مدّ يد المساعدة عمل خير و شهامة
د. الياس ميشال الشويري
تُعد هذه الفكرة “دور الشرّ في إدراك الخير”، من المفاهيم العميقة التي أثارت تساؤلات الفلاسفة والمفكرين عبر العصور. فالإنسان، بطبيعته، يميّز الأشياء من خلال الأضداد، ممّا يجعل الشر جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، ومن هنا قول الشاعر: والضدّ يظهر حسنه الضدّ. فهل يمكننا حقًا إدراك الخير دون وجود الشر؟ وهل الشر ضروري لفهم القيم الأخلاقية؟
- الشر كمعيار لتمييز الخير
أ-إدراك القيم من خلال الأضداد. منذ القدم، اعتمد البشر على المقارنة لتمييز المفاهيم وفهمها. فكما لا يمكننا إدراك معنى النور دون الظلام، كذلك لا يمكننا فهم الخير دون وجود الشر. لو افترضنا عالمًا يخلو من الشر، فلن يكون هناك معاناة، ولكن في المقابل لن يكون هناك إحساس حقيقي بالراحة أو السعادة. إن هذه الجدلية تجعل الشر عنصرًا أساسياً في تشكيل وعينا بالقيم الإنسانية.
ب-التجربة الشخصية وتأثيرها في التمييز. يكتسب الإنسان وعيه بالقيم الأخلاقية من خلال التجربة الشخصية. فمن لم يختبر الظلم، قد لا يقدّر العدالة، ومن لم يواجه الخيانة، قد لا يدرك عمق الوفاء. هذه التجارب الحياتية، رغم قسوتها، تساهم في نضوج الإنسان وتطوير قدرته على التمييز بين ما هو حسن وما هو سيئ. لذلك، فإن مواجهة الشر تجعل الإنسان أكثر وعيًا بمدى أهمية الخير وأثره في حياته.

ج-الشر كدافع للتحسين والتطوير. ليس الشر مجرّد عنصر سلبي، بل يمكن أن يكون حافزًا للتغيير والتحسين. فعندما يواجه الإنسان الشر، يسعى إلى تجاوزه وإيجاد حلول تقلل من تأثيره. على سبيل المثال، أدت الحروب والمجاعات إلى تطورات كبيرة في مجالات الطب والهندسة والإدارة، حيث دفعت البشرية إلى البحث عن وسائل جديدة لمكافحة الأزمات وتحقيق العدالة الاجتماعية. بهذه الطريقة، يصبح الشر محفزًا لتطور المجتمعات وتحسين جودة الحياة.
- الشر في الفلسفة والدين
أ-الشر من منظور الفلسفة. تناولت الفلسفة مفهوم الشر بطرق متعددة، فمثلاً، رأى الفيلسوف الألماني هيغل أن التناقضات ضرورية لتحقيق التقدّم، حيث إن وجود الشر يدفع نحو البحث عن الخير. أما الفيلسوف نيتشه، فقد اعتبر أن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على تجاوز الألم والمعاناة، مما يجعل الشر ضروريًا لصقل شخصية الإنسان. كذلك، يرى بعض الفلاسفة أن الشر هو جزء من النظام الكوني، حيث لا يمكن تحقيق التوازن بدونه.
ب-الشر في الأديان السماوية. في مختلف الديانات، يُنظر إلى الشر على أنه اختبار لإرادة الإنسان وحرية اختياره. ففي الإسلام والمسيحية واليهودية، يُعد الشر وسيلة لتمييز الصالحين من الطالحين، حيث يتم اختبار الإنسان من خلال مواجهته الصعوبات والمعاصي. كما أن وجود الشر يرسّخ قيمة التوبة والغفران، ممّا يمنح الإنسان فرصة لإعادة تقييم سلوكه والارتقاء بروحه.
ج-الجدل حول ضرورة الشر. رغم أن الشر يُعتبر عنصرًا سلبيًا، إلا أن التساؤل يظل قائمًا: هل يمكننا العيش في عالم بلا شر؟ البعض يرى أن القضاء على الشر بالكامل سيؤدي إلى مجتمع بلا معنى، حيث لا يمكن تمييز الفضائل. في المقابل، هناك من يعتقد أن الشر ليس ضروريًا، وأن المجتمعات يمكن أن تتطور عبر الخير وحده، لكن هذا يتطلب وعيًا متقدمًا وقدرة استثنائية على الحفاظ على القيم الأخلاقية دون الحاجة إلى نقيضها.

- الشر في الحياة اليومية
أ-التوازن بين الخير والشر في المجتمع. لا يمكن إنكار أن المجتمعات الإنسانية تقوم على توازن بين الخير والشر. فوجود قوانين وتشريعات تهدف إلى ردع الشر يعكس اعترافًا ضمنيًا بضرورة وجوده، حيث إن العدالة لا تُمارَس إلا عندما يكون هناك ظلم. لهذا السبب، تعتمد الأنظمة القانونية على فكرة العقاب، ممّا يعزّز أهمية التمييز بين الصواب والخطأ.
ب-أثر المعاناة في بناء الشخصية. الإنسان الذي لم يختبر الفشل، قد لا يدرك قيمة النجاح، ومن لم يعانِ من الفقر، قد لا يشعر بمدى أهمية الكفاف والعيش الكريم. إن المعاناة تساهم في تشكيل الوعي وتمنح الإنسان القدرة على التقدير الحقيقي للنعم. ففي النهاية، لا يمكن للمرء أن يشعر بالراحة إلا بعد تجربة الألم، مما يجعل الشر جزءًا أساسيًا من تجربة النمو الشخصي.
ج-مواجهة الشر وتحويله إلى فرصة. إن إدراك أن الشر ضروري لتمييز الخير لا يعني الاستسلام له. بل يمكن للإنسان أن يستفيد من مواجهة الشر لتحسين حياته وحياة الآخرين. فالشر، سواء أكان ظلمًا سياسيًا، أو فسادًا اجتماعيًا، أو جريمة، يخلق دافعًا لدى البعض للنضال من أجل العدالة وتحقيق التغيير. إن هذه المواجهة المستمرة بين الخير والشر هي التي تصنع الحضارات وتحدد مسار الإنسانية.

- الخاتمة
إن وجود الشر لا يعني بالضرورة أن العالم مكان سيئ، بل هو جزء من النظام الذي يسمح لنا بفهم الخير وتقديره. فلو لم يكن هناك شر، لما كان هناك مجال للنضوج أو التعلّم أو التغيير. يكمن التحدّي في كيفية التعامل مع الشر وتحويله إلى فرصة للارتقاء، بدلاً من الاستسلام له. لذا، يمكن القول ان الشر ليس غاية في ذاته، بل وسيلة تجعل الإنسان أكثر وعيًا بالخير، وأكثر رغبةً في تحقيقه.