الطاعة العمياء تعزّز الديكتاتوريات
د. الياس ميشال الشويري
قد يبدو هذا العنوان صادمًا للكثيرين، ومخالفًا للمألوف، لكن قبل أن تتسرع في رفضه، دعني أطرح عليك بعض الأسئلة التي ربما تكشف لك بعدًا مختلفًا للأمور. هل كنت دائمًا تعتقد أن الحكّام هم السبب الوحيد وراء تدهور الأوضاع في بلادنا؟ هل لاحظت أن الحكّام، مهما كانوا فاسدين أو طغاة، لا يستطيعون أن يستمروا في السلطة إلا إذا كان هناك نوع من التعاون أو التغاضي من الشعب؟ هل تعتقد أن الشعوب قد تساهم في صناعة هذا الخراب بشكل غير مباشر، أو ربما تكون هي التي تسمح بانتشاره؟ إذا كانت إجابتك على هذه الأسئلة بنعم، فقد حان الوقت لكي نتوقف قليلاً عن التفكير العاطفي، ونتوجّه نحو تحليل الأمور بطريقة أكثر موضوعية وعمقًا.
في الغالب، يرتبط حديثنا عن الخراب في البلدان بمجموعة من الأسباب الظاهرة التي نراها على السطح: فساد الحكّام، والتسلط السياسي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وانتهاك الحقوق، كما هو الحال في لبنان. لكن هل فكرت يومًا في الأسباب الخفية التي تسهم في تكريس هذا الوضع؟ هل تساءلت في أي نقطة تحدّد الشعوب دورها في كل ما يحدث، وأين تقع مسؤوليتها عن تبعات الوضع القائم؟ ربما حان الوقت لإعادة التفكير في أن الحكم لا يكون مجرد فرد يملك السلطة، بل هو نتيجة لإرادة جماعية، ومجموع من الظروف التي تصنعها الشعوب، إما بتواطؤ أو بصمت، وأحيانًا بسبب الجهل أو الانقياد الأعمى.
إن معظمنا يميل إلى تحميل الحكّام مسؤولية كل ما يحدث في بلداننا، ولكن إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية أوسع، يمكن أن نرى أن الشعوب أيضًا قد تتحمّل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. فالوعي الشعبي، أو بالأحرى غيابه، له تأثير عميق على تطوّر الأحداث. بل إن هناك من يجادل بأن الحكّام الفاسدين لا يظهرون في السلطة إلا إذا كانت الشعوب مستعدة لقبولهم، أو على الأقل التعايش مع فسادهم.
- اللوم على الحكّام: هل هو المبرّر الوحيد؟
منذ بداية الأزمات السياسية والاجتماعية في العالم العربي، ومن بينها لبنان، كانت غالبية الانتقادات موجهة إلى الحكّام الذين يُتهمون عادة بالفساد، والطغيان، والاستبداد. وهذا التصوّر غالبًا ما يكون سائدًا في معظم النقاشات والحوارات العربية، حيث يُنظر إلى الحكّام كمسؤولين رئيسيين عن تدهور الأوضاع الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية. تكاد تكون هذه النظرة الشائعة هي المعتمدة في فهم العديد من المشاكل التي تواجه الدول العربية، ويُعتقد أن الحكّام وحدهم هم من يتسبّبون في الأزمات التي تشهدها بلدانهم. لكن، هل الحاكم هو المسؤول الوحيد عن هذه الأوضاع؟ هل من الممكن أن يكون للشعوب دورًا في صناعة الخراب الذي نشهده في العديد من هذه الدول؟
عجقة السير لم يفتعلها الحاكم
قبل أن نجيب على هذا السؤال، لا بد أن نتوقف لحظة ونتأمل في طبيعة المشهد السياسي والاجتماعي القائم. فالحاكم لا يظهر فجأة على الساحة السياسية من العدم، بل إن وصوله إلى السلطة هو نتيجة تفاعلات معقدة وظروف متشابكة تراكمت على مدار سنوات، إن لم يكن عقودًا. في جوهر الأمر، الحاكم ليس شخصًا خارقًا يتمتع بقدرة فطرية على السيطرة أو التسلّط، بل هو فرد نشأ في ذات البيئة التي نشأ فيها بقية أفراد الشعب، وتأثر بالقيم والعادات والممارسات السائدة في مجتمعه. لذلك، فإن الحكّام لا يصعدون إلى السلطة بمفردهم، بل تدفعهم إلى الواجهة قوى سياسية واجتماعية واقتصادية تسهّل لهم طريق الوصول، وتساعدهم في ترسيخ نفوذهم. وقد يمتلك بعض الحكّام كاريزما أو مهارات قيادية تمكّنهم من كسب التأييد، لكنهم لا يستطيعون إحكام قبضتهم على السلطة دون شبكة من المنتفعين والمنافقين والانتهازيين الذين يعززون سلطتهم ويمهدون لهم الطريق.
هؤلاء، بدافع مصالحهم الخاصة، لا يترددون في الترويج لصورة زائفة للحاكم، وتحويله إلى “قائد ملهم” أو “مُخلّص” لا بديل منه، حتى لو كان ذلك على حساب الوطن ومصالح شعبه. وهذا تمامًا ما شهدناه في لبنان، حيث جرى تضليل الناس وتلميع صورة من نهبوا البلاد والعباد، واستباحوا حقوق مواطنيه، وأوصلوه إلى حافة الانهيار. فبدلًا من محاسبة هؤلاء الحكّام الفاسدين، جرى تمجيدهم وتقديمهم كرموز وطنية، رغم أنهم المسؤولون عن الكوارث التي عصفت بالبلاد. وهكذا، تصبح الشعوب، بوعيها أو دون وعيها، شريكًا في ترسيخ الاستبداد، حينما تصمت عن الفساد أو تنخدع بالأوهام التي يُروّج لها باسم الوطنية والإنجازات الوهمية.
إن الحاكم، في البداية، يكون مجرّد شخص عادي، وقد لا يمتلك القدرات القيادية الاستثنائية التي يعتقد البعض أنها ضرورية للوصول إلى هذا المنصب. ولكن مع مرور الوقت، ومع تزايد الدعم الشعبي له، يبدأ الحاكم في اكتساب مكانة أعلى من مجرّد شخص عادي. يبدأ في تلقّي الثناء والمديح من المحيطين به، وتنتشر الأساطير حوله، مما يدفعه إلى الإيمان تدريجيًا بأنه فوق البشر، وأنه وحده القادر على إنقاذ الأمة. تتطوّر هذه الصورة إلى حد أن بعض الحكّام يعتقدون أن شعوبهم بحاجة إليهم بشكل مطلق، ممّا يؤدّي إلى تكريس هذا النوع من الحكم الاستبدادي.
وبناءً على ذلك، فإن الحاكم لا يكون وحيدًا في مسؤولية تدهور الأوضاع، بل هناك دور كبير للشعب في صنع هذا الوضع. فالشعوب التي تقبل بأن تُعامل بهذه الطريقة، وتتصوّر أن الحاكم هو الحل الوحيد لمشاكلها، هي التي تسهم بشكل غير مباشر في خلق بيئة تتيح للحكام السيطرة على زمام الأمور. إن تقديس الحكّام وتعظيمهم بشكل مبالغ فيه يجعلهم في النهاية يتحولون إلى أشخاص فوق الحساب، ويصبح الشعب في موقع المتفرّج الذي لا يمتلك القدرة على محاسبة أو معارضة من هم في السلطة.
- الشعوب وصناعة الحاكم: كيف يساهم الشعب في خلق الدكتاتورية؟
من المؤكّد أن الكثيرين سيستغربون من هذه الفكرة، وسيتساءلون كيف يمكن للشعب أن يكون جزءًا من صناعة الدكتاتورية. هذه الفكرة قد تبدو غير مألوفة أو حتى صادمة للكثيرين، خصوصًا لأولئك الذين يرون في الحكّام دائمًا المسؤولين الأول والأخير عن كل ما يحدث في بلادهم من فساد وقمع. لكن، إذا نظرنا إلى الوضع بعمق أكبر، يمكننا أن نرى أن الشعب، من حيث لا يدري، يلعب دورًا محوريًا في تعزيز سلطات الحاكم وتثبيت حكمه الاستبدادي. لنأخذ مثالًا بسيطًا: الحاكم الذي يصبح قوةً لا يمكن معارضتها هو الحاكم أو الزعيم الذي يتمتّع بشعب يقدسه ويصلّي له ويعظّمه كأنه من نسل الآلهة، في حين أن هذه الصورة تعكس في الحقيقة دور الشعب في صناعة تلك القوة المستبدة التي تسيطر على مصير البلاد.
في الواقع، الشعب هو الذي يصنع الحاكم، لأنه يقبل به ويمنحه السلطة المطلقة، فيوافق على أن يكون الحاكم فوق الحساب والمساءلة. الحاكم الذي يصل إلى السلطة لا يأتي بمعجزات، بل هو نتاج تراكمات ثقافية واجتماعية تؤدي إلى تقديس شخصيات قد تكون بعيدة عن التأهيل المناسب للقيادة. فالشعوب غالبًا ما تقدس الحكّام وتضعهم في مرتبة أعلى من الجميع، وتخلق صورة زائفة عنهم كقادة عظماء لا يمكن المساس بهم. هذا التقديس يؤدي إلى حالة من العجز الجماعي، حيث يتوقف المواطنون عن التفكير النقدي ويقبلون بهيبة الحاكم بدون تمحيص. هذه الظاهرة تخلق بيئة ملائمة لبناء دكتاتورية، إذ تصبح المعارضة غير ممكنة أو محظورة من حيث المجتمع نفسه، الذي يصور كل محاولة للتمرد أو الاعتراض على الحاكم على أنها خيانة أو تصرف غير طبيعي.
خذ مثالًا آخر على ذلك: في العديد من البلدان، نجد أن هناك طقوسًا من التبجيل والتقديس التي تُمارس تجاه الحكّام. يتم تصوير الحاكم كأنه شخصية شبه إلهية، وتُضاف حوله هالة من المديح والتبجيل التي تجعل من الصعب على الشعب أن يرى الواقع بشكل موضوعي. يتراكم حولهم حاشية من المنافقين الذين يُظهرون الولاء الأعمى ويقنعون الشعب بأن الحاكم هو “المنقذ” الذي لا بديل له. هؤلاء المنافقون لا يقومون فقط بتعزيز صورة الحاكم في عيون الناس، بل يعملون على تحويله إلى شخص يعتقد أنه يمتلك الحق الإلهي في الحكم وأنه “مبشر” لحل جميع المشاكل وتزدهر البلاد تحت قيادته. في هذه البيئة، يصبح الحاكم أكثر قوة وأكثر قسوة، حيث يحظى بشرعية مطلقة في نظر الشعب. في العديد من الحالات، يُخلق الحاكم على أساس هذه الصورة الأسطورية التي يجسدها الشعب من خلال الانصياع المطلق والقبول بالواقع كما يفرضه الحاكم.
وفي كثير من الحالات، يكون الشعب هو أول من يصدق هذه الأكاذيب ويجعل الحاكم يعتقد أنه شخص فريد من نوعه، وأنه لا يوجد مثله في التاريخ. هذه الصورة المبالغ فيها عن الحاكم تؤدي إلى تزايد انعدام المساءلة، حيث يصبح أي معارض للحاكم في نظر الجمهور “خائنًا” أو “مارقًا” خارجًا عن قوانين الطبيعة. مع مرور الوقت، تنشأ ثقافة من الطاعة العمياء والتسليم للسلطة التي تجعل من أي انتقاد للحاكم جريمة يعاقب عليها القانون أو المجتمع، ويشمل ذلك تصوير المعارضين على أنهم عناصر غير وطنية أو عدوّة للخير العام.
نتيجة لذلك، فإن الشعب لا يساهم فقط في تأكيد سلطة الحاكم، بل يساهم بشكل مباشر في تعزيز استبداده. عندما تخلق المجتمعات هذه البيئة التي تُسلم فيها السلطة بشكل مطلق للحاكم، فإنها بذلك تساهم في تقوية مركزه وتمكينه من فرض المزيد من القيود على حرياتها. بل إن بعض الحكّام قد يذهبون إلى أبعد من ذلك في خلق صور بطولية لهم، مدعومين بشعب يردد هذه الأساطير ويعززها، مما يجعل من الصعب تغيير هذه الوضعية أو حتى تصحيح المسار.

- كيف تسهم الشعوب في ترسيخ الظلم؟
على الرغم من أن الحاكم قد يكون فاسدًا وطاغيًا، إلا أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الشعب. فعندما يظل الشعب صامتًا أمام الظلم، وعندما يختار أن يظل خاضعًا بدون مقاومة، فإنه يساهم بشكل غير مباشر في ترسيخ الظلم والاستبداد. إن الشعب، بموقفه السلبي أو تجاهله لما يحدث حوله من ممارسات خاطئة، يصبح عاملًا أساسيًا في الحفاظ على الأنظمة الظالمة، حيث تتسارع هذه الأنظمة في تطبيق سياساتها القمعية تحت مظلة قبول الشعب أو على الأقل تواطؤه غير المعلن. فكلما استمر السكوت عن الظلم، ازداد تمادي الحكّام في طغيانهم، واستمروا في تطبيق السياسات الفاسدة التي تُفضي إلى تدهور الأوضاع، بل قد يتخذون هذه السياسات ذريعة لتعزيز قبضتهم على السلطة.
إن السكوت عن الظلم في كثير من الأحيان لا يعني فقط عدم اتخاذ موقف، بل قد يعني أيضًا المشاركة غير المباشرة في توطيد هذا الظلم. ففي غياب رد فعل جماعي من الشعب، يشعر الحاكم أن سلطته غير قابلة للمس، وأنه في مأمن من أي محاسبة. هذا يؤدي إلى تصعيد السياسات الاستبدادية، وفرض المزيد من القيود على الحريات العامة. فالحكّام لا يستطيعون البقاء في السلطة أو فرض السياسات الفاسدة إلا إذا كانت هناك فئة من الشعب إما تقبل بذلك بشكل غير مباشر أو تكون غير قادرة على التنظيم والتعبير عن معارضتها بفعالية.
من السهل أن نلوم الحكّام على كل شيء، ولكن من الصعب أن نُعترف بأن الشعب هو من جعل هذا الوضع ممكنًا. الشعب ليس مجرد متفرج، بل هو جزء لا يتجزأ من هذه الديناميكية. الحاكم قد يضع القوانين والتشريعات التي يمكن أن تؤدي إلى تدهور الدولة، ولكنه لن يستطيع تنفيذ هذه السياسات بدون قبول الشعب أو على الأقل تواطؤه. على الرغم من أن الحاكم قد يكون الشخص الذي يسيطر على مفاصل الدولة، إلا أن الشعب هو الذي يساهم في تفعيل هذه الأنظمة من خلال صمته أو تواطؤه أو خوفه من التغيير. في النهاية، الحاكم ليس سوى شخص من نفس المجتمع الذي ينتمي إليه الشعب، وبدون الدعم أو السكوت من الشعب، لن يستطيع هذا الحاكم أن يمارس طغيانه بفعالية.
المسؤولية هنا ليست مسؤولية فردية فقط، بل هي مسؤولية جماعية تقع على عاتق المجتمع ككل. فالتاريخ مليء بالأمثلة التي تظهر كيف أن الشعوب التي وقفت ضد الظلم والفساد، استطاعت أن تطيح بالأنظمة الفاسدة، بينما استمر السكوت في العديد من الحالات في الحفاظ على الأنظمة نفسها لفترات طويلة. إذا كانت الشعوب في مراحل معينة قد سمحت للحكام بأن يصبحوا آلهة، فإن التغيير لن يأتي إلا عندما تعي هذه الشعوب دورها الحقيقي في صنع مصيرها.
عندما يتخلى الشعب عن حريته ويستسلم للقهر، فإنه يساهم في صناعة الفساد داخل المجتمع. في هذه الحالة، يصبح الحاكم ليس مجرد شخص يمارس الطغيان، بل أداة تعبير عن الضعف الجماعي وتدني الوعي الاجتماعي. بذلك، تُغرس في المجتمع ثقافة الخوف واللامبالاة، التي تسهم في تأصيل استبداد الحاكم وجعل الإصلاحات أو التغيير أمرًا صعبًا إن لم يكن مستحيلاً.
إن الشعب الذي يبقى ساكنًا أمام الظلم يساهم بشكل مباشر في استمرار هذا الوضع، ويصبح جزءًا من دائرة مغلقة من الفساد والطغيان، في حين أن الوقوف في وجه الظلم لا يتطلب فقط إظهار المواقف الشجاعة، بل يتطلب أيضًا توعية مستمرة وتثقيفًا جماعيًا حول ضرورة المحاسبة والعدالة. وبالتالي، يتعين على الشعوب أن تتحمل مسؤوليتها بالكامل، وأن تفهم أن السكوت ليس مجرد غياب للرأي، بل هو بمثابة دعم غير مباشر للحالة الراهنة التي تعيشها بلدانهم.
- المثال الألماني والتركي: الشعوب الواعية والفاعلة
لنقارن بين حالتين، الأولى هي ألمانيا. عندما ارتفع سعر البنزين في ألمانيا، خرج الشعب في مسيرة احتجاجية سلمية، وتركوا سياراتهم في الشوارع، مما دفع الحكومة إلى الرجوع عن قرار رفع الأسعار. هذه الحالة ليست مجرد حادثة عابرة، بل هي تعبير عن الوعي الجماعي للشعب الألماني بأهمية الحفاظ على حقوقه في مواجهة السياسات الاقتصادية التي قد تضر بمصالحه. هذه الحركات الاحتجاجية لم تكن تعبيرًا عن الفوضى أو الغوغائية، بل كانت نتيجة لإدراك الشعب لما يترتب على مثل هذه القرارات من تداعيات اقتصادية واجتماعية. ما حدث في ألمانيا هو دليل على أن الشعب، عندما يكون واعيًا ومدركًا لحقوقه، يمكنه أن يكون القوة التي توازن بين السلطة والمجتمع، وأنه يمكنه أن يفرض التغيير من خلال العمل المنظم والضغط السلمي.
أما في الحالة الثانية، في تركيا، عندما حاولت مجموعة من العسكريين الانقلاب على الحكومة الشرعية، خرج الشعب التركي بكثافة في الشوارع، وأوقف الانقلاب في ساعات قليلة. هذه الحركات لم تكن مدفوعة فقط بالوعي السياسي، بل كانت نتيجة لثقافة الانتماء إلى الدولة والشعور بالمسؤولية الوطنية. الشعب التركي كان واعيًا بما يكفي ليدافع عن دولته ويعزز من شرعيتها، وهو ما يُظهر أن الوعي الجماعي يمكن أن يصبح حصنًا ضد محاولات التفكك والانقضاض على المؤسسات الديمقراطية. فالشعب التركي لم يقتصر فقط على الرد العاطفي على التهديدات، بل قام بتوجيه هذا الرد بشكل منظم ومدروس، مستندًا إلى القيم الوطنية والإدراك العميق بأهمية استقرار الدولة وشرعية الحكومة.
هذه الأمثلة تظهر أن الشعب لا يجب أن يكون ضحية أبدية، بل يجب أن يكون فاعلاً في تغيير الوضع القائم عندما تكون الأمور على شفا الانهيار. في كلتا الحالتين، كان الوعي الجماعي والتنظيم المدني هما الأساس الذي مكّن الشعب من التأثير الفعّال في المسار السياسي والاجتماعي. إن هذا النوع من الوعي لا يتشكل بين عشية وضحاها، بل يتطلب سنوات من التربية المدنية والتعليم السياسي والتفاعل المجتمعي. وعندما يكون الشعب مدركًا لقوته الحقيقية كمحرك للتغيير، فإنه يصبح عنصرًا أساسيًا في صناعة المستقبل، بدلاً من أن يظل مجرد ضحية للأحداث السياسية.
في هذا السياق، يمكننا أن نتساءل: لماذا لا يحدث نفس الشيء في العديد من الدول العربية؟ لماذا لا يتنبه الشعب العربي إلى أن لديه القدرة على إحداث التغيير؟ هل يعود ذلك إلى نقص الوعي السياسي، أم إلى الخوف من مواجهة السلطة، أم إلى غياب التنظيم المدني القوي الذي يمكن أن يُحدث فرقًا حقيقيًا في مسار الأحداث؟
- الشعب والمشاركة في صنع الخراب
عندما نتابع الوضع في بعض البلدان العربية، نلاحظ أن الشعوب تظل في حالة من السكون، وكأنها لا تملك أي حق في التأثير على التغيرات التي تمر بها بلدانها. هذه الحالة من الخمول لا تتوقف عند حدود الاستسلام للواقع، بل تتعداها لتصبح جزءًا من المنظومة التي تساهم في استمرار التدهور والفساد. ففي كثير من الحالات، نجد أن الشعوب العربية أصبحت معتادة على التعايش مع الفساد والاستبداد، وكأنهما جزء من الطبيعة التي لا يمكن تغييرها أو مقاومتها. بل على العكس، نجد أن هذه الشعوب قد ساهمت بشكل غير مباشر في تفشي الفساد والطغيان من خلال سكوتها عن الحقوق، وعجزها عن ممارسة دورها في مراقبة حكامها، أو في اتخاذ مواقف حاسمة في اللحظات التي كان من المفترض أن يكون فيها التحرك سريعًا وحاسمًا.
ما يزيد الأمور تعقيدًا هو أن هذا السكوت ليس مجرد نتيجة للجهل أو العجز، بل هو أيضًا نتيجة للعديد من العوامل الثقافية والاجتماعية التي تؤدي إلى تكريس حالة من الخوف واللامبالاة. في العديد من المجتمعات العربية، هناك تقاليد اجتماعية تجعل من الانتقاد أو الاعتراض على السلطة أمرًا محرمًا أو مرفوضًا. كما أن هناك ثقافة عامة تُعلي من شأن “التسليم” و”القبول” بالأمر الواقع، مما يعزز من موقف الحكّام ويسهل لهم تمرير سياساتهم الفاسدة بسهولة.
عندما يكون الشعب غائبًا عن المشهد السياسي، ولا يمارس دوره الطبيعي في مراقبة السلطة والمطالبة بحقوقه، يتحوّل الحاكم إلى شخص فوق المحاسبة، يحكم بيد من حديد دون أن يجد من يعترض على قراراته أو يناقشها. وبدلاً من أن يكون الشعب قوة فاعلة تُحدث التغيير، يصبح عبئًا ثقيلًا يتحمّل تبعات السياسات الفاشلة، ممّا يؤدي إلى تفشّي الفساد والتدهور الاقتصادي والاجتماعي، كما حصل تماماً في لبنان!
من المؤسف أن كثيرًا من الناس في هذه المجتمعات لا يدركون أن سكوتهم وتخاذلهم ليس فقط في صالح الحكّام، بل هو أيضًا ضرر لهم في المقام الأول. فالتقاعس عن التفاعل مع الأحداث السياسية والاجتماعية ورفض التغيير يساهم في تعطيل أي محاولة للإصلاح. في اللحظات التي كان من المفترض أن يُفجر فيها الشعب طاقاته ويعبّر عن غضبه ورفضه للظلم، نجد أن الصمت هو السمة الغالبة.
هذه الحالة من اللامبالاة لا تقتصر على فئة معينة من الشعب، بل تتوزع على كافة الطبقات الاجتماعية، حتى أولئك الذين يعتبرون أنفسهم متعلمين أو نخبويين. هؤلاء أيضًا غالبًا ما يفضلون البقاء في موقع المتفرج، بعيدًا عن أي تدخل مباشر في الشؤون السياسية، إما خوفًا على حياتهم أو من أجل الحفاظ على مصالحهم الشخصية أو بسبب انعدام الثقة في إمكانية التغيير. وهذا بدوره يجعل الحكّام يشعرون أن لديهم كامل الحرية في اتخاذ أي قرار دون أي حسابات.
وفي ظل هذه الثقافة السائدة، تصبح محاولات التغيير والتطوير شبه مستحيلة. حتى وإن ظهرت بعض الاحتجاجات أو التحركات الشعبية، فإنها غالبًا ما تكون محكومة بالفشل، لأن الشعب لا يمتلك الأدوات اللازمة لإحداث التغيير الجذري. فالمطالبة بالحقوق لا تكتمل دون تنظيم سياسي فعال، وغياب هذا التنظيم يساهم في فشل أي حركة اجتماعية، بل ويعرضها للتقسيم والتشويش.
- الصمت على الظلم: كيف يتحول إلى تواطؤ؟
إن السكوت عن الظلم ليس مجرد حالة من الحياد، بل هو نوع من التواطؤ الذي يساهم في استمرار الظلم. ففي الوقت الذي يتم فيه ارتكاب الجرائم بحق الشعوب، وفي اللحظات التي يمكن أن تُواجه فيها الأنظمة الفاسدة بتحدٍ قوي، يختار الكثيرون الصمت أو الهروب من المسؤولية، معتقدين أن السكوت هو السبيل الأفضل للبقاء بعيدًا عن المتاعب. لكن هذا السكوت في الواقع ليس حيادًا؛ بل هو شريك غير مباشر في صيانة الظلم. فالأنظمة التي تستمر في الفساد والتسلط على الشعوب لا تجد معارضة حقيقية إلا من عدد قليل جدًا، مما يسمح لها بالاستمرار في نهجها الفاسد دون حساب.
الشعوب التي لم تتحرك عندما بدأ الفساد في الاستشراء في حكوماتها، لم تتحرك عندما بدأ الحكّام في تكريس سلطتهم على حساب حقوق المواطنين، هي شعوب تواطأت بشكل غير مباشر مع الفساد، وصمتها كان جزءًا من عملية تكريس الظلم. وهذا الصمت ليس دائمًا ناتجًا عن الجهل أو اللامبالاة، بل في بعض الأحيان يكون ناتجًا عن الخوف من العواقب أو حتى العجز عن إحداث التغيير بسبب التهديدات التي قد تتعرض لها الأفراد والمجتمعات. ومع مرور الوقت، يتحول هذا الصمت إلى قناعة مفادها أن “ما من شيء يمكن تغييره”، ويصبح هذا الشعور جزءًا من النسيج الاجتماعي.
كما يقول الله تعالى: “وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ”. هذه الآية هي تذكير لنا بأننا نحن من نصنع مصيرنا، وأن السكوت على الظلم هو جزء من خلقه. عندما نقف متفرجين على الظلم، فإننا نساهم في ترسيخ هذا الظلم، حتى وإن كانت نوايانا غير متورطة في ارتكابه. فالظلم لا يحدث في فراغ، بل هو نتاج تفاعل بين الحكّام والمواطنين. إذا كانت الشعوب مستسلمة للظلم وغير مستعدة للتحرك، فإن الحكّام سيشعرون بأنهم في مأمن من المحاسبة، مما يتيح لهم الاستمرار في استغلال السلطة وتوسيع دائرة الفساد.
هذه الآية تدعونا لأن نكون أكثر وعيًا بمسؤولياتنا كأفراد وجماعات في المجتمع. فهي تحثنا على عدم السكوت أمام الظلم والفساد، بل على مواجهة هذا الواقع والتصدي له بكل ما أوتينا من قوة. إن السكوت ليس فقط غيابًا للتفاعل، بل هو بمثابة تضحية بالحقوق والكرامة الإنسانية، بل قد يصل الأمر إلى المشاركة في الجريمة بطريقة غير مباشرة. فعندما لا نتخذ موقفًا حاسمًا ضد الفساد، فإننا نمنح الشرعية للأفعال الخاطئة.
لذلك، يجب على الشعوب أن تكون واعية بأن أي ظلم يحدث في بلدانهم ليس مجرد نتيجة لحكم طاغية، بل هو نتيجة صمتهم وعدم قدرتهم على مواجهة الظلم ومحاسبة الحكّام. إن تغيير الوضع القائم يتطلب تحركًا جماعيًا واعيًا وقويًا. ولا يجب أن ننتظر حتى يتراكم الظلم لدرجة يصبح فيها من المستحيل مقاومته. بل يجب أن نتخذ خطوات مبكرة، وأن نؤمن بقدرتنا على التغيير وأن نرفض التسليم للواقع السيئ. إذا لم نتحرك الآن، فسنظل عالقين في دائرة من الفساد والطغيان التي لا تنتهي.
- الخاتمة
في الختام، يجب أن ندرك جميعًا أن اللوم لا يقع فقط على الحكّام، بل يجب أن يكون لومًا جماعيًا. فالحكّام ليسوا كائنات خارجة عن سياق المجتمع الذي ينتمون إليه. هم جزء من نسيج هذه المجتمعات، يأتون من بين الشعوب، ويصعدون إلى السلطة بناءً على تفاعلهم مع الظروف الاجتماعية والسياسية. إذا كانت الشعوب قد صنعت الخراب بتواطؤها أو سكوتها، فهي مسؤولة عن تمكين الحكّام من تنفيذ سياساتهم الفاسدة، بل إنها شريك غير مباشر في استدامة هذا الخراب. السكوت عن الظلم، بل حتى التعايش معه، يسهم في تعزيز سلطات الحاكم الطاغي ويمنحه قوة إضافية تمكنه من الاستمرار في نهج استبدادي.
لذا، من الضروري أن نأخذ العبرة من التاريخ، وأن نكون أكثر وعيًا بمسؤولياتنا كمواطنين. فالتاريخ يعلمنا أن الشعوب التي لم تتحرك في اللحظات الحرجة، لم تكن فقط ضحية لسلطة فاسدة، بل كانت أيضًا سببًا في تمكين هذه السلطة من الاستمرار. ونحن اليوم، إذا أردنا تغيير واقعنا، يجب أن نبدأ بتغيير أنفسنا أولًا. لا يمكننا أن نطالب بتغيير من حولنا إذا لم نكن نحن أنفسنا قادرين على التغيير. يجب أن نتوقف عن السكوت على الظلم، وأن نرفض أن نكون شهودًا على الفساد دون أن نرفع صوتنا. علينا أن نمارس دورنا بشكل نشط في بناء وطننا، وأن نتحمل مسؤولياتنا الاجتماعية والإنسانية في الوقوف ضد كل أشكال الاستبداد.
إن الشعوب التي تصمت على الظلم هي التي تُحَمِّل نفسها مسؤولية الخراب الذي يحدث في بلادها. السكوت ليس محايدًا، بل هو اشتراك غير مباشر في استمرار الواقع الفاسد. وكلما طالت فترة الصمت، زادت الأعباء على المجتمع بأسره، وزادت قسوة الظروف التي يواجهها المواطنون. إن المستقبل لا يُبنى بالتسليم بالأمر الواقع، بل بالتحدّي والإصرار على التغيير، ويبدأ هذا التغيير من داخل كل فرد في المجتمع. إذا كنّا نريد أن نصنع غدًا أفضل، فإن أول خطوة يجب أن تكون في مواجهة الفساد والظلم، وأن نرفض أن نكون جزءًا من النظام الذي يروج له.