المواجهة
د.الياس ميشال الشويري
يمّر لبنان بمرحلة مصيرية تتسم بانهيارات متتالية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ممّا أدّى و يؤدي إلى تفكّك شبه كامل لسلطة الدولة وعجزها عن فرض القانون. في ظل هذا الفراغ، باتت بعض الفئات والجماعات الغوغائية بامتياز تمارس سلوكيات خارجة عن القانون، مستغلة ضعف المؤسسات الأمنية والقضائية لفرض أمر واقع قائم على الفوضى والغوغائية.
في هذا السياق، جاء الاعتداء الأخير (في 14 شباط 2024) على قوات اليونيفيل على طريق مطار بيروت ليعكس حجم الانفلات الأمني الذي يهدّد صورة لبنان ومكانته الدولية. لم يكن هذا الاعتداء مجرّد حادث عرضي، بل تعبير عن ذهنية تعتقد أنها فوق المحاسبة، كما جرت العادة لسنوات طويلة، وأنه يمكن فرض الإرادة بالقوة دون أي عواقب قانونية أو سياسية. هذا النوع من التصرفات لا يسيء فقط إلى سمعة لبنان، بل يهدّد أمنه الداخلي، لأنه يكرّس منطق الإفلات من العقاب، وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من الفوضى والتعديات على مختلف الأصعدة.
لذلك، فإن التساهل مع هذه الظاهرة يعني ضرب ما تبقّى من سلطة الدولة، وفتح المجال أمام مزيد من التجاوزات التي قد تصل إلى حد تهديد الأمن القومي. لذا، يصبح من الضروري مواجهة هذه الاعتداءات بكل حزم، ومحاسبة المتورطين فيها وفق القانون، حتى لا يتحوّل لبنان إلى ساحة مفتوحة للفوضى والاضطرابات التي تهدّد مستقبله واستقراره.

- قوات اليونيفيل في لبنان – دورها وأهميتها
- الخلفية التاريخية لإنشاء اليونيفيل. تأسست قوات اليونيفيل (UNIFIL) بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425 لعام 1978، وذلك عقب الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني، وكان الهدف الأساسي من إنشائها هو ضمان انسحاب القوات الإسرائيلية، ومساعدة الحكومة اللبنانية في بسط سلطتها على المناطق المحرّرة.
عبر العقود الماضية، لعبت اليونيفيل دورًا أساسيًا في منع تفجّر الأوضاع الأمنية في الجنوب اللبناني، لا سيما بعد حرب تموز 2006، حينما تم توسيع نطاق مهامها بموجب القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن، والذي أكّد ضرورة مراقبة وقف الأعمال العدائية، ودعم الجيش اللبناني في المناطق الحدودية.
- اليونيفيل والتوازن الأمني في جنوب لبنان.على الرغم من الانتقادات التي وُجّهت إلى هذه القوات من بعض الجهات السياسية، فإن اليونيفيل تبقى عامل استقرار رئيسيا في لبنان، حيث تساهم في:
- مراقبة تنفيذ اتفاقيات وقف إطلاق النار ومنع حدوث تصعيد عسكري بين لبنان وإسرائيل.
- دعم الجيش اللبناني أمنيًا ولوجستيًا، خاصة في الجنوب، حيث تُعتبر إحدى القوى الضامنة للاستقرار.
- المساعدة في مشاريع تنموية وإنسانية تخفّف من معاناة السكان المحليين.
لذلك، فإن التعرض لهذه القوات يمثّل تهديدًا مباشرًا للاستقرار العام، وقد يؤدّي إلى تقليص دورها أو انسحاب بعض الدول الداعمة لها، ممّا قد يعرّض لبنان لمزيد من الضغوط الأمنية والدبلوماسية.
- الاعتداء على اليونيفيل – استهداف متعمّد أم فوضى عشوائية؟
- تفاصيل الاعتداء. شهد طريق مطار بيروت الدولي قبل يومين حادثة خطيرة، حيث تعرضت قوات اليونيفيل لهجوم من قبل مجموعة من الغوغائيين الذين قاموا بقطع الطريق والاعتداء على المركبات التابعة لهذه القوة الدولية، ممّا تسبب بأضرار مادية، إضافة إلى تهديد سلامة أفراد القوة. هذا الاعتداء جاء في وقت حسّاس للغاية، حيث يواجه لبنان ضغوطًا دولية متزايدة لإثبات قدرته على ضبط أمنه الداخلي، كما أنه يعاني من عزلة دبلوماسية خانقة نتيجة الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية.
- التساؤلات المطروحة حول دوافع الاعتداء. ما يثير القلق في هذه الحادثة هو عدم وضوح الدوافع الحقيقية وراءها. فهل كانت فردية نتيجة الفوضى الأمنية؟ أم أن هناك جهات تقف خلفها لتحقيق أهداف معينة؟ ومن المستفيد من هذا النوع من التصرفات؟
التحقيقات الأولية تشير إلى أن هذا الاعتداء قد يكون نتيجة تراكم الخطاب التحريضي ضد القوات الدولية من بعض الأطراف التي تروّج لفكرة أن هذه القوات تتجاوز مهامها أو تتدخّل في الشؤون الداخلية للبنان. لكن بغض النظر عن الأسباب، لا يمكن تبرير أي اعتداء على قوات الأمم المتحدة، لأنها تعمل وفق قرارات شرعية دولية، وتحت غطاء مجلس الأمن.

- التداعيات الخطيرة لمثل هذه الاعتداءات
لا يمكن الاستخفاف بتداعيات هذا الاعتداء، إذ انه يهدّد لبنان على عدّة مستويات:
- التوتّر الدبلوماسي والعلاقات مع المجتمع الدولي. لبنان يعاني أصلًا من عزلة دولية، وأي اعتداء على قوة أممية يزيد من توتر علاقاته مع الدول الكبرى، ممّا قد يؤدي إلى فرض عقوبات إضافية أو تقليص الدعم الدولي للبنان.
- إضعاف سلطة الدولة اللبنانية.إن عدم قدرة الدولة على منع هذه الاعتداءات يعني الإقرار بضعفها أمام الجماعات الخارجة عن القانون، ممّا يشجّع على مزيد من الفوضى والانتهاكات.
- إمكانية اتخاذ إجراءات دولية ضد لبنان. إذا استمرت هذه الاعتداءات، فإن مجلس الأمن قد يعيد النظر في القرار 1701، وقد يؤدّي ذلك إلى فرض عقوبات، أو حتى تغييرات في مهام القوات الدولية بطريقة قد تؤثّر سلبًا على الوضع الأمني في الجنوب.
- تدهور صورة لبنان عالميًا.أي اعتداء على قوات اليونيفيل ينعكس بشكل مباشر على صورة لبنان في الإعلام العالمي، ممّا يجعله يظهر كدولة عاجزة عن ضبط أمنها الداخلي، وهو أمر يزيد من تعقيد الأوضاع السياسية والاقتصادية.
- المطلوب – محاسبة المعتدين وتعزيز سلطة الدولة
لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، يجب اتخاذ إجراءات فورية، أهمها:
- فتح تحقيق شامل وفوري لمعرفة من يقف خلف هذه الاعتداءات، وإحالة المسؤولين عنها إلى القضاء.
- تعزيز دور الجيش اللبناني والقوى الأمنية لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث مستقبليًا.
- التأكيد على التزام لبنان بتعهداته الدولية لضمان استمرار الدعم الأممي له.
- إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب التي تسمح للجماعات الخارجة عن القانون بالتمادي في انتهاكاتها.
- الخاتمة: لبنان بين خيارين : دولة القانون أم دولة الفوضى؟
إن ما حدث على طريق المطار ليس مجرد حادثة عابرة، بل هو مؤشّر خطير على تآكل سلطة الدولة أمام الغوغائية والفوضى المنظمة. إن التغاضي عن مثل هذه التصرفات يعني الاعتراف الضمني بانهيار هيبة المؤسسات الشرعية، والسماح للمجموعات الخارجة عن القانون بفرض شريعتها الخاصة على الدولة والمجتمع. في ظل هذا الواقع، تصبح المحاسبة الفعلية والمسؤولة ضرورة وطنية وأمنية، وليس مجرّد إجراء قانوني.
إن لبنان اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما دولة القانون، وإما دولة الفوضى. ولا يمكن للسلطة السياسية، ولو كنّا لا نثق بها لاعتبارات عدّة، أن تتجاهل هذا المفترق الحاسم، لأن أي تهاون سيُفسَّر على أنه دعوة مفتوحة لتكرار الاعتداءات، وربما بشكل أكثر عنفًا وشراسة. وإذا لم تتخّذ الحكومة والعهد الجديدان موقفًا واضحًا وصارمًا، فإن البلاد ستكون أمام فوضى لا تحمد عقباها، تُضعف مؤسسات الدولة وتُكرّس سيادة الميليشيات والعصابات.
إن مستقبل لبنان واستقراره يعتمدان على مدى قدرة الدولة على فرض هيبتها وحماية سيادة القانون. وإذا لم تتّم محاسبة المعتدين وملاحقتهم قانونيًا، فإن ذلك سيمثّل سابقة خطيرة تُهدّد الأمن القومي اللبناني، وتفتح الباب أمام المزيد من التجاوزات التي لن يكون بمقدور أحد ضبطها لاحقًا. إن استعادة هيبة الدولة ليست خيارًا، بل معركة وجودية، والانتصار فيها هو الضامن الوحيد لاستمرار لبنان كدولة مستقلة ذات سيادة.

