الملا مصطفى البارزاني
د. الياس ميشال الشويري
يُعتبر حب الوطن قيمة مقدسة تتجلّى في الدفاع عن أرضه، والحرص على مصلحة شعبه، والعمل من أجل نهضته. ولكن، عندما تتحوّل الأنظمة القمعية إلى معيار يحدّد من هو “الوطني” ومن هو “الخائن“، يصبح حب الوطن تهمة ثقيلة تُلاحق كل من يحاول إصلاح أوضاعه. هذه العبارة التي قالها الملّا مصطفى البارزاني ليست مجرّد كلمات عابرة، بل هي تجسيد لمعاناة الشعوب التي تحارب من أجل حريتها، وللمناضلين الذين يدفعون ثمن ولائهم لأوطانهم في مواجهة الاستبداد.
لقد كان البارزاني زعيمًا كرديًا حمل قضية شعبه ودافع عن حقوقه، ورغم ذلك وُصف بالتمرّد والخيانة من قبل أنظمة رفضت الاعتراف بحقوق الأكراد. هذه المفارقة ليست حكرًا على الأكراد وحدهم، بل تتكرّر في العديد من البلدان التي يُعامل فيها الأحرار كمذنبين، وتُتهم فيها الأصوات الحرّة بالعمالة لمجرّد أنها تطالب بالعدالة والحرية.
- عندما يصبح حب الوطن جريمة
أ-الوطنية في ميزان الأنظمة القمعية. في المجتمعات الديمقراطية، تُعتبر الوطنية فضيلة تُشجّعها الدولة، حيث تكرّم الحكومات من يدافع عن الوطن ويساهم في تطويره. لكن في الأنظمة الاستبدادية، يصبح حب الوطن جريمة عندما يكون خارج الإطار الذي تحدّده السلطة الحاكمة. فالوطنية في نظر هذه الأنظمة ليست الإخلاص للوطن، بل الولاء للسلطة القائمة، ومن يخرج عن هذا الإطار يُتهم بالخيانة حتى لو كان هدفه تحقيق مصلحة الشعب.
تُظهر تجارب التاريخ أن الحكّام المستبدين أو الفاسدين يسعون دائمًا إلى احتكار مفهوم الوطنية، بحيث يصبح كل من يعارضهم خائنًا، بينما يصبح كل من يساندهم ويدافع عن سياساتهم “وطنيًا” بغض النظر عن فساده وظلمه. وهكذا تتحوّل الوطنية من قيمة نبيلة إلى أداة للابتزاز السياسي، تُستخدم لتصفية المعارضين وإسكات الأصوات الحرّة.
ب-كيف تُستخدم تهمة الخيانة لإسكات الأحرار؟ في معظم الأنظمة الديكتاتورية، يتّم اتهام المعارضين بالخيانة الوطنية، إما عبر الإعلام المُوجّه أو من خلال قوانين تُجرّم التعبير الحر. فالدولة القمعية تسعى دائمًا لتبرير قمعها عبر صناعة “أعداء داخليين“، بحيث تُظهر المعارضين على أنهم متآمرون على البلاد، رغم أن مطالبهم تتركّز على الإصلاح ومكافحة الفساد.
يستخدم الطغاة هذه الاستراتيجية لإبقاء الشعوب في حالة خوف، بحيث يتردّد المواطنون في انتقاد النظام خوفًا من أن يُصنفوا كأعداء للدولة. وهكذا، تتحوّل الوطنية إلى سلاح بيد السلطة، يتّم توظيفه لإحكام قبضتها على المجتمع، بينما يتّم تشويه صورة المناضلين ووصفهم بالمتمردين أو العملاء.

- تجارب تاريخية – الوطنيون الذين حُكم عليهم بالخيانة
أ-نيلسون مانديلا: من سجين إلى رمز عالمي. يُعد نيلسون مانديلا أحد أبرز الأمثلة على الشخصيات التي تم اتهامها بالخيانة لمجرّد سعيها لتحقيق العدالة. فعندما قاد مانديلا النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، اعتبرته الحكومة “إرهابيًا” و”عدوًا للدولة“، وزُج به في السجن لمدة 27 عامًا. لكن بعد سقوط النظام العنصري، أصبح مانديلا رمزًا عالميًا للنضال من أجل الحرية، وأصبح اسمه مرادفًا للوطنية الحقيقية.
ما حدث مع مانديلا يعكس كيف يمكن للأنظمة القمعية أن تشوّه صورة الوطنيين، بينما يظل التاريخ قادرًا على إنصافهم. فالخائن الحقيقي ليس من يطالب بالحرية والعدالة، بل من يسرق حقوق الشعب ويستبّد بالحكم لمصلحته الخاصة، كما هو الحال في لبنان.
ب-المقاومون العرب: أبطال في وجه الاستعمار ومتهمون بالخيانة. في العالم العربي، واجه العديد من القادة والمفكرين تهمة الخيانة لأنهم وقفوا ضد الاحتلال أو ضد الأنظمة الاستبدادية. فمثلاً، أثناء الاحتلال الفرنسي والإنجليزي للدول العربية، كان المقاومون يُوصفون بالإرهابيين والمتمردين، رغم أن التاريخ أنصفهم لاحقًا كأبطال قادوا شعوبهم نحو التحرّر.
حتى في الأزمنة الحديثة، ما زال بعض القادة الذين يحاولون تغيير واقع أوطانهم يواجهون التهم ذاتها. فكل من يطالب بالإصلاح في العالم العربي يُتهم بالتآمر على الدولة، بينما يبقى الحكام الذين أهدروا الثروات الوطنية وتسببوا في دمار البلدان في مأمن من المحاسبة.
- لبنان – عندما تصبح الوطنية عبئًا
أ-الطائفية كأداة لتشويه الوطنية. في لبنان، يعاني الشعب من نظام طائفي يُقسّم المواطنين وفق انتماءاتهم الدينية بدلاً من كفاءاتهم أو التزامهم بالوطن. وهكذا، فإن أي شخص يحاول الدعوة إلى دولة مدنية خالية من الطائفية يجد نفسه في مواجهة مع قوى سياسية ترفض التخلي عن امتيازاتها.
كل من يطالب بالإصلاح يُتهم بأنه يهدّد “التوازن الطائفي“، رغم أن الطائفية هي السبب الرئيسي في الفساد والانقسام الذي يعاني منه لبنان. لقد أصبح الوطني الحقيقي في لبنان هو من يتّم اضطهاده، بينما تُمنح الامتيازات لأولئك الذين يكرّسون الانقسام ويخدمون أجندات خارجية.
ب-من هو المتهم الحقيقي؟ إذا كان الوطني الذي يدافع عن حقوق شعبه هو المتهم، فمن هو الخائن الحقيقي؟ هل هو المواطن الذي يرفض الفساد والطائفية، أم الزعماء الذين نهبوا البلاد وتسببوا في انهيارها الاقتصادي والسياسي، كما هو واقع الحال في لبنان؟

في لبنان، بات من الواضح أن من يرفع صوته ضد الفساد يُعامل كمجرم، بينما يتمتّع الفاسدون بالحماية تحت غطاء الطائفية والتحالفات السياسية. إن هذه المفارقة تعكس بوضوح كيف يمكن للأنظمة أن تحوّل الوطنية إلى تهمة، فقط لأنها تخشى من يقظة الشعب ومطالبته بحقه في العيش بكرامة.
- الخاتمة: الوطنية الحقيقية لا تُحاكم
إن مقولة مصطفى البارزاني تُلخّص المأساة التي يواجهها الأحرار في كل زمان ومكان. فالوطني الحقيقي هو من يدافع عن شعبه وحقوقه، حتى لو كلفه ذلك أن يُتهم بالخيانة. والتاريخ قد أثبت أن الذين يُلاحقون اليوم بتهمة حب الوطن، هم أنفسهم الذين تخلدهم الذاكرة كشخصيات عظيمة بعد أن تزول الأنظمة القمعية.

هذا المبدأ لم يكن مجرّد شعار في حياة مصطفى البارزاني، بل كان نهجًا حمله من بعده نجله مسعود البارزاني وعائلة البارزاني بأكملها، التي واجهت الكثير من التحديات في سبيل الدفاع عن حقوق الأكراد وقضيتهم العادلة. فقد كرّس مسعود البارزاني حياته السياسية والنضالية لمواصلة مسيرة والده، متحملاً التهديدات والحصار والتشكيك، لكنه بقي رمزًا للمطالبة بحقوق الأكراد في الحكم الذاتي، مؤمنًا بأن حب الوطن ليس تهمة بل شرف يُدافع عنه مهما كان الثمن.
في النهاية، الوطنية ليست شعارًا يُرفع، بل هي التزامٌ حقيقي تجاه مصلحة الوطن والشعب. وإذا كانت المطالبة بالعدالة جريمة، فإن الشرفاء دائمًا ما يكونون أكبر المتهمين.