ابنا حلال ام حرام؟
د. الياس ميشال الشويري
إن هذا الموضوع يعد من أبرز القضايا الاجتماعية والسياسية التي تتعلّق بهويات الأفراد في المجتمعات متعددة الطوائف مثل لبنان، حيث يظهر الدين كعنصر حاسم في تحديد هوية الأفراد، بل أحيانًا يترتّب عليه تحديد قدراتهم في المجتمع، سواء في فرص العمل، الوصول إلى المناصب السياسية، أو حتى الانخراط في الحياة الاجتماعية. لكن فكرة “ابن حلال” و”ابن حرام” تدعو إلى تخطّي هذه الحواجز الطائفية والدينية، والحديث عن الإنسان كقيمة أخلاقية بحتة بعيدًا عن انتمائه الديني.
- التاريخ الاجتماعي والديني في لبنان
لبنان يعد من أكثر البلدان العربية التي تعاني من الانقسامات الطائفية، ففيه تتوزع طوائف متعددة، كل منها له مكانته السياسية والاجتماعية. وكان لهذا التعدد الديني تأثير كبير على السياسة اللبنانية بعد الاستقلال، حيث تم إقرار نظام الطائفية السياسية الذي منح لكل طائفة تمثيلًا في البرلمان والمناصب السياسية بناءً على حصص دينية. على الرغم من أن هذا النظام قد سعى إلى تحقيق التوازن الطائفي، إلا أنه أصبح منبعًا للكثير من التوترات والانقسامات التي تعيق بناء مجتمع قائم على المواطنة والمساواة.
وفي هذا السياق، نشأت صورة نمطية بين الناس استنادًا إلى دينهم، حتى أضحت بعض المجتمعات تُعبّر عن الآخر بلغة تحمل في طياتها التفرقة الدينية. هذا التقسيم أصبح مشهدًا مألوفًا في لبنان، وأحيانًا يؤثر على الحياة اليومية.
- الهويات الطائفية: حقيقة أم وهم؟
الهويات الطائفية تعتبر سمة بارزة في المجتمع اللبناني، حيث تشكلت حولها الكثير من الاعتقادات والرموز التي تُستخدم للتمييز بين الأفراد. فبدلاً من أن يُنظر إلى الشخص بناءً على أخلاقه أو سلوكه، يتم تصنيفه بناءً على دينه أو طائفته. لكن السؤال هنا: هل هذه الهويات الطائفية هي تعبير عن حقيقة اجتماعية أم مجرّد بناء اجتماعي يهدف إلى خلق تفرقة بين الناس؟ يمكن القول إن هذه الهويات ليست سوى أداة اجتماعية، تستخدم من قبل القوى السياسية والطائفية الفاسدة لتحقيق أهداف معينة، مثل السيطرة على الموارد والمناصب.
ولهذا، فإن الفصل بين الناس بناءً على دينهم أو طائفتهم قد يؤدي إلى تعزيز الهويات الفرعية وإضعاف الهوية الوطنية. بينما يمكن أن يُنظر إلى الأفراد على أنهم “أولاد حلال” أو “ابناء حرام” بناءً على أفعالهم الشخصية وأخلاقهم بعيدًا عن معتقداتهم الدينية.
- التأكيد على القيم الإنسانية بدلاً من الدين
إن رؤية الأشخاص كـ”أولاد حلال” أو “ابناء حرام” تشير إلى أن القيمة الإنسانية للإنسان تتجلّى في سلوكه وأخلاقه، وليس في دينه أو طائفته. فالشخص الذي يلتزم بالقيم الإنسانية، مثل الصدق، الأمانة، والإخلاص، هو “ابن حلال” بغض النظر عن انتمائه الديني. ومن هنا يمكن أن نعتبر أن التقييم الأخلاقي يجب أن يقوم على أفعال الفرد، وأن الدين ينبغي أن يُنظر إليه كمحرك للقيم الأخلاقية وليس كعامل يحدد قيمة الشخص في المجتمع.
هذه الفكرة تدعونا إلى نقد التوجهات التي تعتمد على التصنيفات الدينية كمعيار رئيسي لتقييم الأشخاص، وتحثنا على التركيز على تكوين مجتمع يقوم على المبادئ الإنسانية المشتركة. فالسلوك الأخلاقي هو الذي يميّز الأفراد ويحدد مكانتهم في المجتمع، وليس معتقداتهم أو طوائفهم.
- التأثيرات الاجتماعية والسياسية للتصنيفات الطائفية
تلعب التصنيفات الطائفية دورًا كبيرًا في تشكيل الديناميكيات الاجتماعية والسياسية في لبنان. هذه التصنيفات ليس فقط تساهم في تفتيت الوحدة الوطنية، بل تؤدّي إلى تقوية النظام الطائفي الذي يهيمن على السياسة. فعندما يتّم تمثيل كل طائفة في الحكومة والمجالس البرلمانية بناءً على حصص طائفية، يتّم إضعاف قدرة الدولة على اتخاذ قرارات وطنية تجمع جميع المواطنين. وهذا يشير إلى أن التصنيف الديني يقف عائقًا أمام بناء دولة مدنية قادرة على تحقيق العدالة والمساواة بين جميع الأفراد بغض النظر عن دينهم أو طائفتهم.
وفي الكثير من الأحيان، تستخدم القوى السياسية الطائفية هذه الانقسامات لإدامة السيطرة على الموارد والمناصب العامة، ممّا يعزّز من حالة من التهميش الاجتماعي والاقتصادي. وعليه، فإن هذا يخلق مجتمعًا غير متساوٍ، حيث يتم تفضيل البعض بناءً على دينهم، بينما يتّم تهميش آخرين.
- التحديات التي يواجهها المجتمع العربي
بالنسبة للمجتمعات العربية بشكل عام، فإن استخدام الدين كأداة للتمييز الاجتماعي يؤدي إلى العديد من التحديات، أهمها:
-التمييز على أساس الدين: حيث يُعتبر الشخص ذا قيمة أقل لمجرّد أنه ينتمي إلى طائفة أو دين مختلف، وهذا يخلق حالة من الانقسام العميق في المجتمع.
-إضعاف الهوية الوطنية: بدلًا من أن يتوحد الناس حول هويتهم الوطنية كأفراد في وطن واحد، يتّم تقسيمهم إلى فئات مختلفة بناءً على انتماءاتهم الدينية.
-إعاقة التطوّر الاجتماعي والاقتصادي: بسبب التصنيف الطائفي، يتّم تقييد بعض الأفراد من الوصول إلى الفرص الاقتصادية والاجتماعية، ممّا يعوق تقدّم المجتمع ككل.
- دور المثقفين والمفكرين في تجاوز الطائفية
يمكن للمثقفين والمفكرين في المجتمع العربي لعب دور كبير في تجاوز هذه الانقسامات. يجب عليهم نشر الوعي حول أهمية الوحدة الوطنية وتوضيح أن القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية هي التي تحدّد قيمة الفرد في المجتمع. وكذلك، عليهم أن يعملوا على تعزيز فكرة أن الدين يجب أن يكون عاملًا توجيهيًا للأخلاق، وليس عاملًا للفصل بين الناس.
وقد يكون للمؤسسات التعليمية دور أيضًا في بناء وعي ثقافي جديد، يعزّز من مفهوم المواطنة والمساواة بعيدًا عن الهويات الطائفية.
- الخاتمة
إن الدعوة إلى التمييز بين الناس بناءً على سلوكهم وأخلاقهم، بعيدًا عن دينهم أو طائفتهم، تحمل أهمية خاصة في السياق اللبناني، على وجه الخصوص، حيث يعاني هذا البلد من نظام طائفي مترسّخ يجعل الدين المحدّد الأساسي لهوية الأفراد ومصيرهم السياسي والاجتماعي. فلبنان، منذ تأسيسه، بُني على التعددية الدينية، ولكن بدلًا من أن تكون هذه التعددية مصدر غنى، تحولت إلى أداة تقسيم، عززتها الطبقة السياسية الفاسدة التي تستخدم الانتماءات الطائفية لضمان بقائها في السلطة.
في لبنان، لا تُمنح المناصب والحقوق بناءً على الكفاءة والاستحقاق، بل على أساس الطائفة والانتماء السياسي. فاللبناني لا يُعامل كمواطن في دولة مدنية، بل كفرد ينتمي إلى طائفة لها حصتها في النظام السياسي. وهذا ينعكس على جميع جوانب الحياة، من التوظيف والتعليم إلى التمثيل السياسي وحتى توزيع الخدمات. فالانتماء الديني أصبح جواز عبور إلى الفرص، بينما يتّم تهميش من لا ينتمي إلى الطائفة “الصحيحة” في المكان “الخطأ“.
في ظل هذا الواقع، يصبح اعتماد معيار “ابن حلال” و”ابن حرام” وفق الفعل الأخلاقي وليس الدين ضرورة ملحة لبناء مجتمع أكثر عدالة. فلبنان اليوم بحاجة إلى تجاوز الانقسامات الطائفية، والانتقال إلى دولة المواطنة، حيث يتم تقييم الأفراد بناءً على نزاهتهم، عملهم، وإخلاصهم للوطن، لا على هويتهم الدينية أو الجهة السياسية التي يتبعونها.