…من هالك لمالك
د. الياس ميشال الشويري
في أحد الأيام، قرّر رجل أعمال لبناني بارز، يمتلك معرضًا كبيرًا للسيارات الفاخرة، تقديم هدية لمسؤول حكومي رفيع المستوى. كان الرجل يعتقد أن هذه الهدية ستسهّل عليه بعض المعاملات وتفتح له أبوابًا جديدة في عالم الأعمال. ذهب إلى المعرض واختار سيارة فاخرة من أحدث الطرازات، تبلغ قيمتها أكثر من 100 ألف دولار، ثم قام بتسليم السيارة إلى المسؤول، معبرًا عن امتنانه وتقديره.
تفاجأ رجل الأعمال برد فعل المسؤول، الذي رفض قبول الهدية بشكل قاطع. قال المسؤول: “أنا لا أقبل هدايا من أحد، حتى لا يظن الناس أنني أقبل الرشوة“. أصيب رجل الأعمال بالدهشة، لكنه لم ييأس. فكّر في حل وسط يرضي المسؤول ويحقّق له هدفه. فقال: “إذاً، سأبيع لك هذه السيارة بثمن رمزي، 100 دولار فقط“. وافق المسؤول على العرض، وأعطى رجل الأعمال 300 دولار، ثمن ثلاث سيارات مماثلة.
تُجسّد هذه القصة واقعًا مأساويًا في لبنان، حيث يتغلغل الفساد في مختلف جوانب الحياة، ممّا يؤدّي إلى تآكل القيم الأخلاقية وتفكّك النسيج الاجتماعي.
- الفساد المؤسسي وتبرير الأفعال غير الأخلاقية
يُعَدّ الفساد المؤسسي في لبنان جزءًا لا يتجزأ من هيكلية المؤسسات، حيث يُستغّل المال والنفوذ لتبرير الأفعال غير الأخلاقية، ممّا يؤدّي إلى تقويض الثقة في المؤسسات الحكومية والقضائية وإضعاف هيبة القانون. وفقًا لمؤشر مُدرَكات الفساد لعام 2023 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، حصل لبنان على درجة 24 من 100، واحتل المرتبة 149 من أصل 180 دولة، مسجلًا بذلك النتيجة الأدنى له لثلاثة أعوام متتالية، ممّا يشير إلى تفاقم الفساد في البلاد.
هذا الواقع يتطلب معالجة عاجلة واتخاذ إجراءات تصحيحية لتعزيز الشفافية والمساءلة في المؤسسات اللبنانية.

- غياب المحاسبة والشفافية
تُبرز القصة كيف يستغل المسؤولون في لبنان مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية في ظل غياب المحاسبة والشفافية، مما يؤدي إلى استمرار الفساد وإعاقة جهود الإصلاح. وفقًا لتقرير صادر عن “تشاتام هاوس“، يُعَدّ الفساد في لبنان ممنهجًا، مع ضعف في الإدارة العامة، ممّا يثير مخاوف من تأثير ذلك على القطاعات الناشئة مثل قطاع البترول. إن ضعف الإدارة العامة والفساد المستشري قد يؤديان إلى استغلال الموارد البترولية بطرق غير مشروعة، ممّا يحرم الدولة من عائدات هامة كان يمكن أن تُستخدم في تحسين البنية التحتية وتعزيز الخدمات العامة.
- تأثير الفساد على المجتمع اللبناني
يُسهم الفساد المستشري في لبنان في تدهور الخدمات العامة وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، مما يؤثّر سلبًا على حياة المواطنين. فقد أدت ممارسات الفساد وسوء الإدارة إلى انهيار اقتصادي حاد، حيث فقدت العملة المحلية قيمتها بشكل كبير، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة. وفقًا لمقال في “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى“، فإن الأزمات الاقتصادية والسياسية في لبنان متجذّرة في الفساد المستمّر، ممّا يؤثّر سلبًا على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
- الفساد في لبنان وفقًا لمؤشر منظمة الشفافية الدولية
- ترتيب لبنان في مؤشر الفساد العالمي. يُظهر مؤشّر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية تراجعًا مستمرًا للبنان خلال السنوات الأخيرة، حيث يُصنّف ضمن الدول التي تعاني من مستويات فساد مرتفعة. في أحدث تقرير صادر عن المنظمة، حصل لبنان على درجة متدنية (عادة أقل من 30/100)، ممّا يعكس تفشّي الفساد في مختلف القطاعات، لا سيما في الإدارات الحكومية والقضاء والمجال الاقتصادي.
- أسباب تدني ترتيب لبنان في مؤشر الفساد. يعود ترتيب لبنان المنخفض إلى عدة عوامل هيكلية ومؤسسية، أبرزها:
-ضعف مؤسسات الرقابة والمحاسبة، وتندرج تحت هذا العنوان، نقطتان:
- عدم استقلالية الهيئات الرقابية مثل ديوان المحاسبة وهيئة التفتيش المركزي، حيث تخضع هذه المؤسسات غالبًا لنفوذ الطبقة السياسية، مما يحد من قدرتها على محاسبة الفاسدين.
- غياب آليات فاعلة للتحقيق في قضايا الفساد، إذ غالبًا ما يتم فتح ملفات الفساد بناءً على اعتبارات سياسية وليس لمصلحة العدالة.
-تداخل النفوذ السياسي والاقتصادي، ويتجسد هذا الواقع بنقطَتَيْن:
- تمتّع رجال الأعمال والمصارف بصلات وثيقة بالطبقة السياسية، ما يؤدي إلى تبادل المصالح بين الطرفين واستغلال الدولة لتحقيق مكاسب شخصية.
- تورّط المصارف اللبنانية التي كانت محور الأزمة المالية منذ 2019، في عمليات تهريب أموال وحماية حسابات السياسيين بدلاً من خدمة الاقتصاد الوطني.

-انتشار الرشوة والمحسوبيات، ومن الأمثلة:
- الفساد الإداري المتجذّر في الوظائف العامة، حيث يعتمد التوظيف في القطاع الحكومي على المحسوبيات والولاءات السياسية والطائفية بدلاً من الكفاءة.
- الرشوة التي أصبحت وسيلة أساسية لإنجاز المعاملات الرسمية في الدوائر الحكومية، مما يزيد من معاناة المواطنين ويفقدهم الثقة بالمؤسسات.
-ضعف استقلالية القضاء، بدليل التدخلات السياسية التي تمنع القضاة من محاسبة الفاسدين، حيث يتم الضغط عليهم من قبل الزعامات السياسية والطائفية، بدليل التحقيق في انفجار مرفأ بيروت الذي شهد عراقيل سياسية وتدخلات حالت دون الوصول إلى العدالة.
-الفساد في المشاريع العامة وغياب الشفافية، ومن أبرز معالمه: إنفاق الموازنات العامة دون اللجوء إلى الشفافية، بحيث يتمّ تمرير الصفقات والاتفاقيات دون رقابة فعلية، كما هو الحال في مشاريع الكهرباء والمياه والبنية التحتية، يضاف الى ذلك أن معظم المشاريع الممولة دوليًا لا تحقق نتائج ملموسة بسبب سوء الإدارة والفساد المستشري في تنفيذها.
-الأزمة الاقتصادية ودورها في تعميق الفساد، ومن أوجهها: انهيار العملة اللبنانية وارتفاع نسبة الفقر، ازدياد فرص الفساد، اذ باتت الرشاوى وسيلة للبقاء في مناصب حكومية أو لتجاوز الأزمات المالية، كذلك انهيار المؤسسات الذي أدى إلى ازدهار السوق السوداء والمضاربة، التي تستفيد منها جهات سياسية واقتصادية متنفذة.
- الفساد في بعض القطاعات الرئيسية في لبنان ويشمل: المصارف، الكهرباء والطاقة، القضاء، الصحة الإعلام والرقابة… ففي القطاع المصرفي، شهد لبنان منذ 2019 أزمة مصرفية حادة، حيث جُمّدت أموال المودعين بينما هُرِّبت مليارات الدولارات إلى الخارج، في ظل غياب أي محاسبة للمسؤولين عن هذه الكارثة المالية. وفي ظلّ هذه الأزمة استفاد السياسيون وكبار المصرفيين من الأزمة من خلال إصدار تعاميم مصرفية تحمي مصالحهم على حساب المواطنين العاديين.

في قطاع الكهرباء والطاقة، أنفق لبنان أكثر من 40 مليار دولار عليه دون تحسين الخدمة، حيث لا تزال البلاد تعاني من انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة يوميًا.
بالنسبة للعقود الممنوحة لشركات الإنتاج والتوزيع، فقد تمّت بدون شفافية، وشابها الكثير من شبهات الفساد، ما أدى إلى استمرار العجز المالي في القطاع.
في القضاء اللبناني، ساد التدخل السياسي وحال دون ملاحقة الفاسدين، خصوصًا في القضايا الكبرى مثل التحقيق في الأموال المهربة، فساد المصارف، وانفجار مرفأ بيروت، علماً أن يتم تعيين القضاة في مواقع حساسة، يتمّ بناءً على الولاءات السياسية وليس وفقًا للكفاءة، مما يعمّق أزمة الثقة في العدالة.
في قطاع الصحة، فقد شهد لبنان فضائح تتعلق بهدر المساعدات الطبية التي وصلت بعد انفجار مرفأ بيروت، حيث تم تخزين كميات كبيرة منها في مستودعات خاصة بدل توزيعها على المستشفيات المحتاجة. فضلاً عن ذلك، فإن الفساد في التعاقدات الحكومية الخاصة بالمستشفيات والمستلزمات الطبية أدى إلى ارتفاع تكاليف العلاج وانهيار النظام الصحي.
بالنسبة للإعلام والرقابة، فرغم وجود وسائل إعلام عديدة، إلا أن معظمها مملوك من قبل زعامات سياسية، ما يحدّ من استقلاليتها ويؤثر على دورها في كشف الفساد. أما الصحفيون الذين كشفوا قضايا فساد، فقد تعرّضوا لحملات تهديد وتشويه، ما يعيق جهود الشفافية.
- تداعيات الفساد على لبنان، وهي كثيرة:
-تفاقم الأزمة الاقتصادية: أدى الفساد إلى انهيار المؤسسات المالية وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي، ما تسبب في هروب الاستثمارات وتراجع قيمة العملة.
-هجرة العقول والكفاءات: يضطر الكثير من الشباب وأصحاب المهارات إلى مغادرة البلاد بحثًا عن فرص عمل في دول أكثر استقرارًا وشفافية.
-انهيار الثقة بالدولة: أصبح المواطن اللبناني فاقدًا للثقة بالحكومة، حيث يعتبر أن النظام السياسي بالكامل مبني على الفساد والمحسوبيات.
-ازدياد الفقر والتفاوت الاجتماعي: استغلال الموارد العامة من قبل الطبقة السياسية الحاكمة حرم المواطنين من الخدمات الأساسية مثل التعليم، الصحة، والكهرباء.
5- سبل مكافحة الفساد في لبنان
رغم انتشار الفساد، هناك بعض الخطوات التي يمكن أن تساعد في تحسين الوضع، ومنها:
–تعزيز استقلالية القضاء لمنع التدخلات السياسية وضمان محاسبة الفاسدين.
–إقرار قانون حماية المبلغين عن الفساد لحماية الصحفيين والناشطين الذين يكشفون التجاوزات.
–إصلاح النظام المصرفي ومحاسبة المسؤولين عن تهريب الأموال واستغلال الأزمة المالية.
–تفعيل الهيئات الرقابية مثل ديوان المحاسبة وهيئة مكافحة الفساد وإعطائها صلاحيات تنفيذية.
–تعزيز الشفافية في التعاقدات الحكومية، من خلال نشر جميع العقود والصفقات على منصات مفتوحة أمام الرأي العام.
–تشجيع دور المجتمع المدني والإعلام المستقل في فضح الفساد والضغط على الحكومة لإصلاح المؤسسات.
بالملخّص، يُظهر مؤشر الفساد في لبنان صورة قاتمة عن الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد، حيث يشكل الفساد المنظم أحد الأسباب الرئيسية لانهيار الدولة. ومع غياب الإرادة السياسية الحقيقية للإصلاح، يبقى التغيير مرهونًا بضغط المجتمع المدني والمجتمع الدولي لكسر حلقة الفساد المستمرة منذ عقود.
6-الخاتمة
تُبرز القصة الحاجة الملحّة لإجراء إصلاحات جذرية لمكافحة الفساد في لبنان، وتعزيز الشفافية، واستعادة الثقة في المؤسسات الوطنية. يتطلّب ذلك إنشاء آليات فعّالة للمحاسبة، وتعزيز استقلالية القضاء، وتفعيل دور المجتمع المدني في مراقبة أداء المؤسسات. وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يُعتبر الفساد في لبنان مشكلة معقّدة تتداخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتشريعية والمؤسسية، مع التأكيد على أن الطائفية تُعَدّ قاسمًا مشتركًا بينها، ممّا يستدعي إصلاحات شاملة لمعالجة هذه القضايا.