الجوع يعلم …السرقة!
د. الياس ميشال الشويري
إن السيطرة على الشعوب لا تتطلب دائمًا استخدام العنف والقمع المباشر، بل قد يكون الإلهاء والتجويع سلاحًا أكثر فاعلية لضمان استمرار هيمنة النخب الحاكمة دون مقاومة حقيقية. مقولة تشي جيفارا:
“سوفَ يشغلونكَ ببائع الخبز، وبائع اللحم، وبائع اللبن، حتى تنسى بائع الوطن“، تعكس هذه الفكرة بوضوح، حيث يتّم دفع الشعوب للانشغال بأزماتهم اليومية حتى لا يكون لديهم الوقت أو القدرة على التفكير في القضايا الكبرى التي تهدّد وجودهم وكرامتهم.
لبنان، البلد الغارق في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية منذ سنوات، مع منظومة أقل ما يقال عنها فاسدة بامتياز، يُعد نموذجًا حيًا على تطبيق هذا المبدأ. فبين انهيار الليرة اللبنانية، وشح المواد الأساسية، وانقطاع الكهرباء، وتراجع الخدمات العامة، يجد المواطن اللبناني نفسه في دوامة دائمة من الأزمات، تمنعه من التركيز على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا الواقع الكارثي. في هذا المقال، سنحلّل كيف يتم استخدام الأزمات المعيشية كأداة سياسية تهدف إلى حماية “بائع الوطن“، أي المنظومة الحاكمة الفاسدة، التي نهبت مقدرات لبنان، وجعلته رهينة للفساد والمحاصصة السياسية.
- الإلهاء الاستراتيجي: كيف يتم تحويل الأنظار عن المجرم الحقيقي؟
عندما يتعرّض مجتمع ما لأزمة وجودية، فمن الطبيعي أن يبحث المواطن عن الأسباب التي أدّت إليها؛ لكن في لبنان، تم توجيه الرأي العام ليكون غارقًا في التفاصيل بدلاً من رؤية الصورة الكبرى. فبدلًا من محاسبة المسؤولين عن الانهيار الاقتصادي، يتّم إغراق الناس في معارك جانبية، مثل أزمة الرغيف، أو ارتفاع أسعار اللحوم، أو نقص الدواء، وكأن هذه الأزمات نشأت بشكل طبيعي، دون أن يكون هناك فاعل حقيقي وراءها. إن تحويل الأنظار بهذه الطريقة ليس عشوائيًا، بل هو جزء من استراتيجية ممنهجة تتبعها الطبقة السياسية الفاسدة للحفاظ على مواقعها، حيث يتم:
- إشغال المواطنين بالاحتياجات الأساسية: عندما يكون المواطن منشغلًا بتأمين لقمة العيش، فلن يكون لديه الوقت أو الطاقة للانخراط في العمل السياسي أو المطالبة بالتغيير.
- خلق أزمات متتالية تمنع الاستقرار: لا تكاد تهدأ أزمة في لبنان حتى تندلع أخرى، ممّا يجعل المواطن في حالة دائمة من الطوارئ، تمنعه من التفكير في حلول بعيدة المدى.
- استخدام الإعلام لتوجيه الرأي العام: يتم تضخيم القضايا اليومية، وجعلها محور الاهتمام، بينما يتّم التغطية على الجرائم الكبرى مثل تهريب الأموال، وسوء إدارة الموارد، ونهب مدخرات المواطنين، والصفقات المشبوهة، وغيرها وغيرها، التي أدّت إلى انهيار لبنان.
- إلقاء اللوم على عوامل خارجية أو شماعات داخلية: بدلاً من الاعتراف بالمسؤولية، تحاول السلطة الفاسدة دائمًا إلقاء اللوم على العقوبات الخارجية، أو على اللاجئين، أو على المواطنين أنفسهم، ممّا يخلق حالة من الانقسام تمنع توحيد الصفوف ضد الفساد.
- لبنان بين التجويع والسيطرة: كيف يتّم استخدام الاقتصاد كسلاح؟
إلى جانب الإلهاء الإعلامي، هناك أداة أكثر خطورة يتّم استخدامها، وهي التجويع الممنهج، حيث يتّم التحكّم بالمواطنين من خلال حرمانهم من أبسط حقوقهم الاقتصادية، ممّا يجعلهم في حالة ضعف دائم تمنعهم من مواجهة السلطة.
أ-انهيار العملة والتضخّم المفتعل. منذ عام 2019، شهدت الليرة اللبنانية انهيارًا غير مسبوق، ما أدّى إلى ارتفاع هائل في الأسعار، وتآكل رواتب المواطنين، وجعل الحد الأدنى للأجور لا يكفي لسد الاحتياجات الأساسية. الغريب في الأمر أن هذا الانهيار لم يكن نتيجة لعوامل طبيعية فقط، بل كان نتيجة مباشرة لسياسات مصرفية خاطئة ومخادعة، وسوء إدارة مالية متعمّد، سمح للمصارف والسياسيين بتهريب أموالهم إلى الخارج بينما تُرك المواطن لمواجهة الجوع والحرمان.
ب-حرمان المواطن من الخدمات الأساسية. أحد أخطر الأدوات المستخدمة هي تفكيك الخدمات العامة، بحيث يصبح المواطن غير قادر على تأمين الكهرباء، أو المياه، أو التعليم، أو الصحة، دون اللجوء إلى شبكات المحسوبية السياسية والطائفية. وهكذا، بدلاً من أن يكون لكل مواطن حقوقه المكفولة بالدولة، أصبح يعتمد على “الزعيم” أو “النائب“، أي على الحثالة، ليؤمّن له خدمة هنا أو هناك، ممّا يعزّز هيمنة المنظومة السياسية الفاسدة على المجتمع.
ج-نشر الفوضى الاقتصادية لخلق بيئة غير مستقرّة. كلما حاول اللبنانيون البحث عن حلول، يجدون أنفسهم أمام واقع متغيّر وغير مستقّر، حيث يتّم فرض إجراءات ضريبية مفاجئة، أو إقرار قوانين مالية غامضة، أو اتخاذ قرارات تزيد من معاناة الناس دون تقديم أي بدائل حقيقية. الهدف من هذه السياسات هو إبقاء المواطن في حالة ارتباك دائمة، تمنعه من التفكير أو التخطيط للخروج من الأزمة.
- “بائع الوطن”: من هم المسؤولون الحقيقيون عن مأساة لبنان؟
إذا كان المواطن اللبناني منشغلًا اليوم بمشاكله اليومية، فمن هو المستفيد الأكبر من هذا الوضع؟ الإجابة واضحة: إنها المنظومة السياسية الحاكمة، الفاسدة بامتياز، التي استولت على مقدرات البلاد، ونهبت البلاد والعباد، وأغرقت لبنان في الديون، ثم وقفت تتفرّج على انهياره دون أن تتحمّل أي مسؤولية.
“بائع الوطن” هو كل مسؤول ساهم في إفراغ خزينة الدولة، وسرقة أموال المودعين، والتلاعب بالعملة، وتهريب الثروات إلى الخارج بينما ترك الشعب يواجه الفقر والذل. إنه كل زعيم طائفي تاجر بآمال الناس، ووعدهم بالإصلاح، لكنه كان في الحقيقة يعزّز نظامًا يقوم على الولاءات الشخصية، بدلًا من بناء دولة عادلة وقوية.
- الخاتمة: كيف نكسر دائرة الإلهاء والتجويع؟
إن الاستمرار في دوامة الأزمات اليومية دون مواجهة الأسباب الحقيقية لانهيار لبنان يعني أن البلد سيظّل رهينة للفساد والفوضى. لا يمكن للشعب اللبناني أن يحقّق أي تغيير حقيقي ما لم يدرك أن “بائع الخبز” و”بائع اللحم” ليسوا المشكلة، بل “بائع الوطن” الذي جعل لبنان دولة منهوبة، يتحكمّ بها حفنة من الساسة والمصرفيين الفاسدين والجشعين الذين باعوا البلاد مقابل مصالحهم الشخصية.
الحل يبدأ من الوعي، عندما يدرك اللبنانيون الشرفاء أن مشكلتهم ليست مجرّد أزمة معيشية، بل هي أزمة حكم ونهب. عندها، يمكنهم إعادة توجيه غضبهم نحو الجهات المسؤولة، والمطالبة بمحاسبة حقيقية. المحاسبة ليست مستحيلة رغم كل العقبات، فإن الشعوب التي قررت أن تواجه أنظمتها الفاسدة استطاعت في النهاية أن تحقّق العدالة. لبنان لن يكون استثناءً، لكن البداية تبدأ من رفض الاستسلام للأزمات اليومية، والنظر إلى الصورة الكاملة، وعدم السماح لمن باعوا الوطن بالنجاة من العقاب!
في الختام، لبنان لن يقوم من جديد إلا عندما يصبح حكم القانون فوق الجميع، وعندما يدرك كل من تسوّل له نفسه العبث بمصير الوطن أنه لن ينجو من العقاب، ولو بعد حين. ومع كل هذه العتمة، يبقى الأمل معقودًا على شخصيات وطنية قادرة على إحداث تغيير حقيقي، مثل الرئيس جوزيف عون، الذي أثبت التزامه بالمؤسسة العسكرية وحماية الوطن من الفوضى، ودولة الرئيس نواف سلام، الذي يجسّد الأمل في قضاء نزيه وإصلاح جدّي يعيد للدولة هيبتها. إن الشعب اللبناني، الذي عانى طويلًا، يتطلّع إليهما وغيرهما من الشخصيات الوطنية لإخراج البلاد من قبضة الفاسدين الذين عاثوا في البلد فساداً على مدى عقود، ووضعها على طريق التعافي والعدالة.