بالسوط طاردهم و طردهم
د. الياس ميشال الشويري
لطالما شكّلت العلاقة بين الدين والسياسة موضوعًا معقدًا، حيث تتباين المواقف الدينية تجاه السلطة السياسية بناءً على تفسيرات متعدّدة للنصوص المقدسة. من المعروف أن المسيحية تُنسب إلى تعاليم الرب يسوع المسيح، الذي واجه في حياته سلطات فاسدة وقمعية، سواء كانت تمثّل الاحتلال الروماني أو كانت تتمثّل في المؤسسة الدينية المتواطئة مع السلطة. السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تعامل المسيح مع هذه السلطات؟ هل كان موقفه دعوة للخضوع المطلق للحاكم، كما يوحي البعض باستخدام نصوص مثل “لِيَخضَعْ كُلُّ امرِئٍ لِلسُّلُطاتِ الَّتي بأَيدِيها الأَمْر، فلا سُلْطَةَ إِلاَّ مِن عِندِ اللّه، والسُّلُطاتُ القائِمة هو الَّذي أَقامَها” (رومية 1:13)، أم كان موقفه يعبّر عن مواجهة فكرية وأخلاقية للفساد السلطوي؟ هذه هي الأسئلة التي سيُحاول هذا المقال الإجابة عليها عبر تسليط الضوء على المواقف التي اتخذها المسيح، من خلال النصوص الإنجيلية التي تتناول علاقته بالسلطة الفاسدة.
- المعالم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للعالَم الذي عاش فيه المسيح
لفهم موقف المسيح من السلطة الفاسدة، لابد من وضعه في سياق العالم الذي عاش فيه. كان المسيح يعيش في فترة كان فيها الشعب اليهودي يعاني من الاحتلال الروماني في فلسطين. كانت الإمبراطورية الرومانية هي السلطة العليا التي تفرض ضرائب وتفرض نظام حكم قاسياً ومجحفاً على سكان المناطق المحتلة. وكانت الغاية الرئيسية لروما من الاحتلال هي استغلال الأراضي المحتلة لجمع الضرائب وإرسالها إلى روما، مما أدّى إلى تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في فلسطين.
كان المجتمع اليهودي يعاني من الفقر والظلم الاجتماعي نتيجة هذه السياسة الاستعمارية، وكان الحاكم المحلي مثل هيرودس الكبير يعيّن من قبل روما ليخدم مصالحها. هيرودس كان نموذجًا للسلطة الفاسدة التي تنشأ عندما يتّم تمكين الحاكم من السلطة بشكل يخدم مصالح الإمبراطورية بدلاً من مصالح الشعب الذي يُفترض أن يحكمه. كانت هذه الأوضاع تثير العديد من الحركات الاحتجاجية بين اليهود ضد السلطة الرومانية ومحلييها، وهي خلفية هامة لفهم مقاومة يسوع للفساد السلطوي.
2- أَدُّوا لِقَيصَرَ ما لِقَيصَرَ، ولِلهِ ما لِله
من أهم المواقف التي طرحها المسيح في تعامله مع السلطة هي الإجابة التي قدمها عندما سُئل عن دفع الجزية لقيصر. في هذا المشهد، سعى الفريسيون والهيرودسيون إلى استدراجه ليقع في فخ من خلال السؤال عن شرعية دفع الجزية للإمبراطورية الرومانية. لكن المسيح، برده الحكيم “أَدُّوا لِقَيصَرَ ما لِقَيصَرَ، ولِلهِ ما لِله” (مرقس 17:12)، لم يجيب بنعم أو لا بشكل مباشر، بل أكّد على فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية.
إن هذه الإجابة لم تكن فقط دعوة للخضوع المدني، بل كانت دعوة للتمييز بين الطاعة للأشياء الأرضية وتكريس الولاء الكامل لله. فعلى الرغم من أن السلطة السياسية موجودة ولها دور، إلا أن هذا الدور لا ينبغي أن يتجاوز حدود العدالة والحق. كان رد المسيح بمثابة إدانة لطبيعة السلطة التي كانت تسعى لإجبار الناس على الخضوع لمصالحها الخاصة من خلال نظام قسري، وفي الوقت نفسه كانت دعوة لإعطاء لله حقه في العبادة والطاعة.
- امضوا وقولوا لهذا الثعلب
كان يسوع في موقف آخر عندما وصف هيرودس بالـ “ثعلب” في مشهد آخر، حيث كان هذا الحاكم يسعى إلى قتل المسيح. وهنا، المسيح يرفض بشدة الاستسلام للتهديدات السياسية، رافضًا الركوع أمام السلطة المفسدة. لم يكن المسيح يُظهر خوفًا من السلطة، بل كان يحاربها من خلال قوة الحق الذي يعلنه. هذه المقولة تمثّل مواقف المسيح الواضحة ضد السلطات الجائرة، التي كان يُنظر إليها كأداة للتلاعب والسيطرة على الناس.
لقد استخدم المسيح لغة جريئة وحاسمة ضد الحاكم الفاسد، مشيرًا إلى الطبيعة الماكرة والمتلاعبة للسلطة التي تبني قوتها على الظلم والجبروت. في هذه المقولة، يتجلّى موقف المسيح الرافض للظلم السياسي والتواطؤ مع السلطة، مؤكدًا أن رسالته لا تُعطى لحاكم فاسد أو نظام ظالم، بل هي موجهة للناس كما هي، دون أن تتأثر بالقوى السلطوية.
- أنتم جعلتموه مغارة لصوص
من أبرز المشاهد التي تُظهر موقف المسيح من الفساد السياسي والديني هو عندما طهّر الهيكل من التجّار والصيارفة. فقد وصف الهيكل بأنه “بيت الصلاة” الذي تحوّل إلى “مغارة لصوص“. في هذا الفعل، لم يكن المسيح يهاجم فقط التجّار الذين استغلوا المصلين، بل كان يهاجم التواطؤ بين الدين والسياسة في خدمة مصالح فاسدة على حساب مصلحة الشعب.
لقد كانت السلطة الدينية في ذلك الوقت قد تواطأت مع السلطة السياسية، حيث كان الكهنة ورجال الدين يتعاونون مع المحتلين الرومانيين لفرض الضرائب على الشعب، وتحوّل الهيكل إلى مركز اقتصادي بدلًا من أن يكون مركزًا روحيًا. في هذا السياق، يُمكن تفسير فعل المسيح بشكل أعمق، فهو لم يكن فقط ينتقد التجارة في الهيكل، بل كان ينتقد النظام الذي يربط الدين بالفساد السياسي والاجتماعي، حيث أصبح النظام الديني نفسه جزءًا من منظومة الفساد.
- الخاتمة
موقف المسيح من السلطة الفاسدة يقدّم نموذجًا فريدًا للعدالة الاجتماعية والرفض العميق للظلم. بينما كان المسيح يدعو للخضوع للسلطة عندما تكون عادلة، إلا أنه كان يرفض بشكل قاطع أيّ شكل من أشكال الفساد أو التواطؤ مع السلطة الظالمة. كان المسيح يسعى لتأسيس مملكة الله على الأرض، وهي مملكة ليست مبنية على الهيمنة أو الاستغلال، بل على العدالة والمساواة. وبالتالي، فإن موقفه من السلطة الفاسدة لم يكن فقط موقفًا روحانيًا، بل كان دعوة للإصلاح السياسي والاجتماعي، وتأكيدًا على أن القيم الإلهية تتناقض تمامًا مع الفساد والاستغلال الذي تمارسه السلطة.