تُغلق الأبواب القانونية أمام المواطن البسيط. هنا، يتحول الفساد من ظاهرة تُستنكر علنًا إلى سلوك يُمارس سراً بل ويُبرر أحيانًا. فالوظيفة التي تتطلب واسطة، والعلاج الذي لا يأتي إلا برشوة، والعدالة التي تُشترى بالنفوذ، كلّها تحوّل الفساد إلى جزء من المعاش اليومي. في هذه الحالة، يصبح من الصعب فصل الفساد عن المجتمع ذاته، حيث يتحول إلى منظومة أخلاقية بديلة تُعيد تعريف النجاح والذكاء والمكانة الاجتماعية. لكن هذا الانحدار الأخلاقي لا يحدث فجأة، بل يتسلل تدريجيًا حتى يتطبع معه الناس. الأخطر من ذلك، أن الراحة المؤقتة التي يمنحها الفساد تُخدر الوعي وتُؤجل الانفجار الاجتماعي، لكنها لا تمنعه.
الفساد، في نهاية المطاف، هو استثمار في الفوضى، ومكسبه اللحظي يقابله انهيار مجتمعي لاحق. إنه يعمق الفجوات الطبقية، ويضعف العدالة، ويقضي على مفهوم الكفاءة. في الدول التي يتفشى فيها الفساد، لا تُمنح المناصب للأكفأ، بل للأقرب أو الأغنى، مما يؤدي إلى تراجع في جودة التعليم، وانهيار البنية التحتية، وسوء الخدمات. في لبنان، أثبتت التجربة أن الفساد لا يوافر أحداً: الغني والفقير معاً يدفعون الثمن عندما تتوقف الكهرباء، أو تنهار العملة، أو تتفشى الأوبئة. إن النظام الفاسد يُنتج دولة فاشلة، والمجتمع لا يستطيع العيش طويلاً في ظل الفشل. لذا، فإن من يعتقد أنه يربح من الفساد، لا يدرك أنه يبني بيتاً من ورق في عين العاصفة.
حين يتكرس الفساد في الثقافة المجتمعية، يصبح أكثر خطورة من مجرد سلوك فردي، لأنه يتحول إلى معيار ضمني للتصرف. في المجتمعات التي تُكافأ فيها الخديعة ويُستهزأ فيها بالمبادئ، تصبح النزاهة ضرباً من السذاجة. وهذا أخطر ما في الفساد: أنه يختطف الضمير الجمعي. فالطالب الذي يدفع ليجتاز امتحاناً، والموظف الذي يُسرّع معاملة مقابل مبلغ، والمسؤول الذي يوقّع صفقة مشبوهة، جميعهم يشتركون في إضعاف النسيج الوطني. في لبنان، أدى هذا إلى حالة من اللامبالاة العامة، حيث لم يعد الفساد يُصدم الناس، بل أصبح جزءاً من “الطبيعة”. لذا، فإن محاربة الفساد لا تبدأ فقط من القوانين، بل من إعادة تعريف القيم، وبناء مناعة مجتمعية أخلاقية، تعيد الاعتبار للصدق والنزاهة والكفاءة.

- الاختيار بين الإصلاح والفساد – دوافع نفسية واجتماعية
أحياناً، لا يُمارس الفساد بدافع الجشع فقط، بل بدافع الخوف أو الإحباط أو فقدان الأمل. فالفرد الذي لا يرى أفقاً لمستقبله، أو يشعر بأنه محروم من الحقوق، قد يرى في الفساد تعويضاً عن الظلم. هذه الحالة النفسية تُغذيها تجارب الفشل المتكرر للإصلاح، حيث يشعر المواطن أن النزاهة لا تُكافأ، وأن من يلتزم بالقانون يُعاقب. في هذه اللحظة، يتحول الفساد إلى آلية دفاعية. ومع الوقت، يصبح هذا الانحراف الذاتي منظماً، ويُبرر عبر مبررات ثقافية مثل “الجميع يفعل ذلك”. وهذا ما يجعل مواجهة الفساد مسألة معقدة: لأنها لا تحتاج فقط إلى قوانين، بل إلى معالجة الجذور النفسية للانكسار والانهزام.
البيئة الاقتصادية تلعب دوراً كبيراً في تحديد خيارات الأفراد. ففي سياق الفقر والبطالة وغياب الحماية الاجتماعية، يصبح الفساد خياراً للبقاء لا للترف. العامل الذي لا يكفيه راتبه، أو الخريج الذي لا يجد فرصة عمل، قد ينظر إلى الفساد على أنه فرصة لا مفر منها. في المجتمعات التي لا تكافئ الجدارة، حيث يتساوى المجتهد والمتقاعس، يُولد الإحساس بالغبن. وهنا، يصبح الفساد “منقذاً” من نظام غير عادل. في لبنان، تُعتبر هذه الحالة منتشرة، حيث فقد الشباب الثقة بالمنظومة بالكامل، ما يدفع بعضهم إلى الهجرة، والبعض الآخر إلى التطبيع مع الفساد كحل داخلي. لذا، لا يمكن إصلاح ما هو أخلاقي دون إصلاح ما هو اقتصادي.
لا يُمكن للمجتمع أن يختار الإصلاح بإرادة حرة إذا لم تتوفر له بيئة ثقافية تسمح بذلك. فالثقافة المجتمعية التي تمجد المصلحة الشخصية وتُقصي القيم العامة، لن ترى في الإصلاح سوى شعار أجوف. المطلوب إذًا هو تغيير عميق في نظرة الناس إلى أنفسهم ومجتمعهم. يجب أن يُعاد الاعتبار إلى المواطن كفاعل لا كضحية، إلى النزاهة كمصدر قوة لا ضعف. وهذه الثقافة لا تُفرض، بل تُبنى بالتدريج عبر التربية والإعلام والفن والمجتمع المدني. في لحظة ما، حين تتغير البوصلة القيمية، يصبح الفساد مرفوضاً لا مقبولاً، ويصبح الإصلاح ممكنًا لا مستحيلاً. عندها فقط يكون للاختيار الأخلاقي معنى فعلي.
- أمثلة على الصراع بين الإصلاح والفساد في المجتمعات المعاصرة
في العديد من دول إفريقيا وآسيا، تتكرر السيناريوهات نفسها: شعوب تنهض مطالبة بالإصلاح، فتُقابل بقمع منظم من الأنظمة المستفيدة من الفساد. في نيجيريا مثلًا، شكّلت قضايا الفساد عائقًا رئيسيًا أمام التنمية رغم الثروات النفطية. كلما ظهرت مبادرة إصلاحية، سارع المتضررون إلى تشويهها وإفشالها، إما عبر التهديد الأمني أو التلاعب بالوعي العام. في السودان، أدى الصراع بين الفساد والإصلاح إلى ثورات شعبية متكررة، ولكن غياب البنية المؤسسية القوية جعل الإصلاحات غير مستدامة. في تونس ما بعد الثورة، حاولت الحكومات المتعاقبة تنفيذ إصلاحات، لكنها اصطدمت بشبكات الفساد المتغلغلة في الإدارة والقضاء. هذه التجارب تؤكد أن الصراع بين الإصلاح والفساد ليس لحظة سياسية عابرة، بل هو صراع طويل الأمد بين مشروعين متناقضين جذريًا.
لبنان يُعد حالة نموذجية للتشابك بين الفساد المنظّم ومحاولات الإصلاح العاجزة. على مدار العقود الماضية، تعاقبت الحكومات على طرح مشاريع إصلاحية في الكهرباء والمياه والنقل، لكنها غالبًا ما بقيت حبرًا على ورق. السبب؟ تشابك المصالح السياسية والاقتصادية والطائفية، حيث يتم تقاسم الموارد بدلًا من إدارتها وفق معايير الكفاءة. فحتى عندما اندلعت انتفاضة 17 تشرين عام 2019، التي مثلت لحظة وعي جماعي، حاولت السلطة الالتفاف على المطالب الشعبية عبر وعود فارغة ولجان شكلية. كما استُخدمت الأزمات الاقتصادية لاحقًا كوسيلة لإعادة فرض النفوذ، بدلًا من أن تكون دافعًا حقيقيًا للإصلاح. الفساد في لبنان ليس مجرد سلوك إداري، بل هو ثقافة حكم، وهو ما يجعل المواجهة معه عملية وجودية وليست تقنية.
عندما تفشل محاولات الإصلاح بفعل قوة الفساد، تكون النتيجة تآكل الثقة بين المواطن والدولة، ما ينعكس في ضعف المشاركة السياسية، وازدياد الهجرة، وركود الاقتصاد. في العراق، مثلًا، وبعد سنوات من الحديث عن إصلاحات، لم تتغير بنية النظام الطائفي الفاسد، مما جعل الشعب يُعيد إنتاج الاحتجاجات مرارًا دون نتائج ملموسة. في لبنان، فقد المواطنون الثقة بالكامل بالمؤسسات، وتحولوا نحو المبادرات الفردية، أو قرروا الهجرة كملاذ أخير. هذا التراجع في الثقة يعيد إنتاج الأزمة، لأن أي إصلاح لاحق يفتقد للحاضنة الشعبية. لا يمكن لأي مشروع إصلاحي أن ينجح إذا لم يُبنَ على قاعدة شعبية حقيقية تؤمن به وتدافع عنه. الفساد إذًا لا يسرق المال فقط، بل يسرق الإيمان بإمكانية التغيير.
- التوجه نحو الإصلاح – الخطوات الممكنة
الخطوة الأولى نحو الإصلاح تبدأ من تغيير المفاهيم السائدة لدى الأفراد، عبر نشر الوعي حول أهمية التغيير وخطورة استمرار الفساد. لا يمكن لأي إصلاح أن يُثمر في بيئة يعتبر فيها المواطن الفساد “جزءًا من اللعبة” أو يراه أهون الشرّين. لذلك، ينبغي أن تُطلق حملات توعية جماعية – عبر المدارس والإعلام ومنصات التواصل – تشرح للمواطنين كيف يؤثر الفساد على معيشتهم اليومية. من الضروري أن يرتبط الإصلاح بمصالح الناس المباشرة: صحتهم، تعليم أولادهم، قدرتهم على تأمين دخل كريم. الإصلاح ليس مجرد شعارات سياسية، بل هو مسألة بقاء. بناء ثقافة إصلاحية يتطلب وقتًا، لكنه الأساس لأي تغيير مستدام، لأن الوعي هو السلاح الأهم في وجه التطبيع مع الفساد.
لا يمكن أن ينجح أي مشروع إصلاحي دون وجود مجتمع مدني قوي ومؤسسات رقابة فاعلة. فهذه الجهات تشكّل العمود الفقري للمحاسبة والشفافية. في لبنان، رغم الظروف الصعبة، نشأت مبادرات مدنية جادة تُراقب أداء البلديات وتفضح الصفقات المشبوهة وتطالب بالعدالة. لكن هذه المبادرات لا تزال تواجه تضييقًا قانونيًا وإعلاميًا، وتحرم من التمويل والدعم. المطلوب هو توفير بيئة قانونية تحمي حرية العمل المدني، وتشجع على تأسيس جمعيات مستقلة تُراقب وتُحاسب. كما يجب تفعيل الهيئات الرقابية الرسمية، وتحصينها من التدخلات السياسية. كل نظام إصلاحي ناجح في العالم يعتمد على الرقابة المستقلة كركيزة لمحاربة الفساد. فإذا غابت الرقابة، عادت الفوضى.
أهم عنصر لنجاح الإصلاح هو وجود إرادة سياسية صادقة، تنبع من قناعة بأن التغيير ضروري. في حالات كثيرة، تكون هناك خطط إصلاح جاهزة، لكن الإرادة غائبة. وغالبًا ما يكون السياسيون أسرى مصالحهم أو ضغوط الجهات النافذة. لذلك، فإن ضغط الشارع ضروري، ولكنه وحده لا يكفي. لا بد من تحالف بين قوى داخلية إصلاحية ودعم دولي مشروط بإصلاحات ملموسة. المجتمع الدولي يمكنه أن يشكل عنصر ضغط إيجابي، عبر ربط المساعدات بالتغيير الحقيقي، لا عبر إعادة تمويل المنظومة الفاسدة كما حدث في السابق. الإرادة السياسية إن توفرت، والدعم الدولي إن استُثمر بذكاء، يمكن أن يشكلا معًا انطلاقة جديدة لمجتمع يُعيد الثقة بنفسه، وبقدرته على النهوض من تحت الركام.
- الخاتمة
تُختزل الأزمة التي تعيشها مجتمعاتنا في الصراع المزمن بين طريقين: طريق الإصلاح المؤلم لكن المستقيم، وطريق الفساد السهل لكن المدمّر. وهذا الصراع لا يُخاض فقط في أروقة السياسة أو أروقة الاقتصاد، بل هو معركة داخلية يخوضها كل فرد مع نفسه، بين ما يجب فعله وما هو مريح فعله. لقد بيّنا من خلال تحليل مقولة علي إبراهيم الموسوي أن الإصلاح ليس خيارًا نخبويًا أو نداءً طوباوياً، بل هو الضرورة التاريخية والأخلاقية التي لا خلاص من دونها. أما الفساد، فهو السرطان الذي ينخر جسد الدولة والمجتمع، ويحول الإنسان إلى كائن مفرغ من المبادئ، يتنقّل بين المصالح الضيقة على حساب المصلحة العامة.
الخروج من هذا النفق لا يتم عبر قرارات فوقية فقط، بل يبدأ من قاعدة الوعي الشعبي، ومن الإرادة الفردية في رفض الفساد حتى في أبسط صوره. الإصلاح يبدأ عندما يُدرك المواطن أن مستقبله لا يُبنى عبر الالتفاف على القانون، بل عبر المطالبة بتطبيقه على الجميع. ويبدأ عندما يصبح المسؤول مدركًا أن مهمته ليست خدمة طبقة أو طائفة، بل خدمة الوطن والناس. ويتحقق الإصلاح عندما يتم ربط الخطط الاقتصادية والإدارية برؤية أخلاقية وقيمية، تُعيد تعريف معنى النجاح، لا باعتباره تراكمًا للثروة أو النفوذ، بل قدرة على ترك أثر نافع في حياة الآخرين.
ختامًا، تبقى مقولة الموسوي بمثابة مرآة صافية تعكس واقعًا مأزوماً، وتطرح سؤالًا وجوديًا لا مفر منه: هل نملك، كأفراد ومجتمعات، الشجاعة الكافية لاختيار الطريق الأصعب لأنه الأصح؟ أم سنبقى أسرى طريق سهل يقودنا إلى الهاوية؟ الإجابة لن تأتي من النخبة وحدها، بل من وعي جماعي يقرر أن زمن الفساد قد انتهى، وأن زمن الإصلاح، بكل ما فيه من عرق وتضحيات، قد حان.